الجــــزائـــر أمام خيـارين مغاربيـــــــين لاثالث لهــما

الاعتبارات السياسية، ذات البعد الاستراتيجي، التي تؤطر المساعي المغربية المتواترة، من أجل تهدئة وتطبيع العلاقات المغربية-الجزائرية: سواء تعلق الأمر بالدعوة إلى حل سياسي، سلمي دائم للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، أو تعلق بمبادرة «الحكم الذاتي» للأقاليم الجنوبية المغربية، موضوع النزاع، أو تعلق بفتح مفاوضات مباشرة، مغربية-جزائرية، وفق توصيات الأمم المتحدة، – إن هذه الاعتبارات السياسية قد أبانت للرأي العام المغاربي والدولي جدية وواقعية، وحسن نية المملكة المغربية في إيجاد تسوية سياسية، عادلة ودائمة للمسائل الخلافية بين المغرب والجزائر، عبر منهجية الحوار والتفاهم والتوافق.

 

 

1/ لقد شكلت مبادرة جلالة الملك محمد السادس، في خطاب الذكرى الثالثة والأربعين لــِ»المسيرة الخضراء»، والذي دعا فيه جلالته الجزائر إلى إرساء «آلية مشتركة للحوار والتشاور»، تُكرس إطاراً مشتركاً لدراسة ومعالجة المسائل الخلافية بين البلدين – شكلت تلك المبادرة حدثاً سياسياً بالغ الأهمية بالنسبة للمنطقة المغاربية.
وقد ترددت الأصداء الإيجابية للمبادرة المغربية في المنتظم الأممي، كما في المنتظم الدولي، وفتحت باب الأمل لدى الأوساط الجزائرية والمغاربية، لجهة تعزيز أمن واستقرار المنطقة المغاربية.
بيد أن لوذ سلطات الجزائر بالصمت المطبق إزاء المبادرة، في مرحلة أولى، ثم محاولتها، في مرحلة ثانية، الالتفاف عليها، والزج بها في سياق مختلف، كان – ولا يزال – نتيجة حتمية لمقدمة الأزمة المستحكمة في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، منذ عام 1994 – إن هذه المحاولات الالتفافية على المبادرة الملكية لا تخفف في شيء من مسئولية تهرب السلطات الجزائرية من التعاطي الإيجابي مع خيار استراتيجي، كما هو خيار المبادرة المغربية، يحظى بتطلعات وترقبات الشعوب المغاربية الخمس، وفي مقدمتها الشعب الجزائري الشقيق.
وقد أثار هذا الموقف الجزائري الملتبس من المبادرة المغربية سيلاً من التساؤلات والتأويلات في أوساط الرأي العام حول حقيقته ومدلوله، وحول انعكاساته ونتائجه؟
ولعل من أسباب حَرج السلطات الجزائرية، إزاء مبادرة العاهل المغربي، ما أبداه ويُبديه الشعب الجزائري، نُخباً سياسية وثقافية، وقطاعات اقتصادية واجتماعية، من تجاوب وتفاؤل بهذه المبادرة البناءة التي تتوخى إعادة العلاقات الجزائرية-المغربية إلى وضعها الطبيعي، مما يمكن مواطني البلدين من التواصل والتزاور والتساوق بدون موانع سياسية ولا حواجز حدودية…
وسواء تمكنت سلطات الجزائر من التغلب على باثولوجيا العداء المكين للوحدة الترابية للمغرب، أو لم تتمكن، فإن المبادرة المغربية الداعية إلى «الحوار المباشر والصريح مع الجزائر الشقيقة لتجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية التي تعيق تطور العلاقات بين البلدين»، كما جاء في خطاب جلالة الملك، – قد أطلقت دينامية جديدة، من شأنها أن تغير، عاجلاً أو آجلاً، من واقع المجافاة والجمود اللذين طبعاها، وما يزالان يطبعانها، منذ أزيد من عقدين من الزمن (1994-2018).
2/ ومهما يكن الموقف الحالي لسلطات الجزائر من تطبيع العلاقات المغربية-الجزائرية، التي تشكل، بدون منازع، رافعة أساسية للمسيرة المغاربية، فإن مستقبل الأمن والاستقرار والازدهار بالمنطقة المغاربية، يظل محكوماً بإرادة التغيير وبقدرة التفاعل والتكيف مع ناموس التحولات العميقة التي تطال عالم الناس في القرن الواحد والعشرين.
وتواجه الجزائر اليوم، أكثر من أي وقت مضى – ولأسباب داخلية وخارجية معروفة –، وضعاً جيو-سياسياً دقيقاً، يضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما خيار التقدم والانفتاح والتطور، المحكوم بشروط التفاهم والتعاون والتكتل، وإما خيار التقوقع والقطيعة والانكفاء، المفروض بواقع التنازع والتضارب والتبعثر…
أما الخيار الأول، فإنه يقتضي الاستجابة الواعية البناءة لمنطق ودينامية السيرورة الجيو-سياسية في المنطقة المغاربية، وهي سيرورة استكمال بناء «اتحاد المغرب العربي»، وهو البناء الجهوي الذي يشكل مجاله الجغرافي وإمكانه الاقتصادي، وثراؤه الثقافي، عنصر توازن، وشرط تكامل مع المجال الجيو-سياسي الأوسع، مجال الحوض الغربي للمتوسط.
وفي سياق هذا الخيار التاريخي، المستقبلي الرشيد، تنفتح أمام الشعوب المغاربية فُرص تنموية واعدة، تمكن اقتصاديات دولها من اختراق الطوق القطري الذي يحد من نموها وتطورها، للانخراط في أفق مجالي أوسع، يمكن من تعبئة واستثمار الإمكانات (Potentialités) البشرية والاقتصادية المعطلة في ظل وضع اللامغرب، ويوفر شروطاً تنموية جهوية، مغاربية مشتركة، على قاعدة التكامل والتعاون والتكتل…
أما الخيار الثاني الذي ينحو نحو إدارة الوجه لنداء الانفتاح والتصالح والتعاون، ويواصل الإيغال في موقف التقوقع والانكفاء داخل الطوق القُطري، بذرائع واهية، ليس أقلها «تمنيع» ما وراء «الحدود الغربية» للجزائر من عدوى الانفتاح والتفاعل والتعاون – فإنه خيار لا يقود في الحقيقة إلا لمزيد من العزلة والنكوص، تتغذى بهما ذهنية التفرد ونزعة التوتر…
ولما كان الخيار الأول يمثل خيار العقل، وشرطَ المستقبل المشترك، فإن إرادة الانخراط فيه، بعد أزيد من عقدين من المجافاة والانعزالية والتوترات، قد أضحت اليوم، في ظل حالة الاستثناء التي ما فتئت تُلاحق أقطار المغرب العربي في مجال التكتل الجهوي، والتنمية المجالية المشتركة، مطلباً شعبياً مغاربياً، تلتقي حوله وتتفاعل معه الشعوب المغاربية من المغرب الأقصى إلى الجزائر، مروراً بشعوب تونس وليبيا وموريتانيا… وبعبارة أخرى، فإنه مطلب شعبي راسخ الجذور، منذ العهد الاستعماري، عميق الدلالة منذ فجر الاستقلال…
وبهذا المعنى، ذي الأبعاد التاريخية والسياسية والراهنية، فإن مبادرة جلالة الملك، بإرساء «آلية مشتركة للحوار والتشاور» بين المغرب والجزائر، في اتجاه معالجة الملفات العالقة بين البلدين، تمهيداً لإعطاء انطلاقة جديدة لمسيرة «اتحاد المغرب العربي»، تشكل في الحقيقة مبادرة شجاعة، وتترجم فاتحة مغاربية مثلى، لإرساء طراز جديد من العلاقات الثنائية، المغربية-الجزائرية، قوامه التفاهم والتعاون، على قاعدة المشروعية التاريخية، والواقعية السياسية، والرؤية المستقبلية للفضاء المغاربي الذي لا مستقبل له خارج إطار التفاهم والتعاون والاندماج.
3/ ومن نافل القول، فإن الاعتبارات السياسية، ذات البعد الاستراتيجي، التي تؤطر المساعي المغربية المتواترة، من أجل تهدئة وتطبيع العلاقات المغربية-الجزائرية: سواء تعلق الأمر بالدعوة إلى حل سياسي، سلمي دائم للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، أو تعلق بمبادرة «الحكم الذاتي» للأقاليم الجنوبية المغربية، موضوع النزاع، أو تعلق بفتح مفاوضات مباشرة، مغربية-جزائرية، وفق توصيات الأمم المتحدة، – إن هذه الاعتبارات السياسية قد أبانت للرأي العام المغاربي والدولي جدية وواقعية، وحسن نية المملكة المغربية في إيجاد تسوية سياسية، عادلة ودائمة للمسائل الخلافية بين المغرب والجزائر، عبر منهجية الحوار والتفاهم والتوافق.
ومن تم فإن المبادرة الجديدة التي أطلقها العاهل المغربي لتكتسي طابعاً راهنياً قوياً، في ظل ما بات يتهدد المنطقة المغاربية من مخاطر وتحديات، في مقدمها خطر الإرهاب الداهم، وتحدي الجريمة العابرة للمناطق والقارات، وإشكالية الهجرة غير الشرعية…، وغيرها من المخاطر المحدقة بالأقطار المغاربية، المهددة لأمنها واستقرارها وسلامتها.
وقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن محاصرة هذه المخاطر، وردع هذه التحديات لا يتأتيان بشكل فاعل، ناجع، إلا بتضافر جهود الأقطار المغاربية الخمس، وبتنسيق سياساتها الجهوية، وبتعاون مؤسساتها الأمنية الخ…
وهو أمر بات يستدعي إرساء إطار مؤسساتي، مغاربي، تشاركي مندمج، مؤهل لمواجهة هذه التحديات المشتركة. وفي صميم هذا التوجه الاستباقي لتأمين سلامة وأمن واستقرار الفضاء المغاربي، تكمن رؤية وحكمة مبادرة العاهل المغربي، الرامية إلى ترميم وتطبيع العلاقات المغربية-الجزائرية، التي أثبتت تجربة ربع قرن من الزمن أنها تشكل قوام البناء المغاربي، وشرط استئناف وتواصل مسيرته…
ومن هذه الزاوية الجيو-سياسية، فإن المبادرة المغربية تضع موقف سلطات الجزائر، إيجاباً أو سلباً، أمام قضاء الشعوب المغاربية كافة، بل أمام محكمة التاريخ…
الرباط في 4 دجنبر 2018


الكاتب : السفير محمد الاخصاصي

  

بتاريخ : 06/12/2018