القضية المغربية على الساحة الدولية: الأمم المتحدة وباندونغ : عبد الرحيم بوعبيد يقرأ تاريخ المغرب المعاصر

في الدفتر الثالث من مذكراته، سلط عبد الرحيم بوعبيد، باعتباره أحد الوطنيين الذي تتبعوا عن كثب وشاركوا ودافعوا عن استقلال البلاد، السياق الدولي والوطني والداخلي لحزب الاستقلال الذي تمت فيه مفاوضات الحرية، ويقدم الفقيد الكبير إضاءات جديدة على أسئلة وتساؤلات متعددة تخص ايكس ليبان وآراء القادة الاستقلاليين وبعض الخفايا التي ترتبط بمفاوضات الاستقلال، وهو يقدم المعطيات التي عاشها ويعيد ربطها بالسياق الذي كانت تتفاعل داخله وقتها، ونكتشف معطيات جديدة، لم تسترع كبير اهتمام من طرف المؤرخين أو الباحثين من قبيل موقف اسبانيا وتاكتيكاتها حول القضية المغربية، والحياة التي كان يحياها المقاتلون في منطقة خاضعة منطقيا للاستعمار، لكنها في الوقت ذاته فضاء للتداريب والتخطيط لعمليات المقاومة، في الوقت الذي يكتب المغرب فيه تاريخه، بكثير من الجرأة والشجاعة مع الذات، وبكثير من التمحيص ايضا والمقارنات والتركيبات الدينامية للأحداث والشهادات، تعتبر مذكرات عبد الرحيم مهمة، إن لم نقل مفصلية، في ترتيب الذاكرة وترتيب الفترات التاريخية..

في خريف 1955، كان للسياق الدولي دور محدد بالنسبة لقضية الدول المغاربية الثلاث، فبفضل دول الجامعة العربية، والدور الخاص للمجموعة الأفرو اسيوية، صارت منظمة الأمم المتحدة ، كل سنة منبرا دوليا يسمح بإدانة وفضح السياسة الاستعمارية للحكومة الفرنسية، فكان على هذه الاخيرة أن تتخذ موقفا يتجاهل هذه المناقشات، بدعوى أن الامر يتعلق بقضايا ذات الشأن الداخلي، من اختصاص فرنسا وحدها، غير أنه اضطر إلى أن يأخذ بعين الاعتبار رأيا عالميا، يتسع باستمرار، يساند تحرير شعوب افريقيا الشمالية من الهيمنة الاستعمارية.

مذكرة حزب الاستقلال

وتعود أول مذكرة رفعها حزب الاستقلال الى الأمين العام للأمم المتحدة الى 29 شتنبر 1948، وقد أسند أمر تحريرها وصياغتها إلي، بتعاون مع المهدي بنبركة الذي رحل الى باريز من أجل اللقاء بي، وكان الجنرال جوان قد عين مقيما عاما، مكان ايريك لابون، فكانت أول علامات المواجهة بين الملك محمد الخامس والاقامة العامة ، بخصوص الاصلاحات التي كانت هذه الاخيرة تريد فرضها، قد خلقت جوا من التوتر، ذات المذكرة حللت مختلف جوانب السياسة الاستعمارية للحماية:
– سيطرة المعمرين الفرنسيين على الثروات الوطنية
– مصادرة أزيد من مليون هكتار في ملكية الفلاحين المغاربة لفائدة بضعة آلاف من المعمرين
– نظام اداري مباشر يجعل من المقيم العام المشرع الحقيقي والرئيس الوحيد للجهاز التنفيذي ـ منع المغاربة وحدهم من ممارسة الحقوق السياسية أوالحريات العامة
ـ حرمان المغاربة وحدهم من الحق النقابي
ـ سياسة العنف والقوة والقمع الممنهج ازاء الحركة الوطنية…
وكان حزب الاستقلال يطالب، باسم مبادئ ميثاق الأمم المتحدة أن تتدخل هذه الأخيرة من أجل وضع حد للنظام الاستعماري الذي يعانيه المغاربة، وذلك بإلغاء الحماية واعلان الاستقلال، وكان من المنتظر أن يظل هذا المسعى بدون استمرارية ، غير أن الأمانة العامة للأمم المتحدة قبلت نشر المذكرة من باب الاستئناس والاطلاع، في 4 اكتوبر 1951، أطلعت مصر المنظمة الأممية من جديد وطالبتها بوضع القضية المغربية على جدول اعمال الدورة السادسة للجمعية العامة، فقام روبير شومان، الذي كان وقتها وزير خارجية فرنسا باحتجاج شديد اللهجة ضد ما سماه الاتهامات الموجهة الى سياسة بلاده، وبعد بعض المفاوضات، اضطر مندوب مصر الى طلب تأجيل النقاش، لأن الوفد الفرنسي كان يقول بأن حوارا فرنسيا ـ مغربيا حول العلاقات بين البلدين في طريق الإعداد، وأن كل تدخل للأمم المتحدة من شأنه أن يهدده، المسعى الثالث قام به العراق، في غشت 1952، وكان الوضع في المغرب على وشك الانفجار: فالاقامة العامة كانت تريد أن تفرض بالقوة مجموعة من النصوص التشريعية لإقرار نظام من السيادة المشتركة، وقد انضمت 12 بلدا من افريقيا واسيا الى الشكوى التي وضعها المندوب العراقي، وعبرت الدول الاشتراكية عن دعمها للقضية المغربية، أما الولايات المتحدة، المنشغلة قبل كل شيء بتضامن دول الحلف الاطلسي، فقد كدت من أجل ثني دول امريكا اللاتينية، ومن جهته رد هابيناف، رئيـــس الوفد الفرنسي بقوة، مصرحا بأن فرنسا ترفض اي تدخل اجنبي في شـــــؤونهـــــا الداخلية، وقد كانت لهذا المــــوقف الـــمتصـلب نتيجة عكسية لما كان متوقعا، حيث تم، يوم 16 أكتوبر 1952 تسجيل القضية المغربية، بدون مناقشات في جدول أعمال الجمعية العـــامة، واحالتها على اللجنة السياسية، وقد كان لأحداث دجنبر 1952 ، التي وقعت بالدار البيضاء والقمع الدموي الذي تلاها والاعتقالات لجماعية في صفوف حزب الاستقلال والنقابات، صدى كبير وقوي داخل الأمم المتحدة، وهكذا تبنت الجمعية العامة، يوم 19 دجنبر، ب45 صوتا مقابل 11 امتناعا، قرارا يشجب أحداث الدار البيضاء مع الحرص على الاكتفاء بالتعبير عن الأمل في استمرار المفاوضات بهدف تنفيذ مخطط لتطوير المؤسسات السياسية للشعب المغربي، في سنة 1953، لم تعد التهديدات بتنحية الملك الشرعي مقنعة، وكانت الصحافة الدولية تتابع عن كثب تفاقم الوضع الداخلي، كما أن المجموعة الافرو- اسيوية اتخذت، يوم 9 يوليوز المبادرة بطلب تسجيل القضية المغربية ، وقد كشف ممثل سوريا أن الجنرال، يوم يمكن أن يقوم بين لحظة وحين برهان قوة ، ووضعت المجموعة الافرو اسيوية شكوى أمام مجلس الامن يوم 12 يوليوز، وأعلن الاتحاد السوفياتي والصين الوطنية دعمهما لتسجيل الشكوى، وفي 2 شتنبر رفض مجلس الأمن الدعوى، بسبب تعنت الولايات المتحدة، ب5 اصوات مقابل 5 مع امتناع واحد، كما تم رفض الاستماع الى ممثلي البلدان الموقعة على الشكوى، والذين لم يكونوا اعضاء دائمين في مجلس الأمن، ب5 اصوات مقابل 4 مع امتناعين.

التهدئة مع المغرب

ومع ذلك لم تستسلم مجموعة الدول الافرو اسيوية، حيث تم، بمبادرة منها، اقتراح جدول اعمال على الجمعية العامة يوم 17 شتنبر 1953 يدعو الى دراسة القضيتين المغربية والتونسية، فاصدر سكرتير الدولة في الشؤون الخارجية الفرنسية تصريحا يقول فيه أن فرنسا لن تشارك في المناقشات حول المغرب وتونس لأن مشكلهما، من صلاحياتها الخاصة، في نهاية المناقشات وضعت المجموعة الافرو اسيوية قرارا يطلب من الجمعية العامة أن تعلن مساندتها لاستقلال المغرب، وهو الطلب الذي رفض يوم 19 اكتوبر، وقد وضع مندوب بوليفيا، ربما بإيعاز من الولايات المتحدة قرار مضادا يدعو الى خلق جو من التهدئة في المغرب، غير أن المجموعة الافرو اسيوية عارضت ذلك، وتم رفض هذه التوصية من طرف الجمعية العامة، انعقدت الدورة التاسعة بعيد وصول بيير مانديس فرانس الى رئاسة الحكومة، وبدأت المفاوضات مع تونس، لكن ذلك لم يمنع المجموعة الافرواسيوية من أن تطلب، من باب المبدأ، تسجيل القضية المغربية، وأمام اللجنة السياسية، عبر ممثلو فرنسا، بالرغم من اعلانهم أنهم لن يشاركوا في المناقشات، عن كون سياسة حكومتهم تسير نحو دعوة المغرب، تدريجيا، ولكن بأسرع ما يمكن الى تدبير شؤونه في اطار السيادة المغربية، هذا الموقف لطف الاجواء، وبعد اطلاعها على اعلان النوايا هذا، أوصت اللجنة السياسية ، بناء على مقترح من المجموعة الافرواسيوية بتأجيل القضية، إذا كان تعيين ج،غرانفال مقيما عاما قد استقبل بترحيب في الاوساط الاممية، فإن تزايد الاجراءات القمعية والمحاربة لما يسميه الفرنسيون بالارهاب، دفعت، لآخر مرة المجموعة الافرو اسيوية الى وضع شكوى يوم 16 يوليوز 1955، غير أنه في 29 شتنبر جاء الرئيس بيناي الى نيويورك على رأس وفد فرنسي الى الأمم المتحدة ، وكانت اتفاقيات انتسي رابي، المبرمة يومي 8 و9 شتنبر بين محمد الخامس ولجنة كاترو، الدليل على حقيقة الحوار الفرنسي المغربي، الذي بدأ مع الملك الشرعي للمغرب، كما أن الخطاب الذي ألقاه الوزير الفرنسي للخارجية أمام الجمعية العامة، كان منعطفا حاسما وبدون أن يلمح مباشرة الى اتفاقيات انتسيرابي، أعاد تقريبا حرفيا عباراته: فقد صرح على وجه الخصوص بأنه في العالم المعاصر، لا يوجد استقلال حقيقي بدون الترابط بين الطرفين المتفق عليه بكل حرية، وأضاف قائلا: في السنة الماضية، أثار وزير خارجية بلادي، هنا بالذات، مسألة المفاوضات بين الحكومتين الفرنسية والتونسية ، وكان في ذلك يعبر عن الرغبة في أن تفضي الى نتيجة باسرع ما يمكن(،،) إن فرنسا تنوي منح المغرب وجه دولة عصرية ديموقراطية وذات سيادة، تربطه بها روابط حرة (،،) وقد اتخذت قرارات ستطبق عمليا، وستتشكل حكومة مغربية، وقد كانت أهمية هذا الالتزام العلني والرسمي امام الامم المتحدة غير مسبوقة، على الاقل في ما يخص المغرب، وكانت كلمة الاستقلال تنطق لأول مرة من طرف رئيس الديبلوماسية الفرنسية، وهوما كان يعني، في نظر كل المراقبين، بأن فرنسا تتخلى عن الابقاء على معاهدة الحماية، في المغرب وجد الجنرال بويير دولاتور، الذي كان يعول على الرئيس بيناي من أجل تطبيق سياسته الخاصة، نفسه حيص بيص، فسلم بترك بن عرفة يذهب إلى طنجة .

روح مؤتمر باندونغ

في فاتح اكتوبر، في فرنسا، اصبح بإمكان حكومة ادغار فور أن تعول على دعم وزير الشؤون الخارجية، فقد كان البعض قد اعتبر هذا الموقف أمام الأمم المتحدة ، منعطفا وانقلابا في الموقف، لكنني اشعر بأن السيد بيناي، كإنسان راجح العقل وصافي الذهن، كان يدرك جيدا بعد تصريحه، فقد كان موقفه نتيجة تطور مفكر فيه، جزء كبير فيه بسبب العمل الشخصي للرئيس فور، فقد سبقت أن جرت محادثات ايكس ليبان التي أتاحت لبيناي حوارا مباشرا وصريحا مع ممثلي الحركة الوطنية المغربية، هذه البداية دفعت الى الادراك بأنه ، بدون تزكية من محمد الخامس لا يمكن لأي حل أن يرى النور، وبطبيعة الحال، لم يكن يتجاهل، في المقابل ضغوطات مجموعته النيابية ، ورد الفعل المناهض للمتطرفين، وهو الشيء الذي يفسر بعضا من تردداته، ويظل الاكتشاف الكبير الذي اكتشفه الوفد الفرنسي، خلال الدورة العاشرة للأمم المتحدة، هو حجم امتداد روح باندونغ، فقد كان مؤتمر باندونغ قد انعقد في اندونيسيا، من 18 الى 24 ابريل 1955، بحضور ممثلي 27 دولة من اسيا وافريقيا التي تضم شعوبها مجتمعة، مليار نسمة،وقد اندهشت الدول الغربية، ولا سيما الامبريالية لأهمية هذا المؤتمر الذي تركزت اعماله على الكفاح ضد الامبريالية والاستعمار، فقد حضرت الى جانب الصين والهند ومصر، دول مرتبطة بتحالفات مع الولايات المتحدة مثل الفليبين والتايلاند، ولم يعد الكفاح من أجل تحرير دول المغرب العربي الثلاث، مجالا حكرا على الجامعة العربية، حيث اتخذ في هذا المؤتمر بعدا دوليا: كان ذلك أممية شعوب اسيا وافريقيا في كفاحها من أجل تحرير نفسها من نير الامبريالية والاستعمار، وقد أشار الرئيس عبد الناصر في مداخلته ماضي الاستقلال في المغرب وتونس والجزائر، كما أن شوأونلاي صرح يوم 24 ابريل بأن الشعب الصيني يقدم كل الدعم لشعوب الجزائر والمغرب وتونس من أجل تقرير مصيرها واستقلالها وللكفاح العادل من أجل استقلال وحرية دول اسيا وافريقيا لزعزعة الاستعمار.


بتاريخ : 08/01/2019