السوسيولوجي أحمد شراك لـ «الملحق الثقافي»

هناك بنيات ذهنية راسخة تحتاج زحزحتها  إلى وقت طويل للحسم في قضايا الحريات الفردية النموذج التنموي ينبغي أن يضع في صميم أولوياته، التفكير في المسألة الاجتماعية، لكن بإسناد من  السياسي والاقتصادي والثقافي

 

 

يعتبر عالم الاجتماع د. أحمد شراك واحدا من أهم الباحثين الذين اشتغلوا على سوسيولوجيا الثقافة، كواحدة من التخصصات القليلة على مستوى المتن السوسيولوجي بالمغرب، من قبيل الكتابة والقراءة والثقافة والمثقف،كاختيار سلكه شراك إيمانا منه بكون الثقافة تشكل المدخل الرئيسي لرصد وفهم التحولات التي عاشها ويعيشها المجتمع المغربي.
في هذا الحوار، يتحدث أحمد شراك عن ملامح المغرب الثقافي، عن غياب السياسات والصناعات الثقافية وتأثير هذا الغياب على تحقيق «الأمن الثقافي»، عن الحريات الفردية والخطابات التي أنتجها الربيع العربي، والتي تجد مقاومات قوية من طرف البنيات الذهنية الراسخة في المخيال الجمعي.

 

هل يمكن الحديث عن المغرب الثقافي اليوم، وهل ما نشاهده اليوم من انتعاش في سوق الكتابة والنشر والفعل الثقافي، يعكس بالفعل حركية ثقافية تسير في الاتجاه الصحيح؟

لا شك أن المغرب الثقافي اليوم شهد تطورات إيجابية مقارنة مع «المغرب الثقافي» في الستينات أو السبعينات، لكن هذا التطور لا يعني الكمال، بل هو تطور نحو الأمام، ونحو مزيد من المكتسبات ومزيد من النضال الثقافي الذي تقوم به النخبة المثقفة ومجمل الفاعلين الثقافيين في مغرب الآن وهنا. يمكن أن نضرب مثلا على هذا الكلام بتطور مسألة النشر، سواء من حيث الكم أو الكيف. اتسعت رقعة دور النشر واتسعت رقعة الإصدارات، واتسع معها التأمل والنظر في الصناعة الثقافية. ولا شك أن تاريخ المناظرات، على الأقل بدءا من مناظرة فاس الى مناظرات أخرى فكر فيها ودبرها اتحاد كتاب المغرب، طرحت كثيرا من الأفكار للتأمل بل وأحيانا اقتراح إجراءات ملموسة، علما بأن «الأفكار تحلق طويلا حتى تقع بعد مسافات» والأمر يهم هنا الحقل الثقافي. ولاشك أيضا أن اقتراح الأفكار يتطلب وقتا من أجل التأمل والإنضاج والنضال أيضا من أجل انتزاع صوابيتها في الواقع. أمام هذا التطور، لاشك أن هناك رغبات موضوعية ومطالب جوهرية، المغرب الثقافي اليوم مُطالَب بها.

اهتمامك بأدوات قرائية وتحليلية: التاريخ، الفلسفة، الأدب، السياسة… ضمن تخصص يطغى عليه الميداني أكثر، هل يعود إلى البحث عن مقاربة جديدة لتناول السوسيولوجي اليومي أمام صعوبة الإحاطة بالسؤال الثقافي من زوايا تقليدية، أم لأن جميع المداخل السوسيولوجية لفهم حركية وتحولات المجتمع، تمر عبر تفكيك الأنساق الثقافية بتراكماتها؟

في الواقع إن الدراسات السوسيولوجية لا مندوحة عنها في تفكيك ومقاربة الأسئلة الثقافية، انطلاقا من سوسيولوجيا الثقافة وما تستدعيه من أدوات وإواليات ومفهمات. وفي هذا الإطار لاشك أن البحوث الميدانية أساسية في مقاربة الوضع الثقافي، وهي قليلة، خاصة على صعيد القراءة والنشر ثم أيضا على صعيد الاختيار الثقافي وحتى السلوكات الثقافية التي تتراوح فيها تدخلات الأنتروبولوجيا وسوسيولوجيا الثقافة من قبيل لغة الجسد، اللباس، الذوق، الطبخ أو ما يصطلح عليه بـ»فن العيش». هناك أيضا الجانب النظري باعتبار أن السوسيولوجي هو باحث ومفكر، ولا ينبغي بالتالي أن يقتصر على الفعل التقني أو الخبرة دون أن يكون له عمق نظري في فك الالتباسات، وتعميق المناولات المتعلقة بالشأن الثقافي. ولاشك أن هناك اجتهادات ودراسات وازنة ليس من طرف السوسيولوجيا فقط، بل من داخل عصب الثقافة المغربية وأقصد بذلك الأدب ومشغولياته، سواء النقدية أو الإبداعية. في هذا المضمار العام، يمكن تسجيل عدة نقائص خاصة على مستوى الدراسات الميدانية، لما تقتضيه من إمكانيات البحث المؤسسي أو حتى الفردي، الأمر الذي ينعكس على المشهد الثقافي ويتطلب تدخلا مؤسساتيا من أجل السند والرعاية.

تحدثت في مناسبات عديدة عن مفهوم «الأمن الثقافي». هل ترى أن البنيات المؤسسية الموكول لها اليوم تدبير المجال الثقافي مؤهلة لتحقيق هذا الأمن أم هناك حاجة لمتدخلين جدد؟

في الواقع إن «الأمن الثقافي» سؤال ملح بالنسبة للدولة والمجتمع على حد سواء لان الأمن «الأمني»، أي الأمن السياسي والاقتصادي غير كافيين لتحقيق الأمن الاجتماعي والأمن الإنساني لأن الثقافة هي المنطلق والمنتهى، ولأن الإنسان كما يقول كاسيرير «حيوان رامز»، ومن ثم تحضر الثقافة في مختلف «الأمنات». فلتحقيق الأمن الاقتصادي، لابد من وجود ثقافة تسنده وكذلك الشأن بالنسبة للأمن السياسي.
التفكير في «الأمن الثقافي» هو تفكير استراتيجي:
أولا، من أجل تعميق التنوع والاختلاف الثقافي بعيدا عن الخطر، أي خطر الفكر الأحادي وفكر الحقيقة المطلقة والدوغمائية.
ثانيا: من أجل وضع مدونة ثقافية تؤمن بالتنوع والاختلاف، وتؤمن بالحرية في ممارسة التفكير وتؤمن بثقافة السلم ولاشيء غير السلم، وقادرة على تدبير الاختلاف بمختلف عناوينه ومشاربه وتركيباته لأن المغرب خطا خطوات مهمة في تدبير هذا الأمن الثقافي طبقا للبراديغم الثقافي العالمي اليوم، والذي ينهض على محاربة الإرهاب والتطرف. ومن هنا نلحظ الاهتمام بالفكر النقدي الذي غُيب في مغرب الستينات والسبعينات بعد إغلاق معهد السوسيولوجيا وبعد الانتصار لفكر ديني يؤمن باستئصال الغير باسم المروق والخروج عن الملة… لاشك أن الاهتمام بالسوسيولوجيا وعودة الدفء إلى الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية قد عمق من حضور الفكر النقدي، وانعكست بالتالي ظلال هذا الفكر على مشهدنا الإبداعي، سواء في مضامينه أو قيمه الجمالية اللافتة.
إن هذا الأمن الثقافي في حاجة إلى خطوات أكثر على مستوى تعضيده بمؤسسات وهياكل تضمن له العيش والاستمرارية لأن الثقافة المغربية – كما يعلم القارئ – وكما قلت ذلك في مناسبات عديدة، هي ثقافة عصامية قامت ولاتزال تقوم على أكتاف المثقفين والفاعلين الثقافيين في غياب سياسة ثقافية واضحة المعالم. فأغلب الإنتاج الثقافي المغربي هو إنتاج فرداني عصامي لم تنفق فيه الدولة درهما واحدا وهو إنتاج يقتات من جسد الكاتب والمبدع، ويعيش على هاجسيته في الحضور والمعنى.

الحديث عن الأمن الثقافي يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن التنمية الثقافية. هل يمكننا بالفعل الحديث عن نموذج ثقافي على غرار النموذج الاقتصادي والاجتماعي في ظل هذه الفسيفساء اللغوية والعرقية، التي وإن تمت دسترة بعض أجزائها، فإن أجرأتها لاتزال متعثرة؟

في الحقيقة لابد من توضيح أن النموذج التنموي ينبغي أن يضع في صميم أولوياته، التفكير في المسألة الاجتماعية ومظاهرها البالغة كالبطالة والتسول والهشاشة المتطرفة كالفقر والحاجة. ولعل هذه المسألة هي التي ينبغي أن يُجند لها السياسي والاقتصادي والثقافي، والثقافي – المطلوب هنا- يمكن توزيعه إلى شطرين:
– شطر مرتبط بترشيد القطاع الثقافي من أجل التنمية الاجتماعية والاقتصادية، أي أن يعمل هذا النموذج وقبل ذلك أن يتفكر في كيفية تحويل القطاع الثقافي في مغربنا اليوم من الاستهلاكية إلى الإنتاجية، وبالتالي العمل على جعل الكتاب رائجا والفن كذلك حتى يصبح القطاع الثقافي قطاعا قائما بذاته، ومساهما في التنمية وليس قطاعا «عالة» على المجتمع. هذا التحويل من شأنه أن يساهم في التشغيل وفي التنمية لأنه سيقدم «بضاعته» الخاصة في الترويج والتلقي واقتناء هذه البضاعة.
– شطر ثان يتعلق بعملية تثوير الثقافة والإصلاح، بل والثورة في كثير من البنيات الذهنية المعيقة للتطور والتقدم . هذه البنيات التي هي فرامل حقيقية تحول دون التطور والحداثة، ولعل مجتمعنا يفرز كثيرا من هذه المعيقات الذهنية من بينها على سبيل المثال لا الحصر: استمرار التفكير في لغة جسد المرأة، استمرار زواج القاصرات الذي مازال في تصاعد، وما إلى ذلك من البنيات الذهنية التي يلعب فيها لاشعور ثقافي أسسته الإيديولوجيا وأسسه البارديغم السابق، أي بارديغم الصراع بين نموذجين اجتماعيين (ثنائية الرأسمالي والاشتراكي)، ولعب فيه الفقه الظلامي كثيرا من الأدوار في ترسيخ أفهام وتأويلات على المقاس.

كيف تفسر هذا الحضور الثقافي المغربي في محافل التتويج الخارجي مقابل حالة الركود التي يعيشها المشهد الثقافي داخليا، هل يعود الأمر إلى غياب سياسة ثقافية واضحة وألا تطرح هذه المفارقة ضرورة الانكباب على ملف الصناعات الثقافية؟

ينبغي الإشادة بإيجابية كبيرة بحضور المغاربة في مراكز التتويج العربي والدولي وفي كل الميادين الثقافية، مما يلفت الانتباه حقا. السؤال الذي طرحته والذي مضمره هل الجوائز مؤشر كاف على جودة المنتوج، الجواب عنه صعب لكن مع ذلك يجب الإقرار بأن الجائزة مؤشر على الجودة. قد لا تكون هي الجودة لكنها بالنسبة للباحث هي مؤشر على ذلك، حتى أنها في عُرْف سوسيولوجيا العلم هي مؤشر بالغ حسب مستوياتها وعناوينها وفضاءاتها هي هل جهوية أو وطنية، عربية أو دولية. وهذا الحضور المغربي يرجع – في رأيي – إلى التعليم الجامعي المغربي خصوصا، والذي أفرز أسماء منتجة وقوية. ينضاف إلى مؤشر الجائزة، مؤشر حضور هذه الأسماء في المنتديات والمؤتمرات الدولية والعربية أو بعبارة مضمرة أو بعبارة أخرى حضورها خارج الحدود، واللائحة طويلة في هذا الباب. ثم إن تنوع هذه الجوائز وإقبال المغاربة على الترشيح فيها، في جزء منه ناتج عن غياب الجوائز داخل المغرب إذا استثنينا جائزة المغرب للكتاب ومن ثم غياب القطاع الخاص عن الثقافة وأهلها. صحيح أن هناك جوائز أخرى تحمل أسماء لمفكرين وباحثين مروا من هنا، وصحيح أن هناك مؤشرا إيجابيا إضافيا والذي ظهر أخيرا من خلال جائزة جهة الدار البيضاء سطات للكتاب التي أعلن عن نتائجها خلال هذا الشهر. ورغم ذلك فالقطاع الخاص غائب وشخصياته غائبة. قد يعود الأمر الى ذلك المثل الشهير «فاقد الشيء لا يعطيه»، أو بعبارة أوضح «فاقد الثقافة لا يحب إلا المال».

في كتابكم «سوسيولوجيا الربيع العربي»، توقفتم عند دور الشباب في صناعة التغيير السياسي. ألا ترى أن هذا التغيير صاحبته تغييرات على مستوى المفاهيم والخطابات، خاصة على مستوى الحريات الفردية؟

في ما يخص الحريات الفردية، اتسع فيها النقاش اليوم وأصبحت شأنا عموميا، لم يعد الحديث عنه « طابو» وهذه مكتسبات تحققت. صحيح أن الربيع العربي ظهرت فيه احتجاجات بالجسد في صفوف النساء(تونس) وممارسة الحب الجماهيري (لبنان) بل حتى الزواج في ميدان التحرير(مصر). وقد أشرت في كتابي إلى أنه في مظاهرات الربيع العربي لم تكن الهوية الجنسية شرطا، إذ شاركت فيها كل الهويات الجنسية (مثليون، غيريون، متحولون…) لأن السؤال الرئيسي كان هو سؤال التغيير، وربما كانت ملامح ورغبات من بين رغبات وقيم جديدة طالب بها الربيع العربي كالكرامة، المساواة، الوحدة القطرية. ولاشك أن هذه الحريات اليوم تطرح مدى شرعيتها ومشروعيتها بحدة. فالصراع المجتمعي بين الحداثيين والمحافظين والنقاش الدائر اليوم حول الحريات الفردية، سيصل ربما إلى نتائج لكنها نتائج بالتقسيط، وعبر التدرج. يمكن أن يصل النقاش بالمغرب إلى حل مسألة الإجهاض والجنس الرضائي وكذا احترام حرية المعتقد، إذا اعتبرنا أن تاريخ المغرب منذ القديم عرف تعايشا دينيا مع اليهود وإن كان متشددا بعض الشيء مع المعتقد المسيحي، بالإضافة إلى مسألة الردة عن المعتقد..هذه كلها – في اعتقادي – قضايا سيحقق فيها المغرب خطوات متقدمة. أما القضايا المرتبطة بالهويات الجنسية، فمازال الوقت بعيدا عن الإيمان بهذا النوع من الحريات لأن هناك بنيات ذهنية راسخة تحتاج زحزحتها إلى وقت طويل.
من بين المفاهيم والخطابات التي حملها الربيع العربي، نجد أنه وضع الأصبع على أزمة القراءة عبر تأسيس مبادرة القراءة بالفضاءات العمومية عبر الفايسبوك والتي شهدها المغرب لكنها للأسف لم تتكرر، ومن هذا المنبر ندعو إلى استعادة هذه التجربة واستثمار وسائل التواصل الاجتماعي لتعميق وتثمين الممارسات الثقافية، وأقصد العودة إلى ارتياد المسارح والقاعات السينمائية وزيارة المعارض والمتاحف، وتظل القراءة على رأس هذه الممارسات الثقافية عن طريق حضور الندوات والمهرجانات الثقافية. هذه الممارسات ينبغي تثويرها وإخراجها من حالة الركود، ولاشك أن تثويرها سيساهم في تحويل القطاع الثقافي من مستهلك إلى منتج ومساعد في التنمية.

كيف تقيمون وضعية الإعلام الثقافي اليوم في ظل سياسة الماركوتينغ التي تنهجها وسائل الإعلام التي تعاني اليوم انحسارا في المادة الثقافية لصالح الخبر السياسي والاجتماعي والفضائحي والترفيهي؟

لاشك أن الإعلام الورقي يعيش اليوم حالة انحسار أمام المد الرقمي والصحافة الإلكترونية لكن دون أن يفقد بريقه وحضوره، ودون أن يفقد رزانته مع استثناءات قليلة. ولعل الإعلام الثقافي كان، دائما، هامشيا وآخر ما يفكر فيه. فعندما تضغط المادة السياسية مثلا في التلفزيون تؤجَل المادة الثقافية، أو تُبَث في مواعيد متأخرة، وهو ما ينسحب على الجرائد الورقية حيث تحذف في الغالب لصالح الإعلانات الإشهارية.
الإعلام الثقافي في المتخيل الإعلامي، عموما، له دور ثانوي أو دور «المُلحق» وليس الدور الرئيسي، والحال أن الإعلام الثقافي له دور استراتيجي لأنه الإعلام الوحيد الذي يجمع بين الثقافات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولذا يجب إيلاؤه الدور اللائق به، ولن يتم هذا دون تشجيعه وإسناده ودون تقوية مسنوده، وأقصد بذلك أنه لا ينبغي أن يقتصر على المحاورة والإخبار بأعمال النخبة المثقفة، بل الدعوة إلى إعلام ثقافي واسع وممتد يشمل المسابقات الثقافية وعبر الحضور والمساهمة في كل الأنشطة، كما يحدث في البرامج الثقافية التلفزيونية الفرنسية.
الإعلام الثقافي سلوك سياسي عام يعكس سياسة البلاد. وفي هذا الصدد لا يفوتني الإشارة الى تأسيس «الرابطة المغربية للصحافة الثقافية» التي كان المشهد الثقافي في حاجة إليها للفت الانتباه إلى الإعلام الثقافي وإعلامييه.

 


الكاتب : حاورته: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 21/02/2020