أوراق من شجرة الشاعرة والروائية فاتحة مرشيد الطفلة التي نضجت في الغياب . .الحاج إدمون عمران المالح : الورقة 16

قد يتساءل قراء الشاعرة والكاتبة فاتحة مرشيد وهم يقرأونها: هل هي حقا ما تكتبه أو ما لا تكتبه؟ ماذا يخفي هذا الإيغال في الجرح والحزن الشفيف الذي ينضح من كل كتاباتها؟
في هذه الأوراق من شجرة الكاتبة فاتحة مرشيد، ستسقط الأوراق تباعا ولو أننا لسنا بخريف.. سنتبادل الأدوار لننصت نحن القراء لبعض من وجعها الخفي، حبوِها الأول، لطفولتها الصعبة، للخبايا التي تنزوي خلف الابتسامة العريضة التي لا تغيب عن محياها، للبراكين التي اعتملت داخل هذا الهدوء الذي يشي به الخارج.
لننصت إذن ونحن نقرأ فصول حكايتها الحقيقية، إلى الأصوات التي تنبعث من غرفها المظلمة والمضيئة، فربما يرسم كل منا صورة مغايرة لما كوّنه عنها من قبل، أو يتعرف على جانب خفي من شخصيتها.

ما أجمل أن تحفك الأقدار بعناية خاصة وتقودك الى منابع الضوء في كل مرة تستبد بك العتمات وتمسك بتلابيب الروح.
والحزن يعبّ من مسام فاتحة مرشيد فرح الحياة بعد وفاة الوالد، انتشلها ذات يوم رنين هاتف لم يكن متوقعا. حملت السماعة لتجيب. صوت خافت وهادئ على الخط يجيب: أنا إدمون عمران المالح.
لم تصدق الشاعرة أذنيها هي التي لم تلتق به يوما .كانت تسمع بالاسم وتعرفه من خلال صيته في الوسط الأدبي فحسب. لم تكن تنتظر اتصالا من كاتب وصحفي ومناضل من عياره.
قال إنه اتصل من أجل شكرها على ديوانها «أي سواد تخفي يا قوس قزح» الذي تفاعل معه بشكل خاص وهو ما لم يحدث له منذ مدة طويلة، وأن قصائدها تذكره بقصائد صديقه الشاعر الإسباني الراحل خوسيه أنخل بالنتي. Jose’ Angel Valente
لم تتمالك فاتحة دموعها، بكت بسعادة. لم تكن تنتظر اعترافا دافئا كهذا هي التي كانت تعيش لحظتها صقيع غربة في الروح بعد رحيل مرشدها، ليدعوها في نهاية المكالمة إلى وجبة غذاء ببيته بالرباط.
كان الاتصال الهاتفي بداية صداقة عميقة بين الاثنين استمرت أربع سنوات قبل رحيل إدمون في 2010.
«استضافني ببيته بالرباط، لتتلو ذلك لقاءات أخرى تكاد تكون أسبوعية أحيانا. كنت أذهب إليه من الدار البيضاء وأقله بسيارتي إلى مكان مفضل لديه على شاطئ الهرهورة يدعى « la felouque  «
كان إدموند أستاذا للفلسفة بالدار البيضاء قبل أن يرحل سنة 1965 إلى باريس حيث عمل صحافيا بجريدة لوموند. بدأ كتابة الرواية وعمره آنذاك ثلاثة وستون عاما. سنة بعد وفاة زوجته ماري سيسيل عاد ليستقر بصفة نهائية في المغرب (1999).
تذكر فاتحة أول لقاء لهما: « لم أكن قد قرأت له شيئا بعد لتسحرني عوالم الكاتب، وحده الإنسان بهشاشته وقوة الحياة بعينيه وكل الكرم المنبعث من حركاته البطيئة يشدك إليه ويمسح عنك كآبة يومك. سألني عن تجربتي في الكتابة، فقلت له إنني جئت عالم الأدب متأخرة.. أعني بعد الأربعين، فضحك قائلا: وأنا جئته بعد الستين».
من هنا جاءت قصيدتها «آخر الطريق أوله» التي صدرت في الديوان الذي يحمل نفس العنوان وهي مهداة إليه. بعد أن اطلع عليها إدمون طلب منها أن يترجماها معا إلى الفرنسية. اكتشفت دقة تعامله مع اللغة. كان يطلب منها ترجمة الكلمات من العربية الفصحى إلى الدارجة ليترجمها إلى الفرنسية حريصا على دقة المعنى. وشاء القدر أن تنشر هذه القصيدة المهداة إليه في الكتاب الذي خصص لتأبينه.
فتح اللقاء بإدمون عمران المالح لفاتحة مرشيد باب لقاءات أخرى ببيته مع فنانين تشكيليين وكتاب، وأصدقائه المقربين ومنهم الفنان حسان بورقية الذي هو من أهداه ديوانها «أي سواد تخفي يا قوس قزح؟» وكان إدمون يعتبره ابنا روحيا له بحكم علاقتهما العميقة، بالاضافة إلى التشكليلي خليل غريب، والأديب محمد برادة وغيرهم. تقول فاتحة: «كان يعزهم جميعا ويعزونه، فالصداقة لها مكانة أساسية في حياته، وقدرته على العطاء لا حدود لها».
تتذكر فاتحة دبيب حركاته وهو يتنقل بالمنزل بمشيته الوئيدة، وكيف كان يجيد الطبخ بشكل كبير وخاصة السمك، ويلح في تقديمه بنفسه وبكل الحفاوة وإيتيكيت المائدة الواجب. كان يفعل ذلك بفرح طفولي غامر.
«كان يحرص على أن تكون لقاءاتنا مميزة، وأن نستثمر كل دقيقة فيها».
لم تكن فاتحة ترى في علاقتها به علاقة بكاتب بل بالإنسان الذي يسكنه، برهافة حسه الإنساني وأخلاقه ونبله، خاصة عندما يحكي عن تجربته في الحياة.
تقول فاتحة: «داهمته كما نداهم كتابا نتوخى منه المعرفة والاكتشاف، وكان لابد من مقدمة لهذا الكتاب تقربني منه أكثر، أحس برغبتي وناولني «حوارات مع إدمون عمران المليح» الذي أنجزته ماري ردوني. حوارات وضعتني أمام شخصية أكثر تعقيدا مما تبرزه ملامحها وأكثر عمقا من تاريخها الحافل. لم يكن يهمّني المثقف بقدر ما كان يهمّني الإنسان.. وهل يمكن الفصل بينهما؟ «
كان إدمون عندما التقته فاتحة في التسعين من عمره، وبما أن جرح الفقد كان لايزال طريا مثل فنن فتي تعبث به الريح، فقد حكت له فاتحة عن رحلتها مع الفقد وخاصة الأب.
تقول فاتحة: «كان في السن التي لا نحتاج فيها إلى إخفاء شيء لأنه لم يعد لنا شئ نخاف منه أوعليه. كل يوم إضافي يعيشه كهدية بفرحة المتلقي لما لم يكن منتظرا. وكنت في السن التي يقف فيها الحاضر متأملا نفسه.. يلتفت لأول مرة خلفه بعد أن أتعبه الركض وقد وصل منتصف الطريق.. يسائل الماضي.. يحصي أخطاءه ويتجاهل نجاحاته. كنت قد خرجت لتوي من تجربة فقدان والدي. ليصبح بعدها الموت حاضرا في برنامجي اليومي أناقشه، ألاعبه، أجتهد في سبر أغواره.»
صارحها في أحد اللقاءات بأنه يخاف من تعلقها الشديد به بديلا للأب الذي يسكنها، وبأنه لا يريدها أن تتألم من هذه العلاقة في حال وفاته هو الشيخ الذي جاوز التسعين، فكانت أن طمأنته بأنها لا تبحث عن أب يعوضها، فلا أحد يعوض أحدا، مكان الأب سيظل بقلبها. ثم لا أحد يعلم من السباق منهما إلى دار البقاء. وكانت تلك آخر مرة يفتحان هذا الموضوع.
يومين قبل وفاته، تتذكر فاتحة زيارتها له. كان بنفس الابتسامة وأناقة النبلاء إلا أن صوته خبا شيئا ما عن المعتاد، ونظراته التي كانت تتقد بدا أن نورها يذوي في سكون غريب. كان معه لحظتها التشكيلي خليل غريب. تقدمت نحوه بكل حدب وخوف الابنة القلقة على صحة الأب الروحي. أمسك بيدها وقال: «أريدك أن تعلمي بأنني أعزك كثيرا». لم تتمالك فاتحة لحظتها نفسها، فغادرت تحاول عبثا لجم دموعها. كانت تلك آخر الكلمات التي تختصر أربع سنين من اللقيا، بعدها بيومين فقط سيصلها نبأ وفاته من حسان بورقية وبالضبط في 15 نونبر 2010، تاركا لها فراغا آخر في الروح، وسطورا كثيرة تضيفها الى كناش الفقد.

جنازة رجل مهم
تقول فاتحة إن إدمون استطاع أن يحقق الإجماع من حوله فقد جمع في جنازته جميع الأطياف الدينية والسياسية بالمغرب: الإسلامي واليساري ، المسلم واليهودي والمسيحي والملحد، كما أن مراسيم دفنه تمت بمقبرتين حيث تم تأبينه بمقبرة اليهود بالرباط ، لكن الدفن تم، نزولا عند رغبته، بالمقبرة البحرية اليهودية بالصويرة التي لم يدفن فيها أحد منذ تم فتحها أزيد من 100 سنة.
تتذكر فاتحة كيف قدمت صديقته الفلسطينية الأستاذة ليلى شهيد، من فرنسا خصيصا وألقت كلمة عميقة ومؤثرة في حفل تأبينه بالرباط هو الذي كان ينتصر للقضية الفلسطينية.
لن تنسى فاتحة مرشيد قبره المحاذي للسور الذي يفصل المقبرة البحرية عن البحر، حيث الأمواج تطرق باب السور بدون يأس، ومنظر النوارس التي تحلق كأنما ترحب بنورس قادم من بياض الروح الى براح الأبدية، نقيا، صافي الطوية، لم يحمل بقلبه طيلة حياته إلا الحب للإنسان وللإنسانية التي نذر حياته لمُثلها وقيمها النبيلة ومناصرة قضاياها العادلة.
تحكي فاتحة كيف أن إدمون كان مغربيا حتى النخاع، يحب هذا البلد الذي كان يعتز بثقافته وتقاليده وعاداته، إذ تتذكر فاتحة أنه كان يصر على شراء كبش العيد والذهاب الى بيت السيدة التي كانت تشتغل ببيته ليحتفل معها ومع أبنائها بطقوس عيد الأضحى، بل إنه في شهر رمضان، واحتراما لمشاعرها، كان يتحاشى تناول الطعام إلى حين مغادرتها البيت بعد الظهيرة.
ومن شدة هذا الإخلاص لقيم هذا البلد رغم اختلاف الديانة، وحبه مشاطرة المغاربة المسلمين كل احتفالاتهم وأعيادهم وقضاياهم ، كان أصدقاؤه يلقبونه بـ»الحاج» وكان هو سعيدا بهذا اللقب.


الكاتب : إنجاز: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 19/07/2019