التجربة الصوفية في الكتابة القصصية: مقاربة في «هيهات» للقاص محمد الشايب

على سبيل البدء

تعبِّر موضوعات التصوف عن تجربة روحية قوامها المجاهدة والمكابدة وصراع الأهواء، قصد الخروج بها من العالم المدنَّس إلى العالم المقدَّس، ويعدُّ القاص محمد الشايب مبدعا دأب على توظيف مقومات الخطاب الصوفي في خطابه السردي، بواسطة استلهام جملة من القضايا والمضامين الأكثر تأثيرا في الوجدان المغربي، حيث انسجمت التجربة الصوفية مع منظور القاص الذي يميل إلى الرمز والانتقال بالمتلقي إلى عوالم فسيحة الأرجاء. وعلى هذا الأساس تروم هذه الدراسة البحث في تجليات التصوف في المجموعة القصصية الموسومة ب”هيهات”(1) للمبدع محمد الشايب.

1 تجليات التصوف في “هيهات”

يسعى القاص محمد الشايب بواسطة تجربته الإبداعية إلى تحديد رؤيته للعالم، انطلاقا من ربط الإبداع بالذات في تمظهراتها الواعية وغير الواعية، بهدف تحديد أحوال الوعي ومضامينه، فضلا عن اعتماده على الحدس الصوفي والاستنباط الروحي، ومعرفة تصوره إلى الحياة والوجود الإنساني في شكل مقولات تيماتية محورية وموضوعات بارزة. وهذا ما جعل قصة “ليلة المجنون” تردم الهوة التي تفصل بين التجربة المعيشة وبين الفن القصصي، بين السلوك وبين الإبداع. يقول السارد في هذه القصة: “ فتح نفر من الناس الباب، ورموا بفتاة وسط الضريح، وأغلقوا الباب خلفها، هذه الفتاة جاء بها أهلها لاعتقادهم أنها مسكونة، وأن بركة الولي الصالح قادرة على إخراج الجن الذي يسكنها»(2). يزخر هذا المقطع السردي، إلى جانبه الإبداعي التخييلي، بمعجم متنوع يضم مجموعة من المصطلحات الصوفية التي تتردد بشكل مطَّرِد ضمن سياقات نصِّية تحيلنا على مجال التصوف الإسلامي، وأخرى ترتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمع المغربي في حقب زمانية متباينة، مثل: عبد السلام المجنون، ضريح الولي الصالح، الفتاة المسكونة، بركة الولي الصالح.
وبهذا تفتح المجموعة القصصية “هيهات” مساحة قرائية تمتح من تيارات متعددة وعلوم مختلفة تسمح بسبر أغوار حياة الإنسان المغربي في كل تجلياتها. ومن ثمَّ تحتفظ مصطلحات المعجم الصوفي بجانبها اللغوي، كما تعبر عن بعد ديني من شأنه أن يُعلي مجموعة من الأسئلة التي بإمكانها أن تسهم في بلورة الفكر المغربي. وهذا الأمر يحفزنا على مقاربة المصطلحات الصوفية التي وظفها القاص في قصة ليلة المجنون من قبيل: الولي الصالح – الضريح – البركة.

2 المعجم الصوفي: الولاية والجذبة

يعرف المتصوفة الولي بقولهم: “من تولَّى الحقُّ أمره، وحفظه من العِصيان، ولم يَخْلِه ونفسه بالخذلان، حتى يبلغه في الكمال مبلغ الرجال”(3). وهو من توالت طاعاته من غير تخلل معصية ومن تولى الحق حفظه وحواسه على الدوام، بتوفيقه وتمكينه وإقداره على فنون الطاعات وكرائم الإحسان(4).
إن الولي من الولاية المتمثلة في دوام الاشتغال بالله والتقرب إليه بطاعته، وإذا كان العبد بهذه الحالة فلا يخاف من شيء، لأن مقام الولاية والمعرفة يضمنان له الدَّعة والأمن، فالولاية -عند المتصوفة- هي الفلك المحيط العام للرسل والأنبياء والأولياء.
أما الضريح فيكون مزينا بالأعلام الفاقعة الألوان وأبرزها الأخضر المرتبط في الذاكرة الشعبية المغربية بالخير والكرامات، حتى إنه كلما ذكر ولي استحضرنا اللون الأخضر، وهو اللون الذي يرافق الأولياء إلى قبورهم. أما الزوايا الصوفية فإنها تحمل دائماً اسم ولي من أولياء الله الصالحين وضريحه. ويستمر الناس في الإيمان ببركة أعمالهم حتى وهم تحت التراب، برأيهم إن انقطع أثرهم من الدنيا لا ينقطع تأثيرهم على الخلق!
أما بخصوص الفتاة المسكونة فإنها تدل على مصطلح “المجذوبة” أو “فيها الحال” هذه الجملة التي تحيل في اللهجة المغربية على أصحاب المس أو الدراويش؛ أي أصحاب الكرامات والنيات الطيبة في سذاجة، الذين يغدون من “مالين الحال” أي أصحابه، في حين يسمى الأولياء الذين يخضعون لتأثير الجن بـ “الأجواد” وهي التسمية التي تحمل في العرف القبول أو الإيمان بالبركة والتميز والجود واليمن أكثر مما تحمل الخوف!
وتطلق العامة كلمة “المجذوب” على السائح ذي الكرامات والمناقب، تجري على لسانه مجموعة من الحِكم منثورة في عدَّة موضوعات، وأغلبها من تجارب الحياة كالرباعيات عن الشيخ عبد الرحمان المجذوب(5). والمجاذيب، في الفكر الصوفي، قوم لهم أمور غريبة وأفعال عجيبة، ولهم تصرفات شادة ظهروا في القرنين: التاسع والعاشر للهجرة. فكانت لهم مجالسهم وآراؤهم، ومعظمهم قد يكون مصابا بأعراض نفسية أو مرضية، أو يكون عنده استعداد خاص ليوهم الناس، ويلقي في روعِهم ما يهيمن على مشاعرهم ونفوسهم، فيجلونه ويحترمونه، بل كان جلُّ العوام البسطاء يجعلون من هؤلاء ملاذا أمينا يلوذون إليهم عند المَلمَّات، وعند عجزهم بصفة نهائية(6). وكانوا يُطلقون عليهم أسماء متعدّدة، منها “أهل الله” و”أصحاب الحال”. فضلا عن هذا كله، يستعمل مصطلح المجذوب رديفا لمصطلح البوهالي الذي يرتبط بالجنون كمرض عقلي، ومن ثم لا يعتد بكلامه، وهو في ثقافتنا المغربية يستعمل بمعنى قدحي للشخص الذي فقد صوابه. فهو الذي يحضر بدربالته كشخصية رافضة لما هو قائم في المجتمع، ساخرة مما ألفه الناس، لهذا قد يأتي كلامه غير مفهوم وشبيه بالهذيان(7).
يتضح أن السلوك الصوفي ليس سلوكا أخلاقيا مجردا، ولكنه سلوك مدفوع بهاجس إبداعي عميق يخترق التجربة الصوفية برمَّتها، باعتبارها تجربة تجمع بين فعل الحياة وبين فعل الإبداع الذي حاول من خلاله القاص محمد الشايب خلق تباعد مع اللغة الاجتماعية (لغة التواصل)، والبحث عن لغة جديدة تنفلت من قيود المعيار الاجتماعي. ومن ثم فإن الخطاب الصوفي في «هيهات» يحتوي على حقل عاطفي وجداني، يضفي على الموضوع الذي يجمع بين المرسِل والمرسَل إليه حمولة عاطفية ودينية، حيث يصبح خطاب القاص وسيلة هدفها التبليغ والإقناع والتأثير على المرسَل إليه بلغة سردية بليغة.

على سبيل الختم

مكنتنا هذه الدراسة من الاطلاع على نموذج متميز من الخطاب السردي بالمغرب، ويتعلق الأمر بالمجموعة القصصية “هيهات” للقاص محمد الشايب، الذي حفل متنه السردي بجملة من الموضوعات التي لا زالت تتفاعل معها العقول والعواطف تفاعلا يظل يتجدد بتجدد أساليب الاستيعاب لدى المتلقي. والغاية من استحضار محمد الشايب للتجربة الصوفية كمعطى تراثى، تتمثل بالأساس في البحث عن الحقيقة فى المطلق، لأن تجربة العمل الإبداعي -عند محمد الشايب- تقوم على العقل الواعي المدرك لما يدور في الواقع الملموس، محاولة القبض على مجرياته داخل القصة، وهي تبعا لذلك تعد تجربة ذاتية واعية للقاص، تعمل على ربط الذات الإنسانية بالعالم وقوانينه الاجتماعية والسياسية. ولهذا استدعى القاص التجربة الصوفية مقرونة بتوظيف تيار الوعي في مجموعته القصصية، وقد نجح في محو الحدود الفاصلة بين التجربة الإبداعية والتجربة الصوفية الى حد التماهي والذوبان، فكل عنصر منهما يعطي للآخر شرعيته الفنية وحقيقته الإبداعية.
هوامش

1 محمد الشايب، هيهات: محموعة قصصية، التتوخي للطباعة والتشر والتوزيع، الرباط، ط.1، 2011.
2 محمد الشايب، قصة ليلة المجنون، ص. 50.
3 عبد الرزاق الكاشاني، معجم اصطلاحات الصوفية، ت. عبد العالي شاهين، دار المنار، القاهرة، ط.1، 1992، ص، 33.
4 نفسه، ص، 33.
5 ينظر عبد الرحمان الملحوني، أضواء على التصوف بالمغرب، منشورات وزارة الثقافة المغربية، دار المناهل، الرباط، 2003 ، ص، 347.
6 نفسه، ص، 215.
7 ينظر حنان بندحمان، «تجليات الجسد في الكتابة الشعرية المغربية المعاصرة»، تنسيق عبد العزيز اعمار وآخرون، اللغة والجسد والمتخيل، منشورات مختبر اللغة والمجتمع، CNRST- URACS6، جامعة ابن طفيل، القنيطرة، 2011، ص، 26.


الكاتب : د. عزالدين المعتصم

  

بتاريخ : 08/11/2018