أبو بكر القادري: عبد الرحيم بوعبيد الصحافي

بين يدي القارئ الكريم ستة وخمسون مقالا افتتاحيا لجريدة الاستقلال الأسبوعية التي كان يصدرها حزب الاستقلال، ويشرف عليها الإشراف الكامل، ويحرر مقالاتها الافتتاحية أخونا المرحوم بكرم الله الأستاذ الرائد السيد عبد الرحيم بوعبيد.
والمقالات المذكورة، كانت وستبقى مثيرة للإعجاب والتقدير من جميع الذين أتيح لهم قراءتها والاطلاع عليها، لا من حيث المواضيع التي كانت تطرق، ولا من حيث الأسلوب الذي تعالج به تلك المواضيع.
ولقد كانت شخصية الفقيد عبد الرحيم بوعبيد تتجلى واضحة فيما كان يحرره قلمه الفياض، وأسلوبه البارع في التشخيص، ووطنيته الصادقة في التعبير، وفكره الناضج في الإقناع، وحيث إن الجريدة أانشئت أساسا لمخاطبة الرأي العام الفرنسي في الداخل والخارج، فقد نهج عبد الرحيم في كتابته نهج القائد السياسي المحنك الذي عرف كيف يخاطب الرأي العام الفرنسي بالأسلوب والطريقة اللتين تؤثران عليه، وتنفذان إلى أاعماق فكره، وتفحمان المغالين الاستعماريين الذين يعملون على تشويه الحقائق وإظهارها بغير ما تهدف إاليه، فكانوا يصورون لأبناء جلدتهم، صورة الحركة الوطنية المغربية كحركة مخيفة، ويشوهون النوايا الصادقة والمخلصة لما تهدف إليه، من إيجاد مناخ صالح، وتفاهم صادق لتحقيق ما يطمح اإليه الشعب المغربي من حرية حقيقية، وإصلاحات عميقة، تزيل كابوس الاحتلال، المكمم للأفواه، والقامع للمواطنين، وتفتح الطريق لخلق تعاون صادق بين المغرب وفرنسا. يضمن تمتيع المغاربة باستقلالهم وحريتهم، ويضمن للفرنسيين الحفاظ على مصالحهم المشروعة، التي لا تتصادم مع سيادة الأمة المغربية وكرامتها، التي يجب أن تبقى دائما مصونة، يقول عبد الرحيم في افتتاحية العدد الأول من جريدة الاستقلال بالحرف: (مهما كانت التطورات المقبلة اللازمة، فإن إرادتنا في التوصل إلى اتفاق بين المغرب وفرنسا، تظل قوية وراسخة، فنحن لسنا من الدعاة المتعصبين لوطنية متجاوزة، ولم يسبق لنا أبدا ان ادرجنا ضمن برنامجنا إلقاء الفرنسيين في البحر، ولدينا وعي واضح بحاجة كل الأمم في الظرفية العالمية الراهنة، إلى العيش في نظام من الترابط على المستويات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية).
إن الفكرة الاساسية التي يدعو اليها الفرنسيين لتحقيق الاهداف الوطنية، والتي تتجلى في كل تحليلاته ومقالاته: هي الدعوة إلى لغة الحوار والتعاون، بدل التعنت والضغط والارهاق، ويذكرهم دائما بأن قرن الغزو الاستعماري للبلدان الضعيفة، قد انتهى دون رجعة، وان المفاهيم السابقة للحرب التي تجري الان يجب ان تمحى من العقول والافكار، لتحل محلها مفاهيم جديدة، لا تتنكر ابدا لرغبات الشعوب في الحرية والانعتاق.
فالعلاقة بين الشعوب كيفما كانت قوية او ضعيفة، اوروبية او غير اوروبية، لا يعقل ان تبنى على اساس سيد ومسود وحر وفاقد للحرية، بل يجب ان تبنى على اساس من التعاون الوثيق المبني على الحق والانصاف، واعطاء الحقوق، كل الحقوق، لاصحابها والمبادئ المثلى التي ناضل من أجلها المناضلون وجاهد في سبيلها المجاهدون في كثير من الاقطار، والتي أعطت فرنسا المثل في الدفاع عنها فيما كتبه وخطب به ادباؤنا اللامعون وزعماؤها الاحرار، يجب ان لا يغطى بالتضليلات، والاكاذيب التي تقوم بها الفئات الاستعمارية التي ابتليت بعض الشعوب بوجودها بين ظهرانيها.
لقد أكد فيما كتبه و حرره من مقالات ان الفرنسيين يفخرون بانهم دعاة الحرية والمساواة بين الشعوب على اختلاف اجناسها وألوانها ودياناتها، ولكنه أكد أيضا انه يجب ان لا تكون ادعاءاتهم مطلق كلام، لا مدلول له في الواقع الملموس، فالمقياس الحقيقي لصدق الاقوال، هو التطبيق الواقعي لما يدعون انهم دعاته، ونحن نشاهد ونعيش في بلادنا اوضاعا تتناقض التناقض الكلي مع ما يتفوهون به. ان الوقوف ضد مطامحنا المشروعة في الحرية والانعتاق يؤكد ان ما يتفوهون به بالنسبة الينا ولمن هم في مثل اوضاعنا، يظهر ان هناك تناقضا سافرا بين ما يقولون وما يفعلون، وان ما يصرحون به مجرد تضليل، ومطلق كلام عار من الصدق والانصاف والعدل. فمهما كتبوا في دساتيرهم وحرروا في مواثيقهم من تعلق بمبادئ الحق والعدالة والمساواة، انهم يطلبون منا ان نكون معم وبجانبهم في كل الظروف، ولكننا نصارحهم بأن تعاملنا معهم ووقوفنا بجانبهم، لا يكون صادقا الا اذا اعترفوا لنا بحقنا في الحرية والاستقلال.
بمثل هذا المنطق، كان المرحوم عبد الرحيم بوعبيد يتعامل مع الفرنسيين، فلا يقبل ادعاءاتهم كما فعل غيوم المقيم العام الفرنسي عندما قال: »ان فرنسا هي التي اعلنت مبادئ 1789، ولكنه يجيبه قائلا: نعم ولكنكم الذين دستم بالاقدام حقوق الانسان التي كان اجدادهم يدافعون عنها، فالمظالم التي يعاني منها شعبنا والاضطهاد والتعسف اللذان يعاني منهما الفلاحون الذين ارهقتهم الضرائب ثم اغتصبت منهم اراضيهم، فاضطروا تحت عامل القهر والاضطهاد ان يهاجروا إلى المدن، ليبحثوا عن لقمة. عيش لهم ولابنائهم الذين شردوا افظع تشريد، ان هذا وما يماثله لا يعطيان الدليل على التمسك بالمبادئ التي قامت من أجلها الثورة الفرنسية سنة 1789 بل بالعكس من ذلك يؤكد ان اصحاب هذه الدعاوى تنكروا لمبادئهم التنكر المخزي، وصارت اقوالهم وادعاءاتهم تناقض افعالهم.
يقول عبد الرحيم مامعناه: ان الفرنسيين الذين نستمع إلى اساتذتهم يتحدثون من اعلى كراسيهم في الجامعات، يخاطبون عقولنا وقلوبنا ويعلموننا مبادئ انسانية كونية، نجد فيها انسيتنا الخاصة وقيمنا الخالصة« ليسوا بالطبع هم الذين يحكموننا ويتحكمون في مصيرنا، ويتنكرون لكل المبادئ التي ناضل من اجلها مفكروهم الاحرار.
لا استطيع في هذه العجالة ان اتعرض لكل الافكار التي وردت في المقالات الافتتاحية التي حررها عبد الرحيم بوعبيد لجريدة الاستقلال، ولكني مؤمن كل الايمان ان المنطق الذي كان يتحدث به، والاسلوب المقنع الذي كان يستعمله، يعطي صورة عن وطنيته الصادقة من جهة، وحزمه ونضاله المستميت في الدفاع عن قضايا بلاده من جهة أخرى.
ومن أجل ان ندرك تمام الادراك الاهداف التي كانت ترمي اليها كتاباته، لا بدا ان نرجع إلى الظروف التي كتبت فيها، والحالة التي كان عليها المغرب اذاك.
فمن المعروف ان المغرب كان يعيش ازمة خانقة منذ تولي الجنرال جوان الاقامة العامة الفرنسية بعد اقالة المقيم العام اريك لابون واثر رحلة صاحب الجلالة الملك المنعم سيدي محمد الخامس إلى مدينة طنجة، في ابريل 1947.
فقد كانت مهمة جوان الاساسية في نظره ونظر حكومة فرنسا التي عينته، هي تطبيق برنامج خاص من شأنه ان يفقد المغرب كل وجوده وسيادته، ويدرجه طائعا او مكرها في الوحدة الفرنسية التي يعقد معها شخصيته الدولية والمعترف بها في القانون الدولي العام.
وأول ما كان يهدف اليه جوان هو صد المغاربة ملكا وشعبا عن فكرة الاستقلال ونزع السلطة التشريعية من يد صاحب الجلالة الملك وتغيير نظام البلديات باشراك الفرنسيين قانونيا فيها واعطاء مجلس شورى الحكومة الذي كان بيد المعمرين وأرباب رؤوس الاموال الفرنسيين صفة المجلس النيابي الذي له حق التقرير إلى آ خر البرنامج الخطير الذي أتى به، والذي قاومه جلالة محمد الخامس وحزب الاستقلال بكل الامكانيات التي كانت لدينا اذاك.
ولقد اشتدت الازمة بين الحزب وجلالة الملك من جهة والاقامة العامة من جهة أخرى، تطورت عدة تطورات، وقدمت فيها عدة مذكرات، سواء من طرف جلالة الملك او من جانب حزب الاستقلال.
وأمام تصلب الإقامة العامة ضد مطالب الشعب المغربي، واستعمالها لوسائل الضغط والارهاب والسجن والنفي والابعاد، واستخدام وسائل الدعاية التي كانت تملكها ضد الملك والحزب، والدفع بالخائن التهامي الكلاوي للقيام بحركته العدائية ضد الملك والشعب، وطرد الاعضاء الاستقلاليين من مجلس شورى المقيم وأخيرا تهديد الملك بتنحيته من عرشه في المقابلة التي كانت بينه وبين جوان، والتي طلب منه فيها التبرؤ من حزب الاستقلال وتطبيق البرنامج الذي كان يريد تطبيقه والذي أشرنا إلى بعضه قبلا ثم تطويق القصر الملكي بالجيش الفرنسي إلى آخر ما وقع من أحداث خطيرة سواء في عهد جوان أو في عهد الجنرال غيوم الذي أتى بعده، إلى أن بلغ السيل الزبى بإلقاء القبض على أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب وتقديمهم للمحكمة العسكرية بتهمة التآمر على سلامة الدولة، ثم نفي محمد الخامس إلى كورسيكا ونتسيرابي وقيام حركة المقاومة التي قلبت الأوضاع، وأجبرت السلطات الفرنسية على الاعتراف بالاستقلال.
في هذا الجو المشحون بالأحداث المتعاقبة، والمؤامرات المدبرة، كان عبد الرحيم يحرر مقالاته المذكورة، والتي كان يبين فيها – كما ذكرت من قبل – عن دهاء سياسي وأسلوب حكيم في الخطاب، لا يتنكر للمبادئ، ولا يذهب مع العاطفة المتأججة.
ولكي ندرك تبصر عبد الرحيم في ما كان يكتبه ويحرره، نلاحظ أن آخر ما كتبه في افتتاحية الاستقلال الصادرة بتاريخ السادس من دجنبر 1952، وهو اليوم الذي يأتي بعد اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد بتونسي، تحدث فيه وكأن الأحداث التي تجري لم تتغير عما سبقها،فقد تناول القضية الفرنسية وعرضها امام اللجنة السياسية للامم المتحدة، فكان من جملة ما قال:
لقد خلق تدخل السيد محمد ظفر الله خان وزير الشؤون الخارجية الباكستاني في رأي الجميع، انطباعا قويا، فقد وضع مندوب باكستان اولا المناقشات في اطار مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والمبادئ المثبتة في الدستور الفرنسي نفسه، والنبرة المعتدلة والهادئة للخطيب، وحرصه الواضح على ايجاد حل مطابق لروح العدل، ولكن مع اخذ معطيات المشكل بعين الاعتبار وعلى الخصوص ضرورة ضمان المصالح الفرنسية بتونس، كل هذه العناصر لا يمكن إلا أن تكشف عن الطابع السلبي والمطلق للموقف الفرنسي، وهكذا نرى انه يريد أن يستفيد من جميع المعطيات التي وجدت، ليرد على الخصوم والمتشددين بنفس الطريقة التي نهجها في كل كتاباته، والمتسمة بالحكمة والتبصر ومحاولة إقناع الخصم بالاسلوب اللائق.
ومن المحقق أن عبد الرحيم كتب هذا المقال الأخير قبل اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، ولذلك كان خطابه بالشكل والأسلوب اللذين ظهر بهما، إلا انه يتخذ موقفا قويا وصلبا عندما يبلغه خبر اغتيال فرحات حشاد في تونس، فيدخل علينا ونحن في ادارة الحزب بزنقة دويلوايي بشارع تمارة، وهو هائج قائلا: لا بد من اتخاذ موقف صارم من طرف الحزب ضد الاعتداء الصارخ على تونس فنتبادل الرأي مع بعضنا البعض نحن أربعة او خمسة اشخاص من أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب، ونتخذ قرار الدعوة إلى الاضراب العام تضامنا مع تونس، وأُكلف بتحرير الخطاب الذي وجه إلى فروع الحزب للاعلان عن الاضراب العام يوم الثامن من دجنبر 1952 ويحمل هذا الخطاب في ذلك المساء نفسه بعض الإخوة الوطنيين إلى الفروع الاساسية ليعملوا على تنظيم الاضراب، وبعد يومين على تنفيذ الاضراب يلقى القبض على أعضاء اللجنة التنفيذية، ومن ضمنهم عبد الرحيم بوعبيد وتأخذ الأزمة طرقا أخرى يطول الحديث عنها.
رحم الله أخانا عبد الرحيم الوطني الصلب، والسياسي الحكيم، والمفكر البعيد النظر.
من كتاب عبد الرحيم بوعبيد:شهادات وتأملات


بتاريخ : 08/01/2019

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

جيد أن تبحث عن ملاذات في أقاصي نيوزيلندا، لكن، أن تحاول تشييد حضارة جديدة على جزر عائمة، فذاك أفضل! إنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *