إلى المُرشَّحين فى السّباق المحمُوم لرئاسة الحكومة الإسبانيّة

عاد السّباق المحموم من جديد فى الجارة الشمالية إسبانيا هذه الأيام بشكل لم يسبق له نظير نحو قصر رئاسة الحكومة الإسبانية المعروف بـ: Palacio de la Moncloa بمدريد بين رؤساء الأحزاب السياسية الرئيسيّة، احتجبت وجوه، وجاءت وجوه جديدة فى المشهد السياسي الاسباني، من المرشحين للتباري نحو الهدف المنشود نجد عن الحزب الإشتراكي العمّالي الإسباني رئيس الحكومة الاسبانية الحالي بالنيابة، ورئيس الحزب بيدرو سانشيس، وعن الحزب الشعبي يتوسّط المتسابقين السياسي الشاب بابلو كاسادو (الذي خلف ماريانو راخوي فى رئاسة الحزب الشعبي) ،وعن حزب (بوديموس) اليساري يقف الشاب بابلو اجليسياس على الجانب الأيسر من نقطة الإنطلاق ،وعن حزب (سيودادانوس) يعود رئيس هذا الحزب ألبير ريفيرا لحلبة التسابق فى هذه الرئاسيات ،وعن حزب (فوكس) اليميني المتطرّف والمعجرف نجد المُسمّى سانتياغو أباسكال (أبو السّقال) (!) فى أقصى اليمين، وهناك مرشح سادس لحزب جديد وليد يسمّى (ماس بايّيس) يمثله السياسي الشاب إنييغو اريخُون المنشقّ عن حزب (بوديموس) الذي ما فتئ يبحث عن مكانه بين الجموع .. إنّهم يركضون، يُسرعون، يُهرولون، يصيحون، يستعجلون، ويتوعّدون، يتوجّسون، يتباروْن عن كثب، وبلا هوادة فيما بينهم، دون أن يُلوُوا على شئ من أجل الظفر بكرسي هذا القصر العتيد، ولقد حدّدت نقطة نهاية الوصول إليه، أيّ بلوغ الهدف المنشود، والمَسعىَ المقصود يوم اجراء الانتخابات الرئاسية التشريعية فى العاشر من الشّهر الجاري نوفمبر 2019.. إلى هؤلاء أعود لأهمس فى آذانهم وتذكيرهم ببعض القضايا الثنائية الشائكة والمُعقّدة والمُلحّة التي ما زالت عالقة بين البلدين ولابد أن يتمّ التطرّق لها خلال هذه العهدة أو فى الرئاسيات المقبلة:

تقوية العلاقات الثنائية

العناصر الصالحة المشتركة، والمكتسبات الهامّة والمورثات، الحضارية، والتاريخية، والثقافية، واللغوية الثرية ليس بين المغرب واسبانيا وحسب، بل وبين العالم العربي وإسبانيا تحفزنا أكثر من أيّ وقتٍ مضى لوضع قاطرة التعاون الثنائي على السكّة الصّحيحة القويمة بيننا جميعاً لتقريب المسافات، وإستغلال، وإستخراج كلّ العناصرالإيجابية بيننا، في عصرٍأصبحت فيه التكتّلات الإقتصاديّة، والسياسيّة، والثقافيّة، والبشريّة، والإنسانيّة بين الدّول والشعوب تتبلور بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك لزيادة تعزيز وتقوية الأرضية الصّلبة لعلاقاتنا المتينة فى مختلف مرافق الحياة المعاصرة، الثقافية منها على وجه الخصوص حيث تكمن الأهميّة القصوى للدّور الحيوي والمحوري الذي ينبغي أن يضطلع به هذا القطاع الهام فى هذا القبيل بين الجانبين. فبحكم موقعنا الجغرافي الممتاز، والجيوستراتيجي المتميّز، كجارين متقاربين، إنطلاقاً من»ماضٍ» حضاريّ تقاسمناه ، و»ثقافةٍ» رفيعةٍ نَسَجنا خيوطها سويّاً، و»إشعاعٍ» متألق إنصهرنا فى بوتقته، وبحكم «الحاضر» الواعد الذي نعيشه، و«المستقبل» المشترك الذي نتطلّع إليه، كلّ ذلك ينبغي أن يجعل منّا واعين كلّ الوعي بالدّور الهامّ المنوط بنا لتحقيق المزيد من التقارب،والتداني، والتعاون،والتفاهم،والعمل على نَسْج عُرَى صداقة أوثق، وترسيخ أواصر مودّة أعمق، ومدّ المزيد من الجسورالمتينة فى مختلف الحقول،وبشكلٍ خاص فى الميادين السياسيّة، والتجاريّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة، والعلميّة، والإجتماعيّة، والسياحيّة ،والتاريخية وسواها من أوجه التعاون المختلفة الحيوية ذات الإهتمام المشترك فيما بيننا.

الموروث والثقافي المشترك

أنّ الصّداقة القائمة بيننا ، والتعاون المثمر الذي يجمعنا يَعكسان مقدارَ الرّغبة التي تحدونا لزيادة بلورة طموحنا، وتوسيع وتعميق تعاوننا فى شتىّ المجالات، وفى مخططات التعاون الثنائيّة، والمشاريع الإستثمارية،والإنمائيّة، والصناعية الكبرى المشتركة. كلّ ذلك ينبغي أن يواكبه تبادلٌ ثقافيٌّ خِصب متنوّع ، وتعاون علمي مكثّف يزيدنا تعارفاً، وتقارباً ،وتفاهماً ،وتناغماً، وإشعاعاً، وتألقاً ،ويعمل على زيادة تمتين أواصرالصّداقة والمودّة،وتوفير الإحترام المتبادل بيننا . هذا على الرّغم ممّا يشوب هذه العلاقات بين الفينة والأخرى من أخذٍ وردّ، وطبخٍ ونفخ، وفتقٍ ورتق…! ممثّلة فى أمور وقضايا ثنائية، ومطالب تاريخية مشروعة ما زالت عالقة تنتظر الحلول الناجعة لها على المدى القريب والمتوسّط وغير البعيد مع بعضٍ منّا…وهي أمور لا تخفى عليكم، ولا على أحد، ويعرفها القاصي والدّاني على حدٍّ سواء!! ولا غرو فالموروث التاريخي، والثقافي، والحضاري المشترك الزّاخر بيننا يشكّل ولا ريب أرضية صلبة، وحقلًا خصباً ممّا جعل منطقتينا تنفردان بخصوصّيات، ومميّزات قلّما نجدها لدى سوانا من البلدان الأخرى، الشئ الذي أفضي الى خلق نوعٍ من الإستمرارية والتواصل الدائمين في علاقاتنا الدبلوماسية منذ قرون بعيدة خلت.

الأحكام الخاطئة

إنطلاقاً من هذا المفهوم،وتماشياً مع هذا السّياق والسّباق ما فتئ مثقفونا، فى كلتا الضفّتين يؤكّدون على الدّور المحوري الهامّ الذي تلعبه الثقافة،أو بالأحرى ينبغي أن تضطلع به الثقافة فى توثيق وتعميق العلاقات بين الجانبين، لمواجهة الأفكار الجاهزة، وكبح جماح وعواهن الأحكام المسبّقة ، وتصحيح التصوّرات الخاطئة المنتشرة، والمُستشرية بيننا ،ومحو المفاهيم المعوجّة التي لا تقدّم صّورتنا الحقيقية ، والتي تنتشر أساساً لدى الشرائح ذات الثقافة الضيّقة والمحدودة ،وبالتالي فالوسيلة الوحيدة لمحو هذه التصوّرات هي التعرّف على بعضنا البعض، والتعريف بمقوّماتنا وطاقاتنا، فقد أصبح الإهتمام يتنامى بشكل فعّال، خصوصاً في أوساط النّخب الثقافية، وكذا عند فئات واسعة من الجمهور، إنّ الاقبال المنتظم والمتزايد لأصدقائنا الإسبان على زيارة مختلف بلداننا، وإقامة أو توافد أو توارد الكثير من مواطنينا على إسبانيا من شأنه أن ينسج جسورَ الاهتمام لمعرفة واقع وثقافة وتاريخ البلد الآخر،ينبغي أن نعمل سوياً على واجهات التربية والتعليم، والإعلام، والثقافة، والفنون. إنه مجال يتطلب، منّا بذل مَجهودٍ مُضنٍ من أجل تعبئة مختلف وسائل الإعلام فى العالمين قصد نقل الصّورة الحقيقية والإيجابية عن واقعنا الحقيقي، وتصقيلها، وتقديمها بالشكل الصّحيح غير المغلوط. والحقّ أنّ مثقفينا بالفعل لم يدّخروا وسعاً فى بذل الجهود المتواصلة فى العقود الأخيرة، والإضطلاع بدور طلائعي فى تطوير وتفعيل وتلميع وإبراز الصورة الحقيقية للطرفين.

لغة سيرفانطيس

ينبغي لنا والحالة هذه، البحث عن كثب عن الوسائل الناجعة، وعن الآليات العاجلة لزيادة إثراء الحوار الثقافي القائم بين الجانبين لإقرار أرضية صلبة للتفاهم بينهما فى مختلف المجالات،السياسية، والإقتصادية، والتجارية تتماشى وتتناغم مع المعطيات التاريخية،والموروثات الثقافية المشتركة بينهما، وإقتناعهما بالتأثير الإيجابي المتبادل بين ضفّتينا على إمتداد القرون، ممّا جعل منهما ومن منطقة حوض المتوسّط عبر التاريخ فضاءً ثقافياً خصباً، كان له تأثير بليغ على أوربّا، وشمال إفرقيا، ومختلف البلدان المجاورة، كما جعلت «الأندلس» فى عزّ أوجها من العالميْن العربي – الأمازيغي والإسباني – الإيبيري عالماً متلاحماً، ومتقارباً، ومتشابهاً، ومشتركاً فى العديد من المظاهر الحضارية، والثقافية، والفكرية، واللغوية، والأدبية، والإبداعية، وفى مختلف الأشكال الفنيّة، والتصاميم المعمارية، وفنون الهندسية ،ومرافق الحياة الأخرى، هذه التأثيرات،والبصمات المتشابهة طبعت المنطقتين الجغرافيتين إلى حدٍّ أصبحتا تشكلان عالماً قائماً ينفرد بعلائق تاريخية وطيدة، وخصوصيّات ثقافية مميّزة فيما بينهما منذ عهود خلت.
أنّه يلاحظ فى الوقت الرّاهن حضور متزايد للّغة الإسبانية فى مختلف البلدان العربية، هذه اللغة الجميلة التي كادت أن تؤول إلى التلاشي، والزّوال، والإندحار فى العقود الماضية أمام الزّحف والزّخم اللغويين الكبيرين للإنجليزية وللفرنسية، إلاّ أنّ لغة وثقافة «سيرفانطيس» طفقتا تسترجعان مكانتيْهما السّابقتيْن، حيث بدأ يزداد الإهتمام بتعلّم هذه اللغة العريقة التي تربطها صلة قرابة وثقى مع لغة الضاد، وبدأ التفاعل على أوسع نطاق مع الأنشطة والتظاهرات الثقافية والفنية التي تنظمها «المعاهد الثقافية الإسبانية» والتي تحمل إسمَ صاحب «دون كيشوت»(سيرفانتيس) والموجودة فى مختلف المدن والحواضر العربية، وعلى وجه الخصوص فى المغرب الذي تخصّص له إسبانيا اكبر ميزانية فى هذا القبيل، الشئ الذي يبشّر بتفاؤل كبير لمستقبل الثقافة الاسبانية فى هذه الرّبوع التي تعتبر من أقرب الأصقاع دنوّاً من إسبانيا جغرافياً، وتاريخياً،وثقافيّاً، وإجتماعياً بحكم التعايش الذي تقاسمته خلال الوجود العربي – الأمازيغي فى الأندلس الذي إستمرّ زهاء ثمانية قرون ونيّف، ولا شكّ أنّ التبادل الثقافي فيها- والحالة هذه- سيزداد زخما،وكثافة،ً ومتانة بين الأجيال الجديدة المقبلة في أفق بلورة فضاء تثاقفي مشترك يتقاسمه الجانبان على مختلف الواجهات.
هذه الجهود المتواصلة، والاتصالات المبكّرة والحثيثة بين هاذين الفضائين المتجاورين خلقت نوعاً من الإستمرارية، زادها العنصرُ الجغرافي بينهما متانةً وتدفّقاً، وقوّةً وتواصلاً، فضلاً عن الجانب الحضاري والثقافي المميّز الذي يُعتبر عنصراً فريداً في بابه في تاريخ الأمم ،كلّ هذه الخصوصيّات طبعت علاقات الضفتين على إمتداد الحقب والعهود. هذا التقارب والتواصل والحوارالدائم القائم بينهما الذي لم ينقطع ، ولم يفترّ قطّ عبر القرون لهو خير رصيدٍ، وضمان لبناء مستقبل حافل بالآمال، والتطلعات الواعدة.

الغازات السامّة المُوريسكيون
وسبتة ومليلية

ترى ما الذي يجعلكم تتماطلون،وتتمنّعون حتى الآن فى تقديم إعتذار علني عن إستعمال أجدادكم للأسلحة الكيمياوية الفتّاكة ظلما ًوعدوانا ًفى حرب الرّيف التحرّرية (شمال المغرب)، وإلحاق الأضرار الجسيمة بأهله الآمنين الذين ما زال أحفادهم يعانون من الآثار الوخيمة لهذه السّموم المحظورة إلى يومنا هذا المشهود.
فضلاً عن موضوع إشكالية طردكم، وإبعادكم «للموريسكيّين» الأندلسيّين المسلمين «المُهَجَّرين»قهراً وقسراً عن ديارهم ومواطنهم، والذين إستقرّ معظمُهم فى المغرب، وفى الجزائر وتونس (معروف أنّ العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل سبق له أن قدّم إعتذاراًعلنيّاً لليهود ( السيفارديم) الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا ،ولم يقم هو ولا خلفُه الحالي العاهل الإسباني فليبي السادس بنفس البادرة التاريخية حتى الآن مع الموريسكيين المسلمين). وقد ترأس مؤخّراً بالقصر الملكي بمدريد، حفلا أقيم ليهود» السفارديم»، الذين طردوا من إسبانيا مع رفقائهم الموريسكيين المسلمين ، وذلك بمناسبة بدء دخول القانون الإسباني الجديد الذي يسمح بمنحهم الجنسية الإسبانية حيز التنفيذ. وقال الملك فيليبي السادس، في كلمته أمام ممثلي الجاليات اليهودية، خلال هذا الحفل: «كتبنا صفحة من التاريخ بهذا القانون، الذي يسمح ليهود السفارديم بالحصول على الجنسية الإسبانية بشكل كامل، إنه شرف عظيم لي الإعلان عن ذلك باعتباري ئيساً للدولة؛ لقد اشتقنا إليكم».
وأنتم الذين ستمسكون بزمام الأمور فى إسبانيا إلى جانب عاهلكم – صديق العرب الكبير- نناشدكم أن تتحمّلوا مسؤوليتكم التاريخية حيال هذ الحيف، والتظلّم الذين لحقا بهذين الموضوعين الشائكين. وتجدر الإشارة أنّه انعقد مؤخراً بالعاصمة المغربية اللقاء الدّولي (عقب الموريسكيّين والسفارديم بين التشريع الإسباني والقانون الدّولي) من تنظيم «مؤسّسة ذاكرة الأندلسييّن» ،حيث كانت هذه البادرة خطوة تاريخية رائدة فى هذا القبيل لهؤلاء الموريسكيين الذين لحق بهم التظلم ،والإجحاف الذين تعرّضوا لعمليات طرد جماعي، وإبعاد وإقصاء وتهجير قسري، من وطنهم وأراضيهم بعد أن عاش أجدادهم فيها زهاء ثمانية قرون ونيّف، وما إنفكّ العديد من مثقفيكم ومثقفينا ومثقفي العالم الحرّ يثيرون هذين الموضوعين فى الايام الاخيرة بلا هوادة.. لعلّ بلدكم الصديق يخطو هذه الخُطوة الجريئة حيالهما!. ناهيكم عن موضوع مدينتيْ سبتة ومليلية المغربيتين السليبتين ، والجزر المحاذية لهما المحتلة إلى اليوم.

التعدّد الثقافي

أنّ الحديث عن التعدّد الثقافي والتنوّع الحضاري بين العالم العربي وإسبانيا يحلو ويطول، والتاريخ لا يُقرأ في هنيهة،ولا يخفى على أحد التاريخ المشترك بيننا ما زال حيّا نابضا قائما في كل مظهر من مظاهر الحياة فى الجانبين، دراسةُ هذا التاريخ، و التعمّق فيه، وإستخراج العناصر الصالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه،وهو أمر ينبغي ان يولى أهميّة قصوى ،وعناية فائقة ،وتتبّعاً متواصلاً من طرفكم ومن طرف المثقفين ،والكتّاب،والمفكرين، والمسؤولين والخواصّ ، ومن لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخيىة والمرافق التربوية والتعليمية التي تُعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر،فى الجانبين، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهما ليكون المستقبل الذي يتوقان إليه مستقبلَ رقيّ ،وإشراقٍ، وتلاقٍ وتلاقحٍ بين ماضٍ عريق، وحاضرٍ واعد ، ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيدا وتجسيما للعهود التي عاشها أجدادنا فى شبه الجزيرة الإيبيرية على إمتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ ، والتعايش والتسامح، والإشعاع الثقافي والعلمي الباهرالذي شكّل وما يزال جسراً حضارياً متواصلًا بين الشرق والغرب،وبين مختلف الأجناس، والإثنيات ،والمِلل، والنِحل. ولا يغيب عنكم فى هذا المجال الدّور المحوري الهامّ الذي تلعبه الثقافة على وجه الخصوص فى توثيق وتعميق العلاقات بين الشعبين الإسباني والعربي، حيث إضطلع المثقفون فى هاذين الشقين من العالم بالفعل فى العقود الأخيرة بدورطلائعي فى تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات بينهما.

الصّراع ضدّ الجّهل

كان العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل… قد قال فى إحدى زياراته للمغرب «انه من الضروري أن نتعارف أكثر فيما بيننا، فما أفدح الجهل المتفشّي فينا، ينبغي أن نمحي من رؤانا المشتركة جميع الصّور المشوّهة، والأفكار المسبقة الخاطئة، كما ينبغي أن نقصي عنّا جميع الرواسب، وأن نقضي على بعض التأويلات التي تحول دون تعرفنا ونطردها من أذهاننا، أظن أنّ اسبانيا والمغرب ليسا ورثة القليل، ولقد طبعت فكرهما معرفة عامة كجارين عاشا على إمتداد التاريخ واحدا بجانب الآخر، ولقد فرّقهما الجهل أحيانا بشكل يجاوز كل حدّ». الكاتب الإسباني الراحل خوان غويتيسولو ردّد أكثر من مرّة: «انّ المهمّة الملقاة على عاتقنا لهي مهمة واسعة ومتشعبة،إذ ينبغي على اسبانيا ان تعمل على إعادة نشر لغتها وثقافتها في مجموع منطقة شمال افرقيا والعالم العربي، ففي الوقت الذي تفتح فيه للثقافتين واللغتين الفرنسية والإنجليزية في هذه البلدان مجالات واسعة، فانه ينبغي على اسبانيا ان تسير في نفس التيار، وتعمل على نشركتبها هناك، وإيفاد الأساتذة والمحاضرين، وإقامة جولات مسرحية، وتنظيم عروض سينمائية، وعلى سائر البلدان العربية بالتالي من جانب آخر أن تقوّي حضورها الثقافي باسبانيا ،وتبيان الصورة الحقيقية لهذه الثقافة الثرية فيها للرّأي العام الاسباني بنشر أعمال كتّابها وفنّانيها».

الهويّة الثقافية

أذكّركم بشذرات من تاريخنا المشترك، إذ يؤكّد الدّارسون أنّ تاريخ هذه الشعوب، وتراثها العريق مستوحيان من ينابيع متعددة أصيلة، وروافد وافدة متداخلة، وإن إختلفت مصادرها، وينابيعها، وتباينت لغاتها وألسنتها بين عربية إسلامية،وأمازيغية بربربة وإسبانية، وما فتئت العديد من النصوص، والوثائق، والمظانّ، وأمّهات الكتب والمخطوطات، والأشعار، والآداب، والفنون، والعلوم التي أبدعها كتّاب، وفلاسفة، وعلماء، وشعراء، ومؤلفون مسلمون أقاموا واستقرّوا، أو ولدوا وترعرعوا، فى هذه الرّبوع القصيّة الجميلة فى الضفّتين، إلى جانب المعالم التاريخية، والمآثر العمرانية، والقلاع الحصينة، والدّور،والقصور، والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق الغنّاء التي تبهر الناظرين ، فضلا عن العادات والتقاليد الحميدة التي تأصّلت في أعراف هذه الشعوب في مختلف مناحي الحياة، كلّ ذلك ما زال شاهدا إلى اليوم على مدى الأوج الذي أدركه الإشعاع الحضاري الإسلامي فى هذه الأصقاع. فهذا الغيث الفيّاض الغامر والمتنوّع من الإبداعات الرفيعة في مختلف الميادين لا يمكنه أن يحيا و ينمو و يزدهر من لا شئ، أو داخل حدود ضيّقة أومنغلقة، بل إنّه ظهر وترعرع وإزدهر ووقف مشرئبّا إعتمادا على نبعه الأصيل، وإغترافا من معينه الأثيل، وتاريخه التليد، وتراثه العريق ، وموروثاته الحضارية والإنسانية ذات الّرّوافد الثقافية المتعدّدة المشتركة. وإنّ لفي ذلك تجسيداً، وتقييماً، وتجسيماً للعهود الزّاهرة التي عاشها أجدادنا جنباً إلى جنب على إمتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ، والتعايش والتسامح، والتآخي والتداني، والإشعاع الثقافي والعلمي الباهر الذي شكّل وما يزال يشكّل من عالميْنا جسراً حضارياً متواصلاً بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأجناس، والأعراق، والإثنيات ،والملل، والنحل، والديانات.

* كاتب وباحث من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.


الكاتب : محمّد محمّد الخطّابي *

  

بتاريخ : 14/11/2019