التقريب والإبعاد

كثيرة هي الأشياء التي تعيد نفسها شكلا وعقلا، تعيد نفسها من خلال آليات لصيقة بأشخاص؛ فكان من الصعب فصلهما عن بعضهما. أينما حل هؤلاء الأشخاص إلا وحضرت هذه الآليات في العمل العامل على التقريب والإبعاد، على التكتل المبني على نزوات عوض مبادئ. وفي المرآة ، ترى الواقع الجمعوي مكتظا بالمفارقات إلى حد الخلط والالتباس الذي يكور الأشياء ، ومنه تكوير الكلام الذي يكور الناس تكويرا .
مناسبة هذا الكلام، هو نهوض الكثير من الجمعيات ( أو هي كذلك ) بهذا البلد بأنشطة ثقافية، غير موجهة بأسئلة تنم على متابعة وحس في النظر؛ كأن هذا الثقافي مفتوح على كل من هب ودب. وفي أفق الانتظار في الحياة والثقافة ، يمكن طرح الإشكالات التالية : إلى أي حد ساهمنا كجمع جمعيات في خلق وسائط تواصل حقيقي دون نفخ وذيلية ؟ . ماذا أعطينا للشعر والقصة ، على سبيل التلقي ؟ هل يكفي تنظيم أمسية قصصه أو شعرية.. فيتفرق الكل أخيرا، وتبقى القصة في القصة والقصيدة في القصيدة. وفي الصميم، يبقى الإطار ـ بوجوهه الموجهة ـ كحانوت العطار : من كل فن طرف وطرب . وكل ما تسأل عنه موجود ومبرمج كأن الثقافة عطور لتطبيب الخواطر الخائبة…ففي غياب مشاريع ثقافية حقيقية ، مبنية على تصورات ورهانات ، أقول في غياب ذلك ، تسود ثقافة الإشهار والإعلان . وهو ما يؤدي للخلط ، وفي نفس الآن المحو من خلال عمل وتنشيط موسمي دون تراكم يذكر؛ ما عدا الإعلانات والشعارات المكولسة خلف الورق المتعدد الألوان .
أعود وأتأمل هذا التكوير بأشكاله وألوانه، ابتداء من الشارع إلى المؤسسة بألسنتها وأوراقها. وغير خاف، أن المؤسسة حين تكون مختلة البناء والترتيب..يسود التكوير: تكوير المقاييس والحصيلة والخطاب. وفي الصورة يبدو الكل مكورا، أي صالحا لملء القوالب والصناديق. وماعليك إلا أن تتكور ، حتى تتلاءم وتتكيف . وإذا سعيت للانفلات هواء، طاردك تكويرهم ، لكي لا تخرج عن منطق الدوائر في التوالد المستدار.
وليس غريبا في هذه البيئة ، أن تتعدد وجوه الوجه الواحد : وجه لهذه المحطة، ووجه لأخرى . وجه يخيط كل الجهات على لسانه وبكامل « الجبهة «، فيتحول مع هذه الحالة الشخص إلى مرتع للوجوه. ولا حول ولا قوة للفكرة وللحالة والموقف. لهذا ترى الأفكار تتقافز والمواقف تتلون..وهلم تقافزا .
وفي المقابل ، قد ترى الوجه الأصيل يحفظ ماءه ، في تلك الزرقة العالقة : الوجه الذي يسود في الألم ، يحمر في الحالة، يبيض في الالتباس كحليب الأمهات ..أعني الوجه الذي يطوي على مهاويه ، وينتصب دوما فوق الخطى المفضية ولو لحافة وحيدة وواحدة . الحافة التي تؤدي إليها طريق وباب واحدة . الباب الذي يوصد على صاحبه؛ وقد يجذبه، ويرميه في غرفة الانتظار التي تكبر لتغدو مجتمعا.
عودة لهذا الجدل الوجهي : بين بلاغة الإعلان والإضمار ، جدليات ومسالك دون رأس أو قدم ، بعضها يؤدي للكرسي والآخر لا يؤدي إلا لوجهه في المرايا المنكسرة. على أي، يمكن تعريف الإنسان ككائن وجهي. الوجه الذي يتخذ من الثقافة مساحيق ، لعبور سلس ، بكامل اللباقة والمشروعية الوجهية، الضالعة في تخصص « الوجهانية» .
وفي سياق أقرب وذي صلة ، المبدع الأصيل ـ في ما يبدو لي ـ بلا حسابات لأنه لم يأت من الخلف المؤدلج ؛ بل أتى بياضا على بياض وإلى بياض ينتهي ، أتى أسئلة وحرقة . وهو بذلك، لا يصلح كمتكأ لأية انتهازية على السلم الثقافي أيضا . وغير خاف، أن أخلاقيات المبدع النبيلة، تكسر على ظهره، وتجعله في حومتهم عرضة للحبال والحربائيات..


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 11/01/2019