« إليك انتهى الأمر» للشاعر «محمد شنوف» «التئام أجزاء النظم» ومضافاته الدلالية والجمالية في قصيدة

«إليك انتهى الأمر» هو العنوان الذي اختاره السي محمد شنوف لديوانه الثاني، وهو كذلك عنوان إحدى خرائده، فما الذي يرفعها إلى منصة عنوان الديوان؟ ما سماتها الشعرية المميزة؟ أهناك قطيعة أم تشاكل بين مستوياتها؟ ثم ما مصدر اللذة التي تجدها الذات القارئة لها؟
يستهل الشاعر قصيدته بالقول:
«عدمت القوافي إذا لا أراك
بها، كالمرايا تناغي بهاك
فليس كمثلك أنثى فتونا
تتوبل بالكبرياك أناك»
القصيدة من حيث إيقاعها، منظومة على بحر المتقارب، المعروف عنه أنه بحر تغن بامتياز، ومعلوم أن الشعر العربي غنائي بامتياز، ذلك أن إيقاع هذا الوزن طربي جدا، كما علمنا القدامى وذكرنا به المحدثون كالبروفسور عبد الله الطيب، الذي يراه إيقاعا يصلح للإطراب الخالص.. (كتابه المرشد)، ومن حيث غرضها، فهي تجهر بمواجيد الحب، ومقامات العشق، ومكابدات الصبابة.. وهي مفاهيم تجد جذورها في حقل الغزل، ونواته الدلالية.. مما يكشف -بداءة- عن التحام جزأين من أجزاء النظم، هما الوزن، والغرض.. فإلى أي حد تناسبا والتأما؟ وما مظاهر ومستويات هذا الالتئام والتناسب وأثره على النص من جهة، والمتلقي من جهة أخرى؟
القارئ/المستمع لهذه القصيدة يلفي فيها لذة وعذوبة لا يستطيع تبين مصدرها بدقة، فهو يطرب لها من حيث جرسها الموسيقي، ويلين لها من حيث فيضها الشعوري، فكيف استطاع الايقاع الشعري الثابت أن يستوعب الشعور الانساني المتحول، بل أن يعبر عن تداعيات الشاعر الخاصة بطريقة هي الأخرى خاصة به؟
لقد جاء حب الشاعر فيضا على جنبات قواف مجازة، تزيد التنغيم تنغيما، وتنطلق كزفرات يطلقها الشاعر للتنفيس عن ضغط ما يحتدم داخله، مستفيدا من المدود الصوتيه الموائع (مد الألف خصوصا) لما تسمح به من إطلاق طويل للنفس، كآنين أو تنهد أو زفير، وهي الحالات التي تصاحب كل ضغط نفسي وتوتر عاطفي ودفقان انفعالي، وكلما ازداد اشتداد الأمر إلا وزادت معه الزفرات.. لذلك نجد القصيدة تتنفس من ذروة التمنع وذروة التيم بهذه المدود الصوتية، فالتجربة الشعرية في حالة ضغط نفسي قصوى، ناجم عن لين جانب الذات الشاعرة في مقابل تصلب وتصلد موضوعها الشعري ، وهو ما أفلح الشاعر في تصويره (إيقاعيا) عبر توظيف صوت الكاف، المهموس اللين، الذي عكس لين جانب الشاعر وانصياعه «أضم هداياك شوقا كأم ** تقلب طفلا بغير حراك / وما إن تبدى خيالُك حتى ** توارت جيوشي وراء لواك»، ويرافق انصياع الشاعر انكسار كل الوسائل التي توسل بها لبلوغ مراميه، وانجراره في استسلام وراء حبه، تمثل في موقع الكاف الأعرابي المجرور(بالاضافة غالبا) ليعزز هذه الدلالات، فيجري غرض الغزل في أدق تفاصيل القصيدة مثلما جرى في أدق عروق الشاعر.. وهنا ملمح ناص وبارز من ملامح الصنعة والمكنة الشعرية، تمثل في مدى التئام الدلالة بالصورة بالإيقاع وتناسبها جميعا، تجلى هذا التضام والالتئام والتناسب في أبهى حلله في قول الشاعر: «كموج تكسر ملء ثغاب ** فظل يعافه زجر مداك» وقوله «وقد كنت دنياي يوما، تهاوت ** علي حطاما بغير سماك» فالصورة وإن جاءت عفو خاطر، فإنه خاطر شاعر مجيد، مادامت من شروط الإجادة الشعرية ومقاييسها التئام أجزاء النظم والتحامها، التي أبان عنها هذا الموضع.
وإضافة إلى تناسب الإيقاع والغرض، وباعتبار الشاعر صانع أصوات، أي القادر على تطويع الأصوات لأسر الأسماع وسحر القلوب وخلب الألباب، فإن الشاعرمحمد شنوف في هذه القصيدة، صاغ معزوفة تقدم للأذن رشوة الايقاع الذي انماز بالرونق والحلاوة والطلاوة، قبل أن تخلب القصيدة لبه بدلالات الحب، ومعاني العشق، وماء الصبابة الذي يمتد من عيون القصيدة إلى مصبات المتلقي المتعطشة، فتتشرب الشعر والحب والجمال، مع الشاعر، وتكابد مكابداته، وتتمثل خيلاته، وتتصور مكاشفاته..
وذلك عبر مستوى ثالث من مستويات التناسب والالتئام، هو الصورة الشعرية، التي ترفع من وثيرة تأثر المتلقي وتزيد من حقينة استيعابه لما يتلاطم داخل الذات الشاعرة ويرتد صدى ورذاذا في الشعر، فالتضافر بين الصوت والصورة، ينقل المشهد الشعري بدقة وصدق، فالشاعر وإن كان صانع أصوات (في أصله الإغريقي) فإن الشعر يبقى تتفكيرا بالصور كذلك (إخنباوم)، لذلك فكل بيت في هذه القصيدة -إضافة إلى صواتته المسكوكة- فإنه مسبوك بماء صور شعرية جزئية، مستقاه من صورة بؤرية جارية، هي صورة الماء، بكل ما علق بها من دلالات نتيجة التجربة الانسانية، مع الماء وتنوع السيرورات التي اندرج فيها (سعيد بنكراد)، فالتصويربالماء -بالمعنى الشعري- هو النسق المولد لكثير من التداعيات التصويرية، المصاحبة للإيقاع، من قبيل التمرئي: (كنهر تمثل نجم سماك) التضارب: (على صخر شاطئ ذكراك أثوي** فأندب، أسلو، وأضحك باك) الانكسار: (كموج تكسر ملء ثغاب..) الحيرة: (كأني نبي يناديه سر ** كأني كليمك طور سناك) الابتهال: (وطيفك فوقي غمام ضنين ** يعلل مجدب روحي بماك) الانصياع: (وإني ببحر هواك غريق ** وقد خانني السبح، حسبي يداك) الطاعة: (وأشهد ليل النوى كم تخلى ** علي مشيرا بشق عصاك) الاستغاثة: (أصفت،خرفت، فهل من شتاك) المواجهة: (فألقيت فيهم خطاب زياد) ثم تبلغ الصورة/البؤرة مداها الدلالي، كنتيجة منطقية لمقدمة عندما يقر الشاعر بأن المحبوبة كالماء تحيي وتميت (إليك انتهى الأمر إن شئت أحيى** وإن شىت أردى بمحض رضاك) فتجري كل التداعيات الجزئية في مجرى الدلالة الأول (الغزل) وتتلاشى فيه كقطرات معنوية في يم الشعر.. تمنحه عذوبة وفروتة..
وزبدة القول؛ إن النص عموما جماع أنساق (عبد الله الغذامي)، والشعر على وجه الخصوص يلتئم فيه النظم لفظا وتركيبا بالإيقاع بالصورة، ولا ينتقض بعضه مع كله، أو يتنافر صوته مع صورته، أو يتباعد مبناه مع معناه..وهو ذاك ما تمثلته قصيدة «إليك انتهى الأمر» لزرياب مكناس، الشاعر العربي المغربي محمد شنوف، بما مثلته من تآلف الدال والمدلول، وتماسك الشكل والمحتوى، والتحام الطريقة بالحقيقة، والتئام الجزء بالكل، في مقطوعة ترقى لأن تعلق مع المعلقات، نظرا لسلامتها من العيوب وشدة اقتفائها معايير شعرية العمود، وتقطف بعض أبياتها كأمثال سائرة أو حكم شاردة، نتيجة إيناعها واستوائها.. دونما الحد من حرية التعبير عن المواجيد والمكابدات وتحيينها في قصيدة تلتزم شكلا بمعايير الايقاع واللفظ والتصوير التقليدي، وتتنفس روح التجديد محتوى وتعبيرا ومعنى.. كاسثمار الماء كصورة وعلامة غنية بالدلالات، مع تهذيب وتشذيب جموحها الدلالي وفورانها المعنوي بما يلائم المقصدية ويوائم المقام.. مما يرفع القصيدة إلى مرتبة عنوان الديوان من جهة، ويدل على التمكن والصنعة والإجادة في نظم الشعر، مع الحرص البعيد عن الكلفة، والاتباع البعيد عن التقليد، والجدة البعيدة عن التمحل، من جهة ثانبة، وهو كله ما يشكل مصدر التجربة الجمالية التي يعيشها المتلقي في أحضان هذه القصيدة بلذة غير متناهية.. يلتئم فيها شمل الشاعر والنص والمتلقي في فناء لحظة جمالية متعالية ومتفلتة من قيد كل عقال..

* كاتب وباحث في الجماليات وتحليل الخطاب


الكاتب : زهير السليماني*

  

بتاريخ : 16/04/2018

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *