الدراسات الثقافية وسؤال الأنساق المضمرة

رهانات التجربة النقدية عند الدكتور إدريس الخضراوي نموذجا

 

 

 

1 ـ في سبيل تحديد
البداية المنهجية

تتوطد وتتعضد القراءة المنهجية المبنية على أسس الملاحظة والفهم والتفسير والتأويل والبحث في الأثر الإبداعي وأوقاعه وتلقياته، بين النص ككائن والقارئ كممكن، أي بين سلطة الكتابة التي تنتسج وفق وضعيات فعلية الحضور وتعددية القراءة التي تتجذر كلما تنوعت فهوم متلقيات النص الغائب باستمرار، وبما أن هذه القراءة المنهجية تسعى إلى توطين توحيد التعدد ضمن مسوغات قرائية مفتوحة على حقول معرفية مختلفة، فإننا نتغيا أن يكون هذا التصورـ الصوغ احتمالا للمقايسة التحاقلية بين طبيعة المتن وما يطمح إليه، بين النسق وتمثلاته، إذ أن مختلف النظريات الأدبية الحديثة واللسنية منها والسوسيوثقافية بالأساس، استطاعت أن تعيد المدونة الأدبية إلى أصولها، وذلك من خلال رد الاعتبار إلى هوية النص وهو يعلن عن نوعه أو جنسه، ومهما كان الاختلاف في هذا الشأن سواء عند جيرار جونيت، أو ميخائيل باختين أو موريس بلانشو، أو بنديتو كروتشه أو تزفيطان تودوروف، أو جون ماري شيفر، أو هانز روبير ياوس، فإن الأهمية المخصوصة التي تؤطر مسألة النوع الأدبي، باعتباره موئلا كليا للنص، هو استناده إلى الخلفية الثقافية التي تبنيه وتنظمه، وبهذا فالعملية تترجح بين فاعل ـ مؤلف(بتشديد اللام وكسره)، ومفعول به قارئ ومفعول فيه ككيان ثقافي يفصح عن انتمائه، « ومادام النص له مدلول ثقافي فإنه يحتفظ به ويخشى عليه من الضياع. فهو لهذا السبب يدون ويحصر بين دفتي كتاب، إلا أنه لا يكفي أن يكتب قول ليصير نصا. ولاينبغي أن ننسى أن النص يكون كذلك حسب وجهة نظر ثقافية معينة، ففي المجتمعات التي لا تكون الكتابة فيها منتشرة انتشارا واسعا، يمكن اعتبار التدوين معيارا كافيا، إذ لا تدون إلا النصوص، وهذا ما حصل مثلا في العصر الكلاسيكي العربي، أما في المجتمعات التي تنتشر فيها الكتابة انتشارا واسعا فإن التدوين ليس بالمعيار الكافي»1.
من هذا المنظور، إذن، استمدت الدراسات الثقافية أهميتها وخصوصيتها في نفس الوقت، بحيث إنها منحت للنص اعتباره الجوهري الذي كاد أن يفقده بحكم تفكك النظم وتلاشي القيم، وتغييب الهوية الثقافية قسرا، وقد تم ربط النص الأدبي بخطابه المعزز بمرجعيات متنوعة حصنته من السقوط في النظريات السياسية الدوغمائية المختلفة، ذلك أن استدعاء الأدبية كمفهوم للنص الأدبي من خلال الخطاب المحمول، ووعيه بمكونات مرجعيات ثقافته، هو ما يدل على أن قراءة النص الأدبي من وجهة ثقافية تستحضر المضمون الحضاري في أبعاده الاجتماعية والأنثروبولوجية والنفسية وغيرها، يشير إلى هذا ت.س.إليوت، قائلا: «أعني بالثقافة في المقام الأول ما يعنيه الأنثروبولوجيون: أي أسلوب حياة مجموعة معينة من البشر يعيشون معا في مكان واحد، تتضح تلك الثقافة في فنونهم، وفي نظامهم الاجتماعي، وفي عاداتهم وتقاليدهم، وفي دينهم. ولكن تلك الأشياء معا لا تؤلف ثقافة …، فالثقافة أكثر من مجرد مجموع الفنون والعادات والمعتقدات الدينية. فكل تلك الأشياء يؤثر بعضها في بعض. ولكي نتمكن من فهم إحداها بشكل تام يجب فهمها جميعها»2.
إن القراءة الثقافية للنص الأدبي تستلزم الوعي الشامل، ليس من خلال بنائه المعجمي والتركيبي المألوف، بل من محصلات الخطاب، وما تشير إليه على مستويات الأشكال النسقية الثقافية، وما تنطوي عليه من أبعاد وظيفية ذات دلالات مضمرة يختزلها النص بين تلافيف لغته وبلاغته وأسلوبه، وهو بهذا ينزع نحو التوتر ليخلق بذلك غرابته المتمثلة في صنعته الفنية والجمالية، التي تتشكل من خلال وظيفة النص الممهورة بتمظهرات شكلية تستضمر ما يشمله الخطاب من صور وآثار.

2 ـ بناء المشروع

إن ما نلاحظه، ونحن نسائل مشروع الدكتور إدريس الخضراوي النقدي، انطلاقا من كتبه « الأدب موضوعا للدراسات الثقافية»3 و» الرواية العربية وأسئلة مابعد الاستعمار»4 و» سرديات الأمة، تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة»5، هو أنه لفت نظرنا إلى مصوغة نقدية ذات أهمية بليغة لها ميزتها الخاصة، تكمن في رؤية منهجية مفتوحة، على المرجع وطرائق بنائه واستراتيجياته المحددة لخطاباته، هذه المصوغة تتغيا ربط النص بتمثلاته الثقافية الإنسانية، لذلك ف» إن الدراسات الثقافية التي تقدم نفسها بديلا لهذا التوجه في القراءة تعتبر كل منتج إنساني نصا عن هذا الإنسان و تعبيرا صريحا عن ذاته. وإذا كان يحسب لها هذا النزوع إلى تحرير الذات من سطوة الانتماء والانحياز إلى تاريخ أو هوية ناجزة أو مكتملة، بغية تحقيق تلك المسافة التي تمكن من فهم الآخرين والشعور بهم والإنصات لتجربتهم، فإن هذا التوق المعرفي ليس بمنجاة من التسامي و الارتفاع و الوقوع في حبال الانتماء و التمركز الذي انبرت لنقده وتفكيكه. فالشمولية المعرفية هاهنا تبدو محدودة وغير ممكنة»6، إضافة إلى هذا، فالتقاطع الحاصل بين المنتج ـ النص، والإنسان ـ الذات ما هو إلا انتماء ـ هوية لفهم وتفسير شعور أووجدانيات الآخر باعتباره يتقاسم نفس التجربة الكونية، وبالتالي فما يجمع بين كل هذه العناصر هو تمركز المسافة بين الأنا والآخر، ضمن مفارقات المركزي والهامشي، أو الراقي والدوني، أوالفوقي والتحتي، أوالجيد والفاسد، « بحيث إن المستهدف هنا هو النص الأدبي في علاقاته وتشابكاته وتقاطعاته مع الحقل الثقافي الخاص والعام، لذلك نرى أنه من الضروري تأطير الظاهرة الأدبية من خلال انتمائها ضمن تنوع المقاربات القرائية، بخصوص النظريات النقدية، ففي مشروعه الأول4 الموسوم ب»الأدب موضوعا للدراسات الثقافية»، وضع فرشا نظريا عرف فيه ماهية النقد، بين تحديد المفهوم واستشكال نظرية الأدب، ثم انتقل إلى الربط الذي حصل مع الدراسات الثقافية، وهو متمثل في مشاريع قائمة على نفس البنية والتصوروالامتداد، خاصة عند إدوارد سعيد وعبد الله الغذامي وحسن البنا عز الدين وعبد الله إبراهيم ونادر كاظم، فإدوارد سعيد يطرح إشكال الاستشراق مطالبا بتقليبه في ضوء النقد الأدبي، وذلك دون إهمال مفارقات معاناة المنفى والتدمير النفسي والاجتماعي، في حين ركز الغذامي على النقد الثقافي في علاقاته بالمتون والخطابات وما تستضمره من أنساق متنوعة تخدم الثقافي بالأساس، أما حسن البنا عز الدين فاشتغل على المكون الشعري وقاربه من منظور الوعي بالكتابة، إذ ربط بين ماهو شعري في الكتابة وما هو ثقافي في القراءة، وعبد الله إبراهيم الذي صاغ أسئلة تهم الرواية العربية في مرحلة نشوئها، ولكي يعيد ربطها بالواقع المجتمعي سخر مفهوم التمثيل السردي، في حين أن نادر كاظم اهتم بالمتن ثقافيا في خصوصيته العربية، متمثلا بذلك الآخر الأسود، ولكي يفسر هذا، فقد استثمر مكوني التمثيل والنسقية، وبالتالي استدعى عنصر الوعي بالمفاهيم.
إن جل الدراسات النقدية القديمة والحديثة ما لم تستوعب أدواتها، لا يمكنها أن تستعيد النص من فوضاه التخييلية، لأنه أساسا طارئ ثقافيا وقابل للقراءة والتأويل، أما بخصوص نقد النقد، فقد نظر إليه من خلال ثلاثة أسماء، هي:
ـ أحمد محمد البنكي الذي وظف القراءة التفكيكية في مقاربته النقدية، واشتغل على المرجعية الدريدية كأفق لتمثل النص وتأويله.
ـ جليلة طريطرالتي صاغت قراءتها للسيرة الذاتية من منطلق نقد النقد، وحاولت أن تحدد السمات الخطابية وبنيات المدونة، وبالتالي إعادة إقامة السياقات والتعاقدات والهويات.
ـ محمد الدغمومي الذي ارتأى بدوره أن يعيد قراءة الخطاب النقدي من منظور نقد النقد، بحيث راهن على التحولات بدءا من سنة 1985، ثم عرج على السياقات التي ساهمت في البناء والتشييد وانتهى إلى خطاب تأصيلي وتأسيسي وتوفيقي، دون نسيان الانطباعي فيه، والجامعي، والواقعي، فالقارئ ـ الناقد تكمن أهميته في محاولة الكشف عن الطرائق والأدوات المستخدمة، والضبط المنهجي واللغوي وتصيد والتقاط الزوايا الفنية والجمالية في العمل الأدبي.
وبما أن المنظور الأول يرصد الأدب بوصفه موضوعا للدراسات الثقافية، فإن المنظور الثاني يعتمد فيه على صياغة مقاربة تأويلية، تعيد قراءة النسقية السردية التي ما فتئت تستلهم آليات شكلية في تحليل المتون، دون ربطها بالخطابات أوالغايات، ودون وعي منها بعلم الأدب، هكذا يلاحظ الدكتور سعيد يقطين وهو يقدم لكتاب»5، الرواية العربية وأسئلة مابعد الاستعمار»، قائلا:» إن العلم الأدبي، وفق هذا التصور، نشاط ثقافي ومعرفي ينشغل بالنص الأدبي باعتباره هو أيضا نشاطا ثقافيا إنسانيا، وبحسب تطوره في مقاربة التعبير والمحتوى، الخطاب أوالقصة، يندرج في ملامسة مختلف الأمور التي يتطلبها النص الأدبي ويستدعيها، بناء على ما يفرضه الواقع العلمي أولا(تطورالمعرفة)، والواقع العملي ثانيا، بهذه الرؤية يختط علم الأدب لنفسه موقعا خاصا ومتميزا في تاريخ الثقافة والعلوم الإنسانية معا، وبذلك اشتغل النقد الأدبي الذي تشكل في أحضان هذا العلم الأدبي متتبعا خطاه في تحليل النصوص من منظور سيميائي أوسردي منشغلا بقضايا فهم النص لا تأويله، ومهتما بإدراك آليات اشتغاله، لا ملابساته المحيطة به، وكان أن جاء النقد الثقافي»7، إذ اختزل هذا المدخل عناصر الأرضية التي بني على أساسها النقد الثقافي أسئلته، مركزا على التفكير في النص الأدبي، ليس كمعطى مألوف، بل كإدراك للتناول الثقافي الذي يخلقه الإنسان، ويجعله مدونة لنشاطه، وبذلك يصبح الأمر خاضعا ـ تجاوزا ـ إلى تمرس بنيوي ـ نصي وتكويني ـ اجتماعي وتاريخي ومعرفي و..، بحيث إن هذا التمثل لا يكتفي بالعودة إلى المكون الثقافي فقط، وهو ما قد يلاحظه البعض، بل إلى سياقات مختلفة، تؤسس للنص عبوره إلى أسئلة الانتماء والذات والآخر، وبالتالي إلى «تأويلات إيديولوجية جديدة» تعكس آراء ومعتقدات الدارسين الثقافيين» 8.
وفقا لهذا التصور، فإن الباحث إدريس الخضراوي يلتزم باحتراز شديد، إبراز مصوغات النقد الثقافي كوعاء شمولي يجمع مختلف آليات وعناصر الدراسات الثقافية التي انفتحت على المجتمع والثقافة والأنساق الرمزية، بما فيها الطقوس والعادات والهويات والتأويلات ذات الامتدادات في التمثيلات الثقافية للسرديات كخصوصيات تسائل سياقات النسق ـ المركز وتفاعلاته مع نسخته ـ هامشه،»والنص السردي العربي المعاصرمن أهم وسائل التعبير التي تتشيد فيها هذه الرؤى الجديدة، فاهتمامه الموسع بالثقافة واشتغاله جماليا على التاريخ وفق قراءة واجتهاد مغايرين، يحقق للتخييل دورا معرفيا أساسيا، يتمرد على العقلانية الديكارتية التي لم تعترف له بإسهام يذكر في بناء المعرفة والتأسيس لمنعطفاتها»9، وبما أن هذا الطرح يتخذ من محاولة انتهاك النسق المتعالي للنص بؤرة له، فإنه يخضع بالضرورة إلى شروط التفكيك والهدم لإعادة بناء شعرية الخطاب وإبدالاتها الثقافية، وذلك قصد معاينة التمثيل الرمزي الذي تخفيه سلطة النص، أوتجعله خادعا من خلال تشكلاته، بحيث إن وظيفة النص الأدبي هي أصلا ثقافية، يمكنها أن تنفتح على القراءة الاجتماعية والأنثروبولوجية والتاريخية، لأن الوظيفة هنا تلعب دورا مركزيا يعيد طرح سؤال الهيمنة التي تبرر الشرعية الرمزية المتمثلة في المتعالي النصي، ولعل هذا نجده في علمي السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، حينما يفسران الوظيفة بأنها لا تخرج عن نسق» جرائم الغرب الاستعماري»10، وفي نفس الوقت، تتمثل» حاجة الطبقة الوسطى لتبرير إيديولوجي لشرعيتها الاجتماعية الخاصة»11، وهو ما قدم كتفسير للوظيفة الثقافية باعتبارها مهيكلة للإجتماعي من خلال تعالقاته الجوانية، لذلك ف»إن التحليل الثقافي الوظيفي يواصل ما نعتقد أنه إضافة مثمرة للتساؤل حول كيف تتنوع نماذج العلاقات الاجتماعية، وكيف تتنوع المصادر التي تستطيع هذه الأنماط المختلفة للعلاقات الاجتماعية أن توظفها لحل الصراعات الداخلية».12 هكذا نرى الناقد، وهو يقدم للرواية العربية متسائلا عن تخييل تاريخ ما بعد الاستعمار، كيف أنه يرتب الأنساق الثقافية، وذلك من خلال موضعتها ضمن اعتبارات أساسية ثم تحديدها ثقافيا وإعادة بناء نسقيتها وفاعليتها الروائية، ولعل من أبرز المباحث التي نص عليها تبعا لما أسلفنا، يمكن الإشارة إلى(الرواية والتمثيل الثقافي وسياق مابعد الاستعمار)، و(تفكيك الآخر، الرواية وأسئلة مابعد الاستعمار)، و(المكان والذاكرة والمرجعيات الثقافية)، وقد كانت الروايات العربية المدروسة هي: «تغريبة أحمد الحجري» لإبراهيم عبد الواحد، و»كتاب الأمير» لواسيني الأعرج، و»ذاكرة جسد» لأحلام مستغانمي، و»الآخرون» لحسونة مصباحي، و»الربيع والخريف» لحنا مينة، و»تل اللحم قصة مرايا سيد مسلط» لوالي نجم، وبذلك يمكن أن نسجل هنا انفتاح الدراسات الثقافية على مختلف جوانب النص الإبداعي، وهو كما يقول الكاتب في بعض استنتاجاته «على هذا النحو فالرواية العربية المعاصرة وهي تندرج ضمن الحركة الفكرية الشاملة بكل همومها وأسئلتها ورهاناتها، يمكن أن يكون إسهامها لافتا في تحرير الذات»13، إلا أن اشتغاله في كتابه الأخير(سرديات الأمة…) على التخييل التاريخي وثقافة الذاكرة، مكنه من الوقوف حسب منظورنا على أهمية المحكيات في تاريخ السردية المغربية قديما وحديثا، وهو ما لفت نظرالدكتور عبد الرحمان طنكول في تقديمه للكتاب أن يقول:»إن الخضراوي يدعونا لقراءة متأنية في هذه «المرويات» التي تغافل النقد عن مقاربتها، مكتفيا في أغلب الحالات بالتقاط ما يعلو على السطح من اهتزازات، وهو موقف ينم عن عدم إدراك التحولات التي طرأت على النقد المغربي من خلال مساهمات بعض رواد النقد الحديث ببلادنا، من مثل محمد برادة وأحمد المديني اللذين باشرا منذ الثمانينيات دراسة الأعمال الروائية وفق منظور جديد تغذى بطروحات بارت وباختين وكريستيفا. وبالتالي كان لهما دور حاسم في تسليط الضوء على ما هو أساسي في الكتابة الروائية: الهامش المنفلت، تجليات اللامعنى، الحوارية الاجتماعية بما تنطوي عليه من تجاذبات»14، وبهذا فطنكول بقدر ما يبرز هذه الصورة يأتي بما هو إيجابي ويسعى إلى تطويروتجديد التجربة النقدية للناقد إدريس الخضراوي، وذلك من خلال مرجعيات أطروحاته ووعيه بأدوات اشتغاله المنهجية، بخصوص السرديات العربية والمغربية المعاصرة والحديثة، قائلا:»…استطاع أيضا أن يقدم لنا نظرة تركيبية متكاملة عن مختلف العوامل التي حددت تحولات الرواية المغربية، متطرقا في نفس المقاربة لمختلف الروافد التي وجهت النقد الروائي نحو آفاق لم يعرفها من قبل، نذكر من بينها على الخصوص الدراسات الثقافية وتوجهاتهاالمابعدحداثية»15، واختزالا لتيمات كتاب «سرديات الأمة» فإن الناقد ركز على محاور كبرى، هي: الرواية، التحولات ورهانات الكتابة، والسرد وثقافة الذاكرة، والتخييل التاريخي والأسئلة المضمرة، وسرد انزياحات الهوية، وكتابة الهامش الاجتماعي، والسيرة الذاتية، الحقيقة المستعادة ورهانات الكتابة16، وبذلك يمكن في رأينا أن نقول بأن تجربة الناقد إدريس الخضراوي تظهر جوانب مهملة في التجربة الروائية العربية والمغربية، وتحفر بآليات الدراسات الثقافية قصد تفجير المسكوت عنه وإضاءة المعتم المخبوء ضمن مضمرات البنى الثقافية المركزية، وذلك قصد تقويضها وإعادة بنائها وفق صورة تخضع إلى الوعي بالذات الطبيعية وبالانتماء الهوياتي، وليس الارتكان إلى ماهوسائد، إضافة إلى تنزيل إواليات نقدية تضبط نسق القراءة التأويلية المفتوحة على معارف ونظريات ومناهج مختلفة، كالكتابة الواقعية والرد بالكتابة والشك في التمثيل، وتشظي الشكل الروائي، وجماليات التركيب الروائي، وتفكيك التمثيلات المكرسة، والهوية السردية، والتخييل التاريخي، والهويات المركبة، والسرد من الأسفل، والفعالية التناصية والحوارية الاجتماعية، والمحكي الذاتي، والمادة السير ذاتية ومقتضيات الكتابة، وإذا كانت هذه الأدوات القرائية، متجاوزة لمفهومها الكلاسي الغربي، والتي نحتها النقد المعاصر والحديث، من بين أهم المفاتيح الضرورية لفهم النص وما يحمله خطابه من دلالات ومعان، فإنها بذلك تصبح من العناصر الجوهرية في تحققات تواصل النص الأدبي، ولحم بنياته المتعددة، والبحث في خطابه عن تأصيل وتأسيس هويته، وجعلها من الاستراتيجيات التي تشيد العلاقة بين محمول خطاب النص والمتلقي، وبين الرسائل المشفرة التي تكمن في ماهية الذات المنكتبة سردا مقاوما، وارتباطها بالآخرالذي يسعى إلى تبديد تكامل ما يجمع في الأثر الروائي بين هويتين، سردية بنائية وثقافية دلالية، بهذا يتضح أن الناقد إدريس الخضراوي بقدر ما يقرأ النص الروائي من منطلق الدراسة الثقافية، فهو لا يلغي في نفس الوقت الجوانب الفنية والجمالية، التي تختزل تقنية صنعة الكتابة الروائية وطرائق أسلوبية سردها.

3 ـ استراتيجية القراءة بالمفاهيم

إن السمة الناظمة للنص الأدبي هي المتمثلة في سياقاته الثقافية الرمزية وغيرها، وذلك لاعتبارات قاعدية مؤسسة على أنماط تتداخل فيها سجلات ومدونات حضارية ممتدة في التاريخ والوجود وكينونة الانسان وسيرورته، بحيث تستحيل الاستجابة للنسق النصي إذا لم تتوفر الشروط المحفزة للتفاعل بين شكل النص الأدبي ومحتواه، وهو ما ينظر إليه عند البعض بوهم الفصل17، إلا أن مشروعية الوصل تتأكد من خلال ترسيخ الوعي النقدي الملازم للنص والشرط الإبستيمولوجي، الذي ينضد التحديد المفاهيمي ويدقق ماهيته الإصطلاحية، وبما أن الربط بين الإثنين(بين الفصل والوصل بخصوص الشكل والمحتوى)، يستلزم تقوية درجات الاتساق الشكلية للنص والانسجام الخطابي المساهم في رجاحة المتخيل الخاضع إلى القراءة والتأويل.
إن النص يمكنه أن تتجاور فيه مفاهيم عدة، نتخذ من بذرتها الاصطلاحية آلية لإعادة التأسيس و البناء، بعيدا عن إيديولوجية قد تكون فضلة، أو زائدة عن لزوم شرعية أدبية النص،» وكلما تم فرز الإيديولوجيا عن الثقافة( بما فيها الثقافة السياسية) تم تحديد متنها وتحليل آلياتها المختلفة. وفي هذا الصدد تبدو تحليلات نيتشه وفرويد أقرب إلى الثقافة عامة منها إلى الإيديولوجيا بالمعنى الحصري، وهي الأبعاد التي ركز عليها المحللون السوسيولوجيون الفرنسيون على الأقل، ومن أبرزهم بيير بورديو وجوزيف غابل وجان بشلر ورايمون بودن، وهي التحليلات التي تبرزها تحليلات العروي عمقا وسمقا»18، لهذا فالمرجعية التي تتأسس عليها القراءات الثقافية تستند إلى مواضعات سوسيولوجية تستبطن خصوصيتها من النقد والدراسات والتحاليل المختلفة، وهذا كله يدخل في حقل الدراسات الثقافية، كـ»مجموعة من النظريات، أهمها: النظرية الاجتماعية، والنظرية السياسية، والتاريخ، والفلسفة، ونظرية الأدب، والنظرية النسوية، ونظرية وسائل الإعلام، ودراسة الفيلم والفيديو، ودراسات التواصل، والاقتصاد السياسي، والترجمة، ودراسات المتاحف، ونقد الفن، إلى الظاهرة الثقافية في مختلف المجتمعات»19، وبما أن هذا قد ينسحب على مجمل مظاهر الطروحات التي تنطلق من استراتيجية تفكيكية للظاهرة الأدبية، فإن حدود النص ترتهن إلى خلفية هوياتية، تسعى إلى ضبط الانتماء والتحكم في مسارات تأويلية سياقية وتداولية، لعل أهمها يتمثل في أعمال إدوارد سعيد، وهومي بابا، وجورج بلانديي، وبيل أشكروفت، وفرانكو موريتي، وجياتاري سبيفاك، وجوامنسيل وغيرهم.
وتبعا لهذا التوصيف لاستراتيجية القراءة المنطلقة من عتاد الدراسات الثقافية نلمح أن الترسانة الأداتية في المنهج تتغيا وضع الأدب كنسق لجماع التمثلات الرمزية المضمرة والظاهرة، فالتمثيل السردي لا يجعل من الرواية تعكس الواقع كما هو، بل يضبط إيقاعها وفق كتابة تنفتح على وعيها باللغة الروائية وبأسئلتها الخاضعة إلى تجربة البحث عن أفق، يسمح باستعادة منطق الحكي وعلاقته المتصلة بالواقع وتحولاته الاجتماعية والسياسية والثقافية، كما أن صيغة التمثيل يمكنها أن تستفيد من تفكيك القراءات الاستشراقية، سواء من خلال استثمار الفكر والرحلة والثقافة والاقتصاد و….، إضافة إلى نوع وقيمة الرؤية هنا، هي تفسير لا يتعالى على الآخر، بل يحاول فهم مركزة الغرب ومحصلة هيمنته، وذلك وفق منهج يسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين الذات الآخر، «لأن معظم المقاربات الاستشراقية لم تنظر إلى الآخر باعتباره كيانا منفصلا، له رؤيته الخاصة، وتصوراته المستقلة، ولكنها عالجت الموضوع انطلاقا من سلطة المركز الذي يمتلك الحق والمعرفة والقوة»20.
لقد استساغت الدراسات الثقافية جملة من التصورات التي تقاطعت في ما بينها خاصة في مرجعيات مؤطرة لها، مثلا   كالمدرسة البريطانية (ريتشارد هوجارت ورايموند وليام)، والمدرسة الفرنسية (رولان بارت و ميشال فوكو)، والمدرسة الأمريكية (لوي ألتوسيروكليفورد جيرتر)، وبهذا تكون الدراسات الثقافية قد ساعدت القراءات المنهجية المتاخمة للنص الأدبي ولأدبيته بالخصوص، على إقامة مشتل منهجي منظم و(تطريزي) يعتمل داخل حديقة الخطاب وأبعاده بمختلف تداعياته المرئية والمسموعة والمكتوبة.

إحالات

1 ـ عبد الفتاح كيليطو. الأدب والغرابة. دراسات في الأدب العربي. دار توبقال للنشر. الطبعة الثانية.2006.
2 ـ آدم كوبر. الثقافة التفسيرالأنثروبولوجي. ترجمة تراجي فتحي. عالم المعرفة 349 ـ مارس 2008 صفحة 51.( مقطتف من محاضرات نشرت في ملحق كتاب لإليوت بعنوان:
Notes Towards The Defunition of culture.London.Faber 1948 p 120.)
3 ـ إدريس الخضراوي. الأدب موضوعا للدراسات الثقافية. جذور للنشر
الطبعة 2007 .
4 ـ إدريس الخضراوي. الرواية العربية وأسئلة مابعد الاستعمار. رؤية للنشر والتوزيع. القاهرة. الطبعة1. 2012.
5 ـ إدريس الخضراوي. سرديات الأمة تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة. إفريقيا الشرق.2017.
6 ـ7 ـ إدريس الخضراوي. الأدب موضوعا للدراسات الثقافية. مرجع سابق. ص 12.
8 ـ إدريس الخضراوي. الرواية العربية وأسئلة مابعد الاستعمار. مرجع سابق.2012.
9 ـ نفس المرجع. صص 10ـ 11.
10 ـ نفسه.ص13.
11 ـ نفسه. ص25.
10Jeremy Boissevain.Friends of Friends. Net works. Manipulation and Coalition(oxford.Basil black… 1974) 19.
11Alvin. W gouldmen. The coming…. crisis of westernsociology( new york.(v) Basic Books. 1970) 126.
12 ـ نظرية الثقافة. تأليف مجموعة من الكتاب . ترجمة دعلي سيد العاري. عالم الفكر 223. الكويت.ص 188.
13 ـ إدريس الخضراوي. الرواية العربية وأسئلةما بعد الاستعمار.م س. ص295.
14 ـ أدونيس زمن الشعر. دار الساقي للطباعة والنشر. ط6. ص15.
15ـ16ـ إدريس الخضراوي. سرديات الأمة. مرجع سابق. ص11.
17ـ نفسه. صصص 5ـ6ـ7.
18 ـ محمد سبيلا. في الشروط الفكرية والابستمولوجية لاستعمال مفهوم الايديولوجيا. مجلة النهضة. العدد الثامن. ربيع ت صيف 2014. ص106.
19ـ أحمد أبو حسن. الدراسات الثقافية والنقد المغربي المعاصر. موقع رباط الكتب. مجلة إلكترونية متخصصة في الكتاب وقضاياه. عدد13.ربيع 2013.
20 ـ حبيب بوزوادة. القراءة الاستشراقية للموروث الأدبي بين الموضوعية والاجحاف.جذور. النادي الأدبي الثقافي. جدة. شعبان 1435 ـ يونيو2014. ص308.


الكاتب : د. محمد صولة

  

بتاريخ : 21/01/2020