الإرث المبهم لـ 68

في باريس 1968، واحدة من أشهر رسائل الغرافيتي على حوائط المدينة كانت: «البنيات لا تمشي في الشوارع!». بعبارة أخرى تظاهرات الطلاب والعمال العارمة في 68 لا يمكن شرحها بمصطلحات البنيوية، كما تم تحديدها بالتغيرات البنيوية في المجتمع، كما في البنيوية السوسورية. رد المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان كان أن هذا هو بالضبط ما حدث في 68: البنيات انحدرت إلى الشوارع بالفعل، الأحداث المتفجرة المشاهدة في الشوارع هي، جوهريًا، نتيجة لخلل بنيوي.

هنالك أسباب وجيهة لوجهة نظر لاكان المرتابة، كما أوضح الباحثان الفرنسيان لوك بولتانسكي وإيف تشيابولو في كتابهما الصادر في العام 1999 «الروح الجديدة للرأسمالية»، من السبعينيات فصاعدًا، انبثق شكل جديد للرأسمالية.
هجرت الرأسمالية البنية الفوردية الهرمية لعملية الإنتاج- التي تم تسميتها بعد أن قام صانع السيارات هنري فورد بفرض التسلسل الهرمي والمركزي- وقامت بتطوير شكل تنظيمي ذو اساس شبكي هو المسئول عن مبادرة الموظف والاستقلال في مكان العمل. كنتيجة لذلك، نحصل على شبكات بحشد من المشاركين، تنظيم للعمل في فرق أو عن طريق المشاريع، السعي لإرضاء الزبون ورفاهية العامة، أو القلق بشأن البيئة.
بهذه الطريقة، سيطرت الرأسمالية على فصاحة اليسار عن إدارة العمال لذاتهم، محولة إياها من شعار ضد الرأسمالية إلى شعار رأسمالي. لقد كانت الاشتراكية هي المحافظة، هرمية وإدارية.
استكملت احتجاجات الستينيات المعادية للرأسمالية النقد التقليدي للاستغلال الاقتصادي الاجتماعي بنقد ثقافي جديد: تغريب الحياة اليومية، تسليع الاستهلاك، الزيف الشامل للمجتمع حيث كلنا (نضع أقنعة) ونعاني من اضطهادات جنسية وغير جنسية.
الرأسمالية الجديدة المنتصرة استولت على فصاحة 68 المعادية للهرمية، مقدمة نفسها كانتفاضة تحررية ناجحة ضد التنظيمات الاجتماعية القمعية الناتجة عن رأسمالية الشركات والاشتراكية (الموجودة حقًا). هذه الروح التحررية الجديدة تجسدت في طريقة اللبس غير الرسمية الرائعة للرأسماليين أمثال بيل جيتس ومؤسسي آيسكريم بين وجيري.
ما نجا من التحرر الجنسي للستينيات هو مذهب اللذة المتسامح والذي أدرج بيسر داخل أيدولوجيتنا المهيمنة. اليوم، المتعة الجنسية ليس مسموحا بها فقط، بل موصى بها- الأفراد قد يشعرون بالذنب إذا لم يكونوا قادرين على الاستمتاع بها. إن الدفع باتجاه أشكال راديكالية من المتعة (عن طريق التجارب الجنسية والمخدرات أو غيرها من وسائل تحفيز النشوة) نشأ في لحظة سياسية دقيقة: حينما استنفدت «روح 68» إمكاناتها السياسية.
في هذه النقطة الحرجة في منتصف السبعينيات، شهدنا على دفعة مباشرة وحشية تجاه الواقع، والتي اكتسبت ثلاث اشكال رئيسية: أولًا، البحث عن اشكال متعة جنسية متطرفة؛ ثانيًا، التوجه نحو واقع الخبرة الداخلية (التصوف الشرقي)؛ وأخيرًا، صعود الإرهاب السياسي اليساري (فصيل الجيش الأحمر في ألمانيا، الألوية الحمراء في إيطاليا، الخ).
إرهاب اليسار السياسي عمِل تحت ذريعة أن في العصر الذي تستغرق فيه الجماهير بالكامل داخل السبات الرأسمالي الإيديولوجي، فإن النقد العادي للأيديولوجيا يصير غير فعال. فقط اللجوء إلى الواقع الخام للعنف المباشر قد يوقظهم.
ما تتشارك فيه الخيارات الثلاثة هو الانسحاب من المشاركة السياسية الاجتماعية الملموسة، ونحن نحس بعواقب هذا الانسحاب من المشاركة اليوم.
عصيان الضواحي في خريف 2005 في فرنسا شهد احتراق آلاف السيارات وتفجر كبير للعنف الشعبي. لكن ما صدم العين كان غياب أي رؤية يوتوبية إيجابية بين المحتجين. إذا كانت اِنتفاضة مايو 68 ذات رؤية يوتوبية، فإن اِنتفاضة 2005 كانت تفجراً بدون أي ادعاء بالرؤية.
هنا دليل على القول الشائع أننا نعيش في حقبة ما بعد الأيديولوجيا: المحتجون في ضواحي باريس لم يكن لديهم مطالب محددة. كان هنالك فقط إصرار على الاعتراف، مبني على الغموض، امتعاض غير موضح.
حقيقة أنه لم يكن هنالك أي برنامج في حريق ضواحي باريس يخبرنا أننا نقطن في عالم على الرغم من احتفاءه بذاته كمجتمع للخيارات، فإن الطريقة الوحيدة لتطبيق الإجماع الديمقراطي هي انفجار العنف المدمر للذات.
اِستدعي هنا تحدي لاكان للطلاب المتظاهرين في 68: «كثوار، انتم هستيريون تطالبون بسيد جديد، وستحصلون على واحد».
ولقد حصلنا على واحد -بالفعل- على هيئة السيد «المتسامح» ما بعد الحداثي صاحب الهيمنة الأقوى كونه الأقل ظهوراً.
على الرغم من أن العديد من التغيرات الإيجابية غير المشكوك فيها قد صاحبت هذه القفزة- مثل الحريات الجديدة للمرأة ووصولها إلى مراكز القوة – يجب على المرء طرح الأسئلة الصعبة : هل كانت هذه القفزة من “روح رأسمالية” إلى أخرى هي حقًا كل ما حدث في 68؟ هل كل ذلك الحماس السكران للحرية لم يكن يعني سوى اِستبدال شكل من أشكال الهيمنة بآخر .
الأشياء ليست بهذه البساطة. على الرغم من أن 68 تم الاستيلاء عليها وتمجيدها من قبل الثقافة المهيمنة كاِنفجار للحرية الجنسية والإبداع اللاهرمي، قال الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي في حملته الرئاسية في 2007 ان واجبه العظيم هو جعل فرنسا، أخيراً، تتجاوز 68.
إذن، ما لدينا هو مايو 68 خاصتنا ومايو 68 خاصتهم. في الذاكرة الأيدولوجية للحاضر، فكرتنا الأساسية لتظاهرات مايو- الارتباط بين اِحتجاجات الطلاب وإضرابات العمال- تم نسيانها .
إذا نظرنا لمأزقنا بعيون 68، يجب أن نتذكر، في جوهرها، 68 كانت رفض للرأسمالية الليبرالية، «لا» لمجموعها الكلي.
من السهل السخرية من مفهوم فوكوياما «نهاية التاريخ»، وادعاءه بأن داخل الرأسمالية الليبرالية، سنجد أفضل الأنظمة الاجتماعية. ولكن اليوم، الغالبية فوكوياميون. الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية مقبولة كالصيغة النهائية لأفضل العوالم الممكنة، كل ما تبقى هو جعلها أكثر تسامحًا، الخ.
عندما استخدم الصحفي الإيطالي، ماركو سيكالا، كلمة «رأسمالية» في مقال له في صحيفة الجمهورية الإيطالية، سأله محرره هل كان استخدام هذا المصطلح ضروريًا، ألم يكن بمقدوره استبداله بمرادف له مثل «اقتصاد»؟
أي دليل أفضل على انتصار الرأسمالية في العقود الثلاثة الماضية أكثر من اِختفاء كلمة «رأسمالية» نفسها؟ إذن، مرة أخرى فالسؤال الحقيقي الوحيد اليوم هو: هل نشجع هذا التطبيع مع الرأسمالية، أم أن الرأسمالية العالمية اليوم تحتوي على تناقضات هي من القوة بحيث تمنعها من إعادة إنتاج نفسها بصورة غير محدودة؟
هنالك (على الأقل) أربعة من العداءات معها: التهديد الذي يلوح في الأفق للكارثة البيئية؛ عدم مواءمة حقوق الملكية الخاصة لما يسمى «الملكية الفكرية»؛ الآثار الأخلاقية- الاجتماعية لتطبيقات التقنية العلمية (خصوصًا في مجال الأحياء الجينية)؛ وأخيرًا وليس آخرا، الأشكال الجديدة للتفرقة العنصرية، في شكل جدران جديدة وعشوائيات.
العداءات الثلاثة الأولى تدخل في مجال ما أسماه الباحثان السياسيان مايكل هارت وتوني نغري «مشاعات»- المادة المشتركة لوجودنا الاجتماعي والتي خصخصتها هي فعل عنيف يجب أن يقاوم بوسائل عنيفة، إن وجب الأمر(العنف ضد الملكية الخاصة، هذا هو الأمر).
مشاعات الطبيعة الخارجية مهددة بالتلوث والاستغلال (من النفط إلى الغابات وحتى البيئة الطبيعية نفسها)؛ ومشاعات الطبيعة الداخلية (الجينات الوراثية للإنسانية) مهددة من قبل التدخل التكنولوجي؛ ومشاعات الثقافة، الأشكال الاجتماعية لرأس المال المعرفي، بالدرجة الأولى اللغة، وسيلتنا للتواصل والتعلم، ولكن أيضا البنية التحتية المشتركة لوسائل المواصلات، الكهرباء، البريد، الخ.- تتم خصخصتها لصالح الربح. (لو سمح لبيل جيتس بالاحتكار، لكنا وصلنا للمرحلة السخيفة حيث يمتلك فرد واحد نسيج البرمجيات لشبكة اتصالنا الرئيسية).
نحن نصبح مدركين تدريجيًا للإمكانات المدمرة، التي قد تصل إلى حدود الإبادة الذاتية للإنسانية نفسها، والتي قد يطلق لها العنان إذا سمح المنطق الرأسمالي الذي يطوق هذه المشاعات بتدفق حر.
الاقتصادي نيكولاس ستيرن وصف بحق أزمة المناخ كـ»أعظم إخفاق للسوق في تاريخ الإنسانية».
هنالك زيادة في إدراك أننا بحاجة إلى مواطنة بيئية عالمية، مساحة سياسية لطرح تغير المناخ كأمر مشترك يهم الإنسانية كلها.
على المرء أن يمنح وزنا لمصطلحات «المواطنة العالمية» و»الاهتمامات المشتركة». أليست هذه الرغبة في إنشاء منظمة سياسية عالمية ومعاهدة لتحييد وتسيير قوى السوق تعني أننا بحاجة إلى منظور شيوعي سليم؟ الحوجة إلى حماية المشاعات تبرر إحياء الفكر الشيوعي: إنه يجعلنا نرى التطويق الدائم لمشاعاتنا كعملية بلترة ( من البروليتاريا) لأولئك الذين بهذه الطريقة تم إقصاءهم من جوهرهم الخاص.
لكن، مع ذلك، فإن العداء بين المتضمنين والمستبعدين هو فقط ما يبرر بصورة صحيحة مصطلح شيوعية. في العشوائيات حول العالم، نشهد نموا سريعا في عدد السكان خارج سيطرة الدولة، يعيشون في ظروف خارج القانون، في حوجة ماسة إلى أدنى درجات التنظيم الذاتي. على الرغم من أن شرائح العمال المهمشة، المفصولين من الخدمة المدنية، والفلاحين السابقين هم من يشكلون السكان، فهم ببساطة ليسوا عطالة زائدة: هم مدرجون في الاقتصاد العالمي، معظمهم يعمل كعمال مستأجرين بصورة غير رسمية، أو كمقاولين مستقلين، بدون تغطية كافية للتأمين الصحي والاجتماعي. (السبب الرئيسي في ازديادهم هو تضمين دول العالم الثالث في الاقتصاد العالمي، حيث الأطعمة الرخيصة المستوردة من دول العالم الأول تدمر الزراعة المحلية). هؤلاء القاطنون الجدد للعشوائيات ليسوا حادثة يؤسف لها، ولكنهم نتاج ضروري لمنطق الرأسمالية العالمية الأعمق.
أي كان من يعيش في، الفافيلات- أو مُدن الصفيح- في ريو دي جانيرو البرازيل، أو شنغهاي الصين، فهو لا يختلف بصورة جوهرية عمن يعيش في ضواحي- أو ارياف- باريس أو جيتوهات شيكاغو.
إذا كانت المهمة الرئيسة للسياسات التحررية للقرن التاسع عشر هي كسر اِحتكار البرجوازيين الليبراليين عن طريق تسييس الطبقة العاملة، وإذا كانت المهمة الرئيسية للقرن العشرين هي التحفيز السياسي للمجموعات السكانية الريفية الهائلة في آسيا وأفريقيا، فإن المهمة الرئيسية للقرن الواحد والعشرون هي تسييس- تنظيم وضبط – «الجماهير المحطمة»- من سكان العشوائيات.
إذا تجاهلنا مسألة المستبعدين هذه، فإن كل العداءات الأخرى ستفقد قدرتها على زعزعة الوضع القائم.
البيئة ستتحول إلى مشكلة تنمية مستدامة. الملكية الفكرية ستتحول إلى مسألة قانونية معقدة. الجينات الحيوية ستصير مسألة أخلاقية. الشركات- مثل هوول فوود وستاربكس- تتمتع بالتأييد في أوساط الليبراليين على الرغم من اِنخراطها في نشاطات معادية للنقابات؛ إنهم فقط يبيعون منتجات بشكل تصاعدي.
أنت تشتري قهوة صنعت بحبوب تم شراؤها بأعلى من السعر المتعارف عليه في السوق.
أنت تقود سيارة هجينة.
أنت تشتري من شركات تقدم فوائد جيدة لعملائها (طبقاً لمعايير الشركة).
ببساطة، بدون التعارض بين المتضمنين والمستبعدين، سنجد أنفسنا في عالم حيث بيل جيتس هو أعظم العمال الإنسانيين في محاربة الفقر والمرض، وروبرت مردوخ صاحب نيوكورب هو أعظم مدافع عن البيئة بوهبه المئات من الملايين عن طريق إمبراطوريته الإعلامية.
في مقابل الصورة الكلاسيكية للبروليتارية الذين «ليس لديهم ما يخسرونه سوى قيودهم»، نحن كلنا في خطر من فقدان كل شيء. الخطر هو أنه سيتم تخفيضنا إلى مواضيع كارتيزية خاوية ومجردة حُرمت من مكونها الأساسي، سُلبت منها مادتها الرمزية، جيناتنا الوراثية المتلاعب بها، ستنبت في بيئة غير صالحة للحياة.
هذه التهديدات لوجودنا تجعلنا جميعا بروليتاريا محتملين. والطريقة الوحيدة للحيلولة دون أن نصير كذلك بالفعل هو العمل بصورة وقائية.
الإرث الحقيقي لـ 68 يتجسد في الصيغة التالية (لنكن واقعيين، ونطالب بالمستحيل).
يوتوبيا اليوم، هي الإيمان بأن النظام العالمي القائم يمكنه إنتاج نفسه إلى أجل غير مسمى. الطريقة الوحيدة. لنكن واقعيين هي رؤية ما الذي، وفق إحداثيات هذا النظام، لا يمكن أن يبدو سوى مستحيل.


الكاتب : بقلم : سلافوي جيجك ترجمة: محمد جمال

  

بتاريخ : 22/06/2019

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

جيد أن تبحث عن ملاذات في أقاصي نيوزيلندا، لكن، أن تحاول تشييد حضارة جديدة على جزر عائمة، فذاك أفضل! إنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *