أحمد المجاطي: أفق الشعر المغربي .. ( بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين على رحيله)

 

(1)

إذا كان الشعر المغربي المعاصر وليد إرهاصات ثقافية وفكرية، اجتماعية وسياسية، فإن منجزه يُنبىء بوجود ذاكرة شعرية مُتأصّلة في الثّقافة المغربية، والرّاجح أن أي إبداع، وجوده كامن في ذاته، وفي صِلَتِهِ بالآخر المشرقي، ذلك أن روافد الشعر المغربي المعاصر تختلف مجاريها الفكرية والمعرفية، كل هذا أسهم في إثراء ذاكرة النّصّ الشّعري، وحفّزَ الشعراء على اجتراح مسالِكَ مُسْتَحْدَثَةٍ في الكتابة، وتخصيب تجاربهم برؤى شعرية تتجاوز الكائن النصي، بخلق نصّ شعري مغاير.
من هذا المنطلق فهذا الشعر يطرح الكثير من المداخل لقراءته وسبْر أغوار عتماته، وإضاءة المناطق الملتبسة والمتشابكة، فالكثير منه لم يتداول نقديا، رغم أهميته وقيمته الجمالية والفنية، لكن يبدو أن الذائقة النقدية بالمغرب، استلذّت الذهاب نحو أجناس أدبية أخرى، وما محاولتنا هاته سوى مساهمة متواضعة في الْحَفْرِ في أرض الشعر المغربي، والسّعي نحْو نفْض غبار النسيان عن الكثير من التجارب الشعرية المغربية، قصد تقريبها من القارىء. والواقع أن الشاعر المغربي أحمد المجاطي، الذي صادقتُ تجربته الشعرية قرابة نصف قرن تحتاج إلى أكثر من قراءة. كلما أعدت قراءته اكتشفت في منجزه جماليات شعرية بوعي شعري جدير بالتأمّل ، وهذا ما يكشف أصالة تجربته، وزخم متخيّله المُسْتَلْهَم من ذاكرة شعرية لها آثار جلية على مساره الشعري والنقدي.

(2)

إن اللافت، في تجربة المجاطي، هو الفهم المُدْرك لأهمية الشعر في الوجود، ودوره في استعادة إنسانية الإنسان، دون ابتعاده عن الانشغالات المجتمعية، أي جعل الشعر ذات رسالة أو مقصدية بحمولة جمالية، ونعتقد أن المجاطي قد حقّق نوعا من التّفاعل بين الخارج النصي والداخل النصي؛ برؤية تؤسّس لمشروع شعري سِمَتُهُ التَّحوُّل والتَّغيُّر. فالإبدال الشعري عنده لا يعني التمرّد المُفْضي إلى الالتباس، وإنما مؤَطّر بالمعرفة البلاغية الأصيلة، ووفق تصوّر يمزج بين المعطى النصّي والمعطى الدلالي المُستجيب لأفق انتظار المتلقي، لقد ظلّ في حدود ماسمّاه هو بالنَّفَس التَّقليدي، وهذا لا يعني الركون إلى المتداول، الذي يجعل النص الشعري عديم الحياة، ممّا ميَّز تجربته بالجموح نحْو التجديد، وإبداع لغة متوهجّة، موحية ومبصومة بالغموض الفني المدهش، وهنا تتجلى عبقريته الشعرية المنبثقة من عمق التجربة والإحاطة الشاملة بالتراث العربي، وبتحولات الشعرية العربية،من خلال ابتداع نص شعري التماسك والنسج والاتساق والانسجام من تجلياته البنائية.
فسِمْتُ المجاطي خلْق نصّ نابض بحرائق الذات المتشظية وبأسئلتها العميقة، وبمجريات الواقع بامتداداته الجغرافية الممتدة من ماء المحيط إلى ليل الخليج والتاريخية بانعطافاتها المفاجئة، ولعلّ في هذا التّشابك بين الذاتي والموضوعي تكمنُ شعرية المجاطي، وفي هذا الإطار لابد من تأويل تجربته انسجاما مع السياق العام المحيط بها، الأمر الذي يتطلب الأخذ بعين الاعتبار هاته الحيثيات ، لتخطي بعض الالتباسات ، والنجاة من الوقوع في فخ الإسقاطات التأويلية والأحكام المُسْبَقة، التي تُحمّل التجربة أكثر من طاقتها، وهذا ما لاحظناه في بعض المقاربات التي تناولت تجربة المجاطي الشعرية، إذ تمّ شحنها بالكثير من التآويل البعيدة كل البعد عن القراءة المتأمّلة والواعية بدورها في إضاءة التجربة، فالمشترك بينها هو حصر هذه القراءة في الجوانب المضمونية والشكلية، مما غيّب الجوانب الجمالية – التي في اعتقادنا تشكّل عصَب العملية الإبداعية المُثوّرة للخطاب الشعري وجمالياته .

(3)

فذاكرة النص المجاطي جمّاع للماضي والذات بتجربتها الوجودية والإبداعية، ولمتخيل ثقافي واجتماعي وشعري، ولغة تمثل «بيت الوجود» بتعبير مارتن هايدغر، فهي مستودع هوية شعر الشاعر، وبدونها لن يتحقق للنص كينونة تتشرّب من روافد ممتدة في « الذاكرة الأزلية». وعليه يمكن القول إن التاريخ والسيرة الذاتية والجماعية، وذاكرة الذات عوامل تخصّب أي تجربة وتشرع أمامها اللانهائي والمجهول ، وهذا المعطى حاصل عند المجاطي. فذخيرته الشعرية مستلهمة من التاريخي و السيري، الشعري والإبداعي، أي المزاوجة بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية؛ مستثمرا لغة شعرية تبتكر جمالها من غوامض الذات وارتجاجات الواقع، وتنصت لصوتها الداخلي وتعْجن صدى الخارج بعجينة المتخيّل، مما يخلق المتعة والرغبة لاقتحام المغيَّب والمنسي في كينونة القصيدة، كما تقوم تجربته على علاقات التوتر والصراع، لأن الذات ترغب في الانفلات من واقع الخيبات والانكسارات إلى واقع أكثر تحررا من ليل السقوط والانهيار، أكثر تكذيبا للرؤيا التي لن تحمل غير الصمت والموت والهزيمة يقول: (كذبتِ يا رؤيا/ طريق الصّمت لا تُفضي/ لغير المقبرة/ رأيتهم مرّوا بلاعمائم / تفرقوا عبرَ لبدروب…) إنه التيه الذي خيّم على الذات والوجود، والضياع الذي التهمها في صحراء الهزائم، فالرؤية كارثية تعبّر عن المآل الوجودي المفعم بالبوار التاريخي والحضاري.

(4)

إن النص الشعري عند المجاطي نسيج لوحده، محبوك بلغة شعرية عمادها الاستعارات التي تُضمر حياة الكلمات، وتوسّع دلالاتها وتبئّر خطابها، فالطاقة الإيحائية جوهر لغته الشعرية، وبها تمكّن الشاعر من خرق المألوف متجاوزا إياه بالخارق في بناء الجمل الشعرية ومنحها حياة جديدة، عبر التخييل الذي يعتبر» الطاقة الداخلية المنتجة للتوهم أو التوقّع بكل توابعها البلاغية من المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه. وتتجلى أهمية هذه الركيزة في أن الفارابي أعطاها قدرة إنتاج الشعر « دون أن تفقد شعريته المعنى، على اعتبار أن المجاطي يمزجهما في سبيكة منحوتة بإزميل البناء المحكم والدلالة الجانحة صوب الغموض ذي القابلية الممكنة. لكنّ الذي يزيد من وهج الجمال الفني قوله 🙁  الكلمة الصغيره/ تقال/ أو تخط/ فوق الماء/ تمشي بها الرياح/ وتبُثّها الرمال / في الصحراء) من تخوم القول النابض تحوّلا تولد الكلمة وتتمدّد سواقي يانعة بظلال الماء، وتغدو لواقح تخصّب المعنى وتحيي يباب الوجود، تلك سيرة الشعر لدى المجاطي التي تكتب تاريخ الذات، وتشكل وعيا شقيا يزيدها اغترابا ونفْيا في عالم مديني شبيه بغابة كثيفة الأدغال، وموحشة في مساربها المتشابكة. فالقصيدة دَغَلٌ مُلتبس، غامض، جانح وجامح، يحمل في جوانيته كثافة المعاني وطزاجة الألفاظ، وفيها تبدو مملكة الصمت مُسوّرة بأحلام المرجفين المنهارة والخائبة، فالنّفَس المأساوي يشكّل بؤرة شعرية المجاطي، مما يدل على التجربة الشعرية عنده ديدنها مراودة الذات والواقع وتصييرهما في تشكيل شعري نابض بجمال اللغة وعمق الرؤية المنبثقة من حدس المكابدة. فمعالم الصمت الدال على الهزيمة جلي في الخطاب الشعري، وجنون الضوء إحالة ضمنية على سوداوية الواقع مادام المآل الموت والانكسار الشاهد على فداحة الأمر، ولعل تكذيب الرؤيا تعبير بيّن عن غياب الكينونة المفتقدة يقول: ( رأيتهم مرّوا بلا عمائم/ تفرّقوا عبرَ الدروب/ أطفأوا سيوفهم تفرّدوا على ظهور الخيل / صاروا كالضباب الجون…) .فبين الرؤية والصيرورة تقف الذات متشظية، منذورة للخيبات، فالتيه والسيوف الخامدة والضباب الجون مدونة معجمية تفيض بدلالات المأساة وتشظي الذات والزمن والمكان، ذلك أن الذات الشاعرة تؤمن يقينا برؤية كارثية تناصر البوار السَّاري في مفاصل أحلام جيل آمن بغد مشرق بالآمال والأماني، لذا نعثر على اللغة الشعرية جريحة؛ تنزف تاريخ مجتمع ثابت ومتكلّس، وحضارة تتلاشى بفعل الاجترار، غير أنها لغة قريبة المأخذ، بعيدة المنال وعصية على الإدراك، ولا يقبض عليها إلا بامتلاك بصيرة تفكّك وتُشَرّح المعاني المخبوءة في باطن القول الشعري، والمضمرة في مغالقه، والمجاطي مالك زمام لغته إذْ يَضُخّها بروح شعرية جديدة تُخصِّب مدلولاتها، وتخلق المختلف مبنى ومعنى، فالحياة في شعره مزيج الحلم والفكر والعالم المحيط- بتعبير أدونيس- لذا نجد المجاطي مهووسا باللغة الشعرية والاشتغال عليها، والرسالة الشعرية ، إذ يعتقد أن غياب وظيفة للشعر يفقده قيمته وجدواه، دون إغفال الجوانب الإيقاعية التي تزيد التجربة الشعرية غنى جماليا، فمن مهامّ الشّعر إحداث الفجوات لتكون جِسْرا بين النص والقارىء حتى يتحقق التفاعل والتماهي بينهما، وأيضا يشرع أفقا لمعرفة السرائر، وطريقا يسيرا لاقتحام العوالم المخفية في الذات والوجود، و ابتداع عوالم ساحرة ومذهلة، في حين نجد الزمن مُفكّكا كاشفا عن أعطاب التاريخ و عتمة الجغرافيا العربية، هو زمن الانهيارات المتتالية والمتكالبة على حضارة العرب. لكن الذي يعمّق الرؤية الكارثية هذا الاحتفاء بأمكنة له دلالات تاريخية وحضارية ( دار لقمان/ دمشق/ الدار البيضاء/ فاس/ القدس/ طنجة/ الخمارة….) ومن هنا نعتبر الشاعر المجاطي من الشعراء الذين زاوجوا بين الرؤية كتجسيد لماهو قائم في الواقع؛ والرؤيا كتجلّ لعمق التبصّر و التملّي في الذات كحمولة وجودية ونفسية ، وفي الكون ككتاب مفتوح على ذاكرة الإنسان منذ وجوده.

(4)

ما يميّز التجربة الشعرية عند المجاطي كونها تنهل من التراث العربي والإنساني؛ ولعلّ ما يثوّر جماليات الوعي الشعري عند الشاعر، انفتاح النص المجاطي على الأساطير المنبثقة من صلب الثقافة العربية، وليس مستجلبة من ثقافة أخرى، وهنا مكمن أصالة الشاعر، فقد استثمر أسطورة البعث في قصيدة « كبوة الريح» وامتص قصة الطوفان في قصيدة « السقوط» للتعبير عن موقف الرفض، بأسلوب شعري نلمس فيه الجدّة الخَرْق، كما نجده يستدعي رمز «خف حنين» الذي يحيل إلى الخيبة والانكسار قد تم توظيفه بطريقة فنية زادت من إضاءة هول الكارثة التي تطوّق الذات بحمولاتها المفجعة يقول 🙁 ومرّت حِقبة وتَصَرّمت أخرى/ ونحن ندور/ ذَبَحنا الضّبّ منْ سَغَب/ ونِمنا في ظلال الشيح/ وما عَزَفت لنا الأوتار/ غير قصائد من ريح/ فدَوّمْنا/ ومرّ بِرَكْبِنا المُنْبتّ/ يمضغ عَظم ناقته/ وفي عينيه خُفُّ حُنين..) . دون نسيان التوظيف الذكي للتاريخ الذي حوّله إلى مرآة تعكس حقيقة الذات في مواجهة مصيرها الوجودي، ولعل قصائد المكان ( ظهر المهراز/ طنجة/ سبتة/ الدار البيضاء/ دمشق/ الخمارة / وادي المخازن/ إكزوديت) تشكل وعيا جماعيا زاخرا بأحداث،و وقائع شكّلت منعطفا حاسما في كتابة تاريخ مجتمع يسعى للانعتاق من الواقع المدلهم؛ لمعانقة صبح الحياة. وهاته القصائد تجسير لما يجمع هذه المدن المنكوبة، المحتلة، المنتصرة، المهزومة، من مشترك حضاري وتاريخي، مما يعطينا الحق في القول إن المجاطي من الشعراء القلّة الذين بصموا الشعرية العربية بكل ما هو محدث وأصيل.

(5)

لابد من الإشارة إلى إسهام أحمد المجاطي المعداوي في تثوير النقد العربي، من خلال كتبه كـ « ظاهرة الشعر العربي المعاصر» و» أزمة الحداثة العربية» فهما على الأقل لعبا دورا مُهمّا في إضاءة الشعر العربي إضاءة أزالت الغشاوة عن كل عين كليلة في الرؤية والتصوّر، عينٌ قد تتغاضى على الحقائق وتُلفّق الأباطيل لشعر تعرّض لقراءات مُبْتَسرة وعقيمة. والواقع أن المجاطي، وهو المنخرط إبداعا ونقدا، حاول تسليط الضوء على بعض التصورات الحداثوية التي تنتصر للتجاوز، غير أن المجاطي تمكّن من أن يضع الإصبع على مكامن أعطاب الحداثة الشعرية العربية، كاشفا عن الهنَّات المتجلية في الإيقاع وبنية اللغة واستعمال الأساطير ، وكون قصيدة التفعيلة لم تستطع خلق إيقاعها الشعري، لأنها ظلت ملتصقة بالإيقاع الخليلي، ومعيدا المكانة لشعراء كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ، ومنتصرا لتجارب خليل حاوي والسياب ونازك الملائكة وغيرهم.

(6)

إن الأفق الشعري، الذي أبدعه الشاعر أحمد المجاطي، يجب أن يطرح على النقاد المغاربة أسئلة جديدة في مقاربة النص الشعري المغربي خاصة والعربي عامة، بآليات جديدة تستدعي التحولات المعرفية والفكرية والثقافية، التي جاءت بفعل هيمنة عولماتية بمنتوجاتها التكنولوجية والتقنية ذات الوسائط المختلفة، فاليوم من المستحيل أن نَنْقُدَ نمطا إبداعيا بأدوات مصابة بصدإ معرفي وبفيروس التكرار والاجترار، وإلا سقطنا في فخ التقليدانية الجديدة.
ومن أبلغ ما قاله الشاعر المجاطي، و الذي مازال يُحيّرني ويُدْهِشُني ، ويَدْفَعُني إلى مغامرة أخرى لارتياد بلاغته الشعرية الموغلة في الإبداع الخالق والخارق يقول:
( صديقتي/ أحسّ أنّ في دمي بُكاء/ وأنّ كلَّ معْبَرٍ إليك كلّ ألِفٍ وَبَاء/ تمزَّقَ الْمِسمار في نسيجه/ وأنتِ بيْن أَذرُعِي نداء…)


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 18/10/2019