القصة القصيرة جدا: عين على الإحباط والتردّي

قراءة في مجموعة «حائك العتمات» للقاص علي بنساعود

يعد القاص علي بنساعود من كتاب القصة القصيرة جدا بالمغرب والعالم العربي، ومن الذين يدلون بدلوهم في هذا الجنس الأدبي الذي لا يزال يبحث له عن أرضية صلبة يقف عليها إلى جانب باقي الأجناس الأدبية الأخرى.

اختار بنساعود بكتاباته أن يتربع على ناصية من ناصيات القصة القصيرة جدا، بتمثيله لخلخلات الذات الإنسانية في أسلوب مكثف يتماشى وما تقتضيه الكتابة في هذا الجنس الذي يقتصر على أقل عدد من الكلمات.
القاص يترك انطباعا خاصا وانبهارا بنصوصه، وهذا مرده إلى نوعية النصوص التي يكتبها في هذا الجنس الأدبي، فهو ينغمس في التجربة ويلونها بألوان من الواقع.
قصصه تتميز بالتكثيف والتركيز، مستعملا في ذلك لغة إيحائية مشحونة دراميا.
وفي المجموعة الموسومة «بحائك العتمات» يمكن أن نلمّ بقضايا اجتماعية ونفسية عميقة يصورها الكاتب بقلمه ليقربها من القارئ، كما يمكن أن نلم بخبايا نفسية المبدع، وما يلفها من غربة.
إذا ما نظرنا إلى مضمون القصص التي ضمنها المجموعة؛ وجدنا ثمرة جهد ومثابرة ومكابدة واعية استندت في كل مراحل كتابتها إلى الدربة والمهارة والتأمل لكي تخرج القصة في قالبها الإبداعي الجميل.
وأنت تقرأ المجموعة كأنك داخل متحف لفنان متمرس على استعمال الألوان، وكل قصة لوحة تتداخل فيها الحروف كما تتداخل الألوان داخل اللوحة، مرات كثيرة يغلب اللون الأسود لكن هذا السواد يوحي بأشياء جميلة، وإن كانت تعبر عن القلق والحزن الدفين الذي يسكن الكاتب، وهنا أستعين بقول جابر عصفور:
«أشبه ما تكون بالنبع الذي يفيض من الداخل إلى الخارج».
غير أن نبع كاتبنا يفيض حزنا ووجعا.
الكتابة عند علي بنساعود ضرب من الجهد والمكابدة الواعية، بخلاف من يرى أن القصة القصيرة جدا مطية سهلة ويسهل كتابتها.
القاص له حس نقدي يكون حاضرا أثناء الكتابة ، يستعمله رقيبا وموجها لحاسته الإبداعية لتخرج نصوصه مكتملة ناضجة.
فهو كما سبق الذكر متمرس في هذا الجنس الذي يكتب فيه، ورصيده الذي بلغ ست مجموعات حتى الآن، جعله يؤسس حضوره بقوة في هذا الجنس الأدبي الذي تناول فيها موضوعات عديدة لمعالجة قضايا تهم المجتمع، المرأة، الفقد..
التجارب الكثيرة التي مرّ منها القاص مكنته من الإمساك بزمام القصة القصيرة جدا، ولابد من الغوص عميقا في تجربته لاستخراج الدرر ومعرفة جنوح خياله والغوص في ثنايا فكره ووجدانه، لنجد ذلك الإنسان الشفاف الذي يجسد الحزن ذاتا يخاطبها كما في قصة «تخمة صفحة 49» ، وقصة «نظرة صفحة 53» وقصة «رحيل صفحة 68»، وقصة «محطة صفحة 102»، وقصة «انكسار صفحة 105…»
كما نجد ذلك الفنان الذي يرسم في قصصه أجسادا مشوهة حالها كحال الواقع المزري الذي نعيشه، تنقصها بعض الأطراف؛ كقصة صنعة صفحة 65، وقصة خيبة صفحة 67 ، قصة عيون بلا وجوه صفحة 70 ، قصة ديموس صفحة 78 ، قصة سيرة الماء صفحة 79 ، قصة موديل صفحة 103 …
هناك علامات تميز هذا الجنس الأدبي عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى وقد تمكن منها القاص؛ يبدو ذلك في استعماله للرمزية التي تعتبر من أهم أركان صناعة الدلالة، وقد نلمس ذلك في جل قصصه.
العنوان يعتبر مفتاح المجموعة: «حائك العتمة» أي ناسجها وصانعها ويتفنن في ذلك ويتقن صنعته، والمشتغل على خيوطها ليخرجها في أبهى سوادها، وقد أدت إلى ذلك جملة من التداعيات؛ كالفقد والحوادث المريرة التي مرّ منها القاص، ويمر منها المجتمع والعالم تلك التي تركت بصمتها عميقا، وتجلت واضحة في نصوصه رغم بعض الفجوات التي حاول بواسطتها أن يخفف بها من شدة السواد.
وهذه العتمة نجدها سائدة في جل نصوص المجموعة؛ إما بشكل علني
أو بشكل ضمني حين يرمز لذلك بانقطاع الأمل، وهذا ما جعل الليل والعتمة تسكن نصوصه.
كما كان للمرأة حصة الأسد من نصوص المجموعة، فجعلها تسكن جل قصصه وتتربع على صفحات المجموعة قابضة على زمام القلم ليسكب من أجلها الكثير.
يهدف بنساعود، من نصوصه، إلى أن تحقق غاية من غايات الوجود الإنساني ما دام الأدب يعبر عن الإنسان وهمومه وانشغالاته، فهو يسخر القصة القصيرة جدا ويجعلها في مواجهة مع ظروف أكثر إحباطا وسلبية، فتجده عينا متبصرة تفضح واقعا مترديا.
نجده يقف على بعض الحقائق حيث تغيب الأخلاق، والمساواة،…و يسود القهر والظلم والفساد والحروب ليمثل بذلك بعدا أكثر واقعية وتعبيرا عن الصراعات التي يتخبط فيها الفرد والمجتمع والعالم.


الكاتب : أمنة برواضي

  

بتاريخ : 22/02/2020

أخبار مرتبطة

  على الرّغم من أن رولان بارثRoland Barthes، منذ أواسط ستينات القرن الماضي، أي في مرحلته البنيوية، كان قد أعلن

  الرواية الأولى كانت حلمٌا جميلا في البداية، ولكن ما إن صحوت منه حتى تحول إلى كابوس يقض المضجع، يسرق

ندوة حول «التاريخ وقيم المواطنة» بكلية الآداب بالمحمدية تنظم الجمعية المغربية للمعرفة التاريخية، بشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *