أوّل يومٍ في السَّكْويلَة …

يحضرُني الآن المشهد كأنهُ وَقَع يومَ أمسٍ. في الطّريقِ إلى السّكويلة، أمشي وراءَ جدي امْحمَّد تاركاً بيني وبينهُ مسافة تَفوقُ العشرة أمتار. كنت أحبّ هذه العادة، أن أَتَخَلَّفَ وراء من يُرافِقني في الطريق لأربحَ، من جهةٍ، هامشاً من حريتي، ولأتجنبَ، من جهة أخرى، عقاباً على سلوكٍ قد يكونُ غيرَ لائقٍ. كنتُ، وأنا أمشي، أفعلُ أشياءَ تظهرُ للآخرين مَعيبةً وحقيرةً، رغمَ أنها لم تظهر لي كذلك حتى بعدما كبرت. أتذكرُ أني كنتُ أُحب أن أُطلقَ العِنان لِضُرَاطِي ذا الصوت والرائحة الخاصتين. ضَرْطَةٌ هنا، وأخرى هناك. وكان يستهويني التبولُ سيراً وتَقَفِّي أثر بعض الحشرات ورَشِّها ببَوْلي الحَامي والحامِض. وفي أحيانٍ أخرى، كانت عادة الّرَّش هاته، تطالُ بعض زملاء القسم الذين يَغْفَلون عني ويتركونني خَلْفَهم. بل إن حقارتي، في نظرِ الآخرين طبعا، طالت كائنات أخرى من مخلوقات الله سَاقها القدرُ في طريقي.

عند الاقترابِ من طريق السّيار الذي يعزلُ السّكويلة عن الدّوار، شرعتُ في الهرولة لألتحقَ بجدّي. بنظرةٍ من عينَيْهِ، فهمتُ القصد ووقفتُ بجانبِهِ بكلِّ ما فيَّ من أدبٍ وَرَزَانة كقِردٍ أحسن صاحبه تربيته. تجاوزنا معا الطّريق ثم توقف الجد. مدّ لي ورقة كُتبِت عليها حروفٌ لم أفهمها، ثم قال:
– ها السَّكْويلة قُدَّامك، سِيرْ تقرا.
عاد الجدُّ أدراجه وبقيتُ أنا تائهاً خائفاً. كيف أدخل هذه السَّكْويلة التي لا أعرفُ فيها أحداً؟ ماذا أقول إذا سألوني عن تأخري عامين في الالتحاق بالدّراسة؟ هل أُجيب أني كنتُ أسرحُ الغنمَ؟ أو أني لم أكن مسجلاً في الحالةِ المدنية؟ أو أن والدَيَّ مفترقين؟ أو أقول كلّ هذه الأشياء؟
لقد تِهتُ فعلاً. وضَعُفْت. ولكن لِماذا يتركونني الآن وحدي؟ لماذا جِيء بي إلى هذا العالم أصلاً؟ كهذا قلتُ لي يومَهَا بِصَوتٍ مُوْجُوعٍ. وكانت أول مرة أشعر فيها بالخُذلان، والضّعف، والهون.
سِرتُ صَوبَ السّكويلةِ بخطىً مُتَلكئةٍ. بعدَ أول خطوة لي في ساحة السّكويلة، رمقتُ معلمين يقفان عند باب أحد الأقسام. قصدتُهُما، ودون أن أَفُوهَ بكلمةٍ، أعطيتُ الورقة للمعلم الأكبر سنا والأكثر وقارا من المعلمة الواقفة بجانبه. تصفحا معاً الورقة أولا، وتصفحاني ثانيا، وضَحِكا. ثم أشار لي المعلمُ بالدخول إلى القسم الذي سأعرف لاحقا أنه للمعلمة المتعجرفة.
في القسم، أول الأمور التي أثارت انتباهي، جلوس التلاميذ الصغار في أول الصفوف، والذين سأعرف لاحقاً، أنهم، كذلك، النجباء والأقل عَوَزاً فينا. وانتبهتُ إلى عدد الذكور الأكثر من الإناث، وخُلُو القسم من الجميلات، وعدم وجود فرق كبير في السن بيني وبين بعض التلاميذ رغم تخلفي بعامين عن السّن القانوني للتّمدرس… حينما دخلت الأستاذة، وقد أَمْعَنَت في عَجْرَفَتِها، أو كهذا ظهر لي، قصدتني حيثُ أجلس في آخر صفٍ من جهة الباب. وقفت بجانبي دون أن أقدر على النّظر إليها أو أقوم بأي حركة، بل إني تمنيتُ لو يتوقف نَفَسي لبرهةٍ من الزمن حتى لا يُزعجها.
– أين محفظتك؟ قالت المُتَغطرسة.
إلى ذلك الحين، كنتُ أجهلُ اسم الأدوات المدرسية، باستثناء القلم الأكثر شهرة بين الأدوات. أجبتُ وقد أخذ جسدي يسخن ويتعرق.
– إنها هُنا، داخل الكيس.
– يا بَغْل، أنا أسألك عن المحفظة وأنت تقول لي إنها داخل الكيس! من المُفترضِ أن تضع أدواتِك في محفظة بذل هذا الكيس البلاستيكي.
قَهْقهَ زملائي حتى عمّت ضجة داخل القسم. احمرّ وجهي وشعرتُ بحرارةٍ شديدةٍ تلفحُ جسدي. بدأت أتصبب عرقاً من كل النواحي. لحسن الحظ أني لم أتبول يومها في سروالي وإلا كان أول وآخر يومٍ لي في السّكويلة.
– بَغْل آخر ينضاف إلى هذه البِغال.
هكذا تَمْتَمَت المعلمة وأعطتني بظهرها الذي سيكون، إضافةً إلى رائحةِ عطرها، أكبر حوافزي للمجيء إلى المدرسة. على الأقل في سنتي الأولى. انفرج حالي وشعرتُ بارتياحٍ، لكني تأسفتُ على غياب رائحة عطرها الفَوَّاح لمّا كانت تحاصرني مُحاصَرَةَ قطٍّ لفأرٍ مريضٍ.


الكاتب : بدازي محمد

  

بتاريخ : 11/01/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *