أوراق من سفر فات … رحلة إلى البرازيل -14- خوسي فاريا الرائحة المفقودة دوما

كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني.
السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة.
السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات.
أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية.
في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة.
لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد…، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.

 

على أبواب سجون ساوباولو، والبناية السرمدية التي التفتت إليها تلك السيدة الوقور، كان مانديز، الإطار الوطني، يرسل إلينا إشارات الاطمئنان، رغم أن سدتنا العالية بالله، قد نصحتنا عبر ميكروفون مبحوح، أنه يتعين علينا ألا نحمل جوازات السفر ولا ساعات اليد، أما “الفلوس” فعلى قدر الإمكان ولو أنها كانت دوما على ذلك القدر من العفاف ومن ضيق الجيوب…نزلنا من »الباص« ونحن على أبواب الفندق الذي سنقيم فيه، ودخلناه ونحن نحمل أثقالا وأحلاما وأفراحا ومتمنيات، وشاءت لعبة الأرقام أن أكون في غرفة مع الصحفي المخضرم والإذاعي الرائع سي المهدي إبراهيم. ومع سي المهدي إبراهيم بلكنته الأمازيغية التي تعزف على اللسان والإيقاع البسيط، للاستماع والاستمتاع، سبحنا عبر مونولوغات قاسية، لدرجة أن سي إبراهيم سبني بلغته الرائعة، حين وجدني أقرأ كتابا حول البنيوية عند “دوسوسير” والخطوات الأولى التي أسسها من أجل قراءة النص الأدبي، وأعتذر في هذا المقام لأستاذي الرائع المتمكن السيد محمد البكري ابن بلدي. الذي علمنا أولى حروف السيميائيات التي مازالت تسكن قلقنا اللساني، واعتذر له في هذا المقام أيضا، لأنني لم أفتح أبواب المعرفة لأتفقه في علم فقه اللغة!!!

لم نجد صعوبات كبرى في التأقلم مع عوالمنا الجديدة، لأن الوجوه والألوان في عوالم البرازيل تتشابه، فاللون البني الدافئ يستقيم مع القادمين والمقيمين…
كان الحي الذي يوجد فيه الفندق الذي نقيم فيه، مليئا بالحانات والأماكن الفسيحة وبالمطاعم التي تستجيب لرغبات القادمين، وكانت الليالي الخاصة التي كنا نصنعها بلمسة خاصة بعد العودة من الملعب الذي يحتضن المباريات، مطلبا جماعيا بدون استثناء. فلقد شكلت معظمها لحظة للنقاش والاستئناس ولتبادل الأفكار والرؤى.
على أبواب الملاعب، وفي الطرق المؤدية إليها، تجد في كل الأمكنة وفي كل المساحات ملاعب خضراء بمقومات الكمال، كما تجد المئات من الأطفال المبشرين بجنة الأداء العالي، وعلى أبواب الملاعب أيضا، تجد أسواقا خاصة على هامش المباراة، أسواقا محترفة في تسويق الهوامش، الأكل، الملابس، أجواق موسيقية تتغنى بإيقاعات “الصامبا”، أجواء احتفالية رائعة بعيدة عن العنف والعنف المضاد، فالبرازيل والبرازيليون يمجدون في كرة القدم قديسهم الأول، في رسم الاحتفال المفقود والمبحوث عنه في دواخل الإنسان المتألم، الباحث عن الجنة التي تصنعها الأقدام الذهبية، فذاك عزاؤها الوحيد.
رافقنا الرجاء في مبارياتها الأولى والثانية والثالثة، كان المطر يغطي المساحات لكن ظل هاجس الأداء، وحده، يحكمنا جميعنا، خاصة أن هذا الأخضر القادم من إفريقيا. كان مطلوبا منه أن يفي بالتزامات الإبداع.
وقد كان الخضر في مستوى مهمة صناعة الإبداع، بلمسات فنية فائقة الدقة والتمريرة، صنعوها في لحظات متألقة أمام عمالقة الكرة وتحديدا أمام ريال مدريد، لقد اكتشفنا وقتها أن الكرة المغربية هي في مصاف درجات التألق، واكتشفنا وقتها أن اللاعبين المغاربة لا يقلون أداء وفنية ودهاء ولمسة عن صناع الإبداع الكروي، وذاك سر من أسرار تألق الراحل خوسي فاريا الذي استطاع أن يكون باحثا بارعا في البحث عن مرفولوجيا التألق، هناك على حال قدر ما في صناعة النجاح…


الكاتب : عبد الرزاق مصباح

  

بتاريخ : 17/07/2017