القيم في الممارسات الاجتماعية الجماعية

 

تتسم القيم بوضع مميز مقارنة بموضوعات المجتمع الأخرى .فسمتها الرمزية والجماعية، وكيفيات تشكلها داخل الحياة التاريخية لكل جماعة وكذا فعلها في السلوك الفردي والجماعي اليومي، وتوزع امتداداتها بين زمن المدة الطويلة وزمن الحدث القصير، وانتشار حضورها في مجالات المجتمع المتعددة، السياسية والدينية والفنية والتربوية والاقتصادية، يجعلها في مستوى الظواهر الاجتماعية الكلية و الشاملة، بالمعنى الذي يمنحه مارسيل ماوس لهاته المقولة.
أمام هذا الوضع المتشابك، يلجأ الباحثون إلى بناء «نماذج نظرية مثالية» وتصنيفات نظرية للتمكن من ضبط منطق التشابك و التعقد هذا، ومن ثم تجريده من واقعيته وتاريخيته قصد رسم ملامح الخاصيات الثابثة ومنطق التحولات والتغيرات.
التقليد والحداثة، خطاطة و نموذج مثالي، من بين هاته النماذج والتصنيفات النظرية، التي تم بناؤها لضبط حركة المجتمعات في الزمن التاريخي، ومن ثم حركة وتشكيلة معتقداتها الجماعية وأنماط تضامناتها. تمكن النماذج النظرية المبنية الباحث من فعل التجميع والتوحيد والتعميم ووضع الحدود لرسم دائرة يتم توصيفها بالتقليد ومن ثم رسم ملامح دائرة مغايرة، متقدمة في الزمن، ينعتها بالحداثة .يمكن منطق الخطاطة النظرية الباحث من إجراء المقارنة و من ثم التدليل على التفاوتات واستقراء المستقبل. ذاك ما قام به إيميل دوركهايم في بحثه «في تقسيم العمل الاجتماعي» وماكس فيبر في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية». (استنتج دوركهايم تحت ظل هاته الخطاطة أن مجتمعات الحداثة ستعرف برودا أخلاقيا وأن معتقدات المجتمعات التقليدية ستأفل تدريجيا و قيمها الجماعية ستنحل باتجاه غلبة القيم والمعتقدات الفردانية، مثلما أرسى ماكس فيبر مقولة «نزع صفة السحر عن العالم» التي ستميز الحداثة، والأمر الملحوظ منذ نهاية القرن الماضي إلى الآن هو تزايد الحضور والظهور لمجموع القيم و المعتقدات التي اعتقدا معا في كونها تنتمي لتشكيلات اجتماعية تقليدية ماضية).
تفترض صنافة التقليد والحداثة كون التقليد منظومة متجانسة وموحدة و سابقة في الزمن، و الحداثة منظومة متجانسة و موحدة و لاحقة في الزمن، وهو ما يعيق معاينة و استقراء طبيعة المجتمعات و حركتها في الزمن التاريخي .يعتبر جورج بلانديي، وهو المختص في ما يسمى «المجتمعات التقليدية»، أن مفهوم المجتمع التقليدي يحدد بنموذجه المضاد أكثر مما يحدد بنموذجه الخاص . التقليد لايوجد في واقع المجتمعات بالمفرد ، و التاريخ لا يحتكم لإيقاع واحد في حركته . هنالك أشكال متعددة من التقليد ، تتجلى في وحسب الوضعيات التاريخية، و بارتباط مع الحركات و الإيقاعات المختلفة للقطاعات الاجتماعية . مثلما أن كل مجتمع تعتمل فيه تواريخ، يتصل بعضها بما أنجزه و حققه، وأخرى بما هو بصدد إنجازه ، وما هو ممكن الإنجاز .(1). إن دينامية الحركة و التغير في المجتمعات، والتي توجد القيم في صلبها ،ليست تطورية، بل تتشابك فيها « دينامية الداخل مع دينامية الخارج» والحدث مع الحركة والصدفة (2)، وبناء عليه يستعيد بلانديي جملة مأثورة لجاك بيرك، تقول: «ليس هنالك مجتمعات تقليدية ، بل مجتمعات تحليلها ناقص» (3).
اعتماد خطاطة التقليد و الحداثة، في مقاربة موضوعة القيم، ينتج عنه إنتاج أحكام القيمة (المحافظة والتجديد، الظلامي والمتنور، الرجعي والتقدمي، الماضوي والحداثي…) التي تغذي الصراعات الاجتماعية وتتوه بها نحو العنف و الكراهية و التحقير المتبادلين. أحكام قيمة تنقل الصراع من المجتمعي إلى الميتا-اجتماعي حيث لا حل له و لا أفق . يرصد جاك بيرك هذا الوضع في تاريخ المغرب القريب، حيث كان الصراع بين أفراد الحركة الوطنية المغربية الناطقين بإسم السلفية والمتحدثين ببلاغة التصوف المغربي ، في صدام الأحكام . ينعت الطرف الأول نقيضه المزعوم «بالجمود « و يرد الطرف الآخر بنعت « الجحود «. (4 ) . توصيفان يتخذان صيغة « النقيضة « و ليس التناقض أو التعارض ، و التي لن تجد لها حلا في الزمن ، لذلك نبه كانط إلى أن حلها ، ككل نقيضة ، يؤول إلى درجة التعب و العياء التي تصيب أصحابها .
بين حكم القيمة و حكم القيمة المضاد ، تحتجب الوضعيات و الممارسات والتي ضمنها لا نبصر التعارضات المزعومة بين الجامد و الجاحد ، التقليدي و العصري … ففي نفس الفترة الزمنية ، ومع أول اختلاف سياسي كبير بين علال الفاسي «التقليدي» و محمد بالحسن الوزاني»العصري» ، سيلتف «اهل الجمود « حول هذا الأخير ، بينما سيلتف « اهل الجحود « حول علال الفاسي ( 5).
بم يتعلق الأمر في هاته الحالة ؟ هل بمفارقة التداخل بين التقليد و الحداثة ؟ أم بنفاق و انتهازيات ؟ بهجانة في السلوكات القيمية و بطبيعتها المركبة ؟ كيف نستقرئ منظومة القيم في المجتمع المغربي ؟

1 – منظومة القيم برؤية باحثين مغاربة

انتعش مجال البحث في مسألة القيم بالمغرب مع القرن الحالي الجديد، وانتقل من نقاشاته النظرية والإيديولوجية إلى محك الفحص الميداني والإحصائي والوثائقي. وعلى الرغم من قلة الدراسات الملحوظة، إلا أنها تسم بقيمتها النوعية.. وكي لا نبتعد عن موضوعنا سنقتصر على عرض وبسط مساهمة كل من الباحثة رحمة بورقية والباحث عبد لله حمودي. مبررنا في ذلك كونهما معا تدخلا بشكل مباشر ومؤسس في موضوعة القيم و أنماط تمفصلاتها مع ثنائية التقليد والحداثة، وحملا معهما أجوبة عن أسئلتنا السابقة.
ضمن دراساتها حول موضوعة القيم بالمجتمع المغربي (6) ستعمل د.رحمة بورقية على تسجيل تعقد عملية البحث في مسألة القيم ، سندها في ذلك كون القيم أولا ، تتوزع من حيث طبيعتها ، إلى قيم مبدئية و أخرى مستبطنة وثالثة عملية، الأمر الذي يفرض على الباحث مراعاة مستويات تداخلها، وثانيا استحضار عامل التغير الذي يمس القيم. ضمن هذا العامل الثاني ، تعلن أن دراستها للقيم ستلامس ثلاث أزمنة من تاريخ المغرب اعتمادا على مقاربة سوسيو- أركيولوجية، أولاها تنتمي إلى مرحلة الماضي و التي تمتد في الحاضر ، ضمن مجتمع مغربي ورث مرجعيات تقليدية للقيم، وثانيها تمتد من الاستقلال إلى تسعينيات القرن الماضي، حيث عرف المجتمع المغربي تغيرات اجتماعية مهمة سواء على مستوى التعليم أو الإعلام أو على مستوى المنابع المنتجة للقيم، وأخيرا الزمن الممتد من تسعينيات القرن الماضي إلى الآن ، حيث ستعرف ساحة القيم نوعا من إعادة التشكل تفترض ، حسب د.رحمة بورقية ، نوعا من البيان و الإضاءة كي نستشرف المستقبل. (7)
بناء على ذلك ترسي الباحثة رحمة بورقية ما تسميه بالسجل التقليدي للقيم، والذي يحتوي على قيم البركة والصبر والطاعة والمعقول والنية والكلمة والحق و الخير والقناعة والمكتوب ،لتعبر إلى عملية استقراء التغيرات التي لحقت هذا السجل. وفي سياق إرساء فرشتها النظرية لإنجاز ذلك ستعمل على نقد أطروحتين في قراءة تغيرات القيم . تتمثل الأولى في مقاربة تغير القيم عبر وضع قطيعة بين القيم التقليدية و الحديثة، ومن ثم الحكم على القيم التقليدية بالتراجع أمام زحف القيم الحديثة. أما الثانية فتحاجج على صمود القيم التقليدية في وجه كل التغيرات. أطروحتان تعتبرهما الدكتورة رحمة بورقية يستهلكان سندين ضعيفين في قراءة المجتمع المغربي بشكل عام ، و منظومته القيمية بشكل خاص . يتمثل السند الأول في استهلاك النموذج الغربي في رسم إيقاعات تطور المجتمعات، متجاهلا بذلك متغيرة الحدث الإستعماري وأشكال الهيمنة الإقتصادية وكذا صلات التفاعل بين النسقين في قراءة تشكيلة المنظومة القيمية في المجتمعات السائرة في طريق النمو. ويقوم السند الثاني على تصور المجتمع ككلية متجانسة وواضحة، مغيبا بذلك عوامل شتى تحدث تمايزات و اختلافات اجتماعية جديدة يكون لها أثرها على تغييرات منظومة القيم. إنه حال المجتمع المغربي طيلة العقود الثلاث الماضية التي تلت الاستقلال والذي تغذى بعوامل جديدة على مستوى الشغل والتربية والحركية المجالية و السياسات العمومية في مجال الصحة والأسرة …(8). لقد أحدثت هاته المتغيرات سجلات قيمية جديدة ستنضاف إلى السجلات القيمية التقليدية لتشكل خزانا مركبا من القيم، بتعبير الراحل بول باسكون، وقبله اندري آدم (9)
بناء على مقاربتها السوسيو-أركيولوجية، المستلهمة من الباحث التونسي عبد الوهاب بوحديبة ، لأزمنة تشكل المنظومة القيمية بسجلاتها المتنوعة، في مغرب ما بعد الاستقلال ، سترسي الباحثة رحمة بورقية استنتاجاتها التحليلية الكبرى ، بالصيغة التالية :
-داخل منظومة القيم يتعايش نظام التقليد مع الحداثة بشكل معقد و مركب . و هو ما يفرض على الباحث ملاحقة هذا التعقد و التركيب للكشف عن كونه ليس « تعايشا سلميا «لعناصر متنافرة، ومن ثم بيان طبيعة التفاعل والتفاوض المستمرين بين مكوناته» (10)
– تعبر العلاقة بين التقليد و الحداثة عن نفسها، ضمن المنظومة القيمية، في اتجاهات ومناحي ثلاث:
– منحى الممارسات الاجتماعية الجماعية، وضمنه تتسم الصلات بين السجلات التقليدية والحديثة للقيم بالهجانة. والقصد باللفظ الأخير، حسب الباحثة بورقية، غياب التعارضات و حصول التعايش المسالم.
– منحى الوضعيات، وضمنه تعيش الصلة بين قيم التقليد و الحداثة تذبذباتها وتأرجحاتها حسب كل وضعية . مع كل وضعية يتم اختيار القيم التي تلائمها ، بعيدا عن كونها تقليدية أو حداثية.
منحى سياسي مدعم بالإعلام، وضمنه تعرف سجلات القيم تعارضاتها . حيث يتم توصيف كل سجل باسمه ضمن ثنائية التقليد و الحداثة (11).
تكتسي مقاربة الباحثة المغربية رحمة بورقية لمنظومة القيم أهميتها، في نظرنا، إلى جانب قيمتها العلمية، في وضع يدها على مدخلين ملحين لإعادة قراءة طبيعة المجتمع المغربي في تفرده بشكل عام ، و منظومة القيم بشكل خاص.
المدخل الأول ويتمثل في رصد منظومة القيم داخل نموذج أو مستوى الممارسات الاجتماعية الجماعية، حيث ينكشف كنز الشعب المغربي في إدارته المتفردة لما ينبع من ماضيه وما يعتمل في حاضره الذي تتشابك داخله ديناميته الحاصلة في الداخل مع دينامية الحاصلة مع الخارج. تقول رحمة بورقية: «هنالك منحى يوجد على مستوى الممارسات الاجتماعية الجماعية والذي يسم المستوى العميق للمجتمع . في هذا المستوى تتهجن القيم بحيث يندمج التقليد في الحداثة بنوع من التناغم ومن دون توترات، مانحا بذلك هبة الحياة لقيم جديدة. ضمن هذا المستوى، يتجلى المنحى الخلاق للمجتمع وهو يشغل قدراته المبدعة، حين التقائه بالتغير الاجتماعي، لدمج متناغم لإرث الماضي في حاضره . هذا الميل و المنحى يوجد في الممارسات الاجتماعية الجماعية لنمط العيش واللباس والعمارة…إلخ» (12).
المدخل الثاني ويتمثل في رصد المنطقة المولدة والمؤججة للصراع والحروب القيمية في المجتمع المغربي، والتي تفترض من الباحثين اعتبار طبيعتها، وترجمة هذا الاعتبار على المستوى المنهجي والنظري، وهم يقبلون على قراءة المجتمع المغربي بشكل عام، ومنظومته القيمية بشكل خاص. تقول الباحثة رحمة بورقية: «تسوية أمر القيم يتم في ميدان المعرفة وعبر مناظرات واعية ومفكرة. فالانقسام والتوزع بين التقليد والحداثة الذي يقوده ويغذيه الخطاب السياسي والإعلامي، مثلا، يدفع نحو حرب الكلمات والمرجعيات، ومن ثم نحو احتماء طرف داخل دائرة تقليد مثالية، والطرف الآخر داخل دائرة حداثة متخيلة، الأمر الذي يفضي إلى خرجات متوترة حول القيم عوض أن يفضي إلى المناظرة حولها .المناظرات حول القيم مكانها هو ميدان المعرفة و العلم لانهما ما يمكن من فهم وتفكيك التقليد و الحداثة في الآن نفسه، ليس بوصفهما خزانين متناحرين ، بل كمكونات لحاضرنا ، معتبرين ضمن كل ذلك كون التقليد يتجدد بشكل دائم عبر التاريخ، و بأن الحداثة ليس غريبة عنا» (13).
في نفس السياق المضموني العام لمقاربة الباحثة رحمة بورقية لمنظومة القيم بالمجتمع المغربي، (مع استبعاد توصيف الهجانة والتركيب والأركيولوجيا)، يتدخل الباحث الانثروبولوجي المغربي عبد لله حمودي في الموضوع ضمن مؤلفه «الحداثة والهوية» (14). يفتتح عبد لله حمودي مؤلفه بإرساء أرضه النظرية الأولية بتحديد الحداثة ، لا ككلمة أو مفهوم، بل كواقع و بناء تاريخيين عاشهما الغرب الأوروبي ضمن سيرورة تاريخية تدريجية مست نواحي الحياة الاجتماعية الشاملة (15) وبناء عليه انبنت تلك الحداثة بوصفها «قطيعة « ، أي بوصفها حدثا شكل مفعول حدوثه نظرة إلى ما قبل تلك القطيعة ، تم نعتها بـ «التقليد» و«الثراث»…(16). مبتغى إرساء هذا المعطى البسيط والهام، بيان «أنه لاسبيل لتبني طريق الحداثة يحاكي طريق أوربا» (17) من جهة، ومن أخرى تبصر ما نمتلكه وما يوجد تحت أيدينا الآن. «كل ما بين أيدينا اليوم بجانب الثراث المعاش يتلخص في تصورات للماضي وتاريخ دفاعي من جهة، و تصورات للحداثة الاوروبية من جهة ثانية، ولهذين العاملين تأثير قوي على الواقع الحاضر والمستقبل» (18)
إذا كانت الحداثة واقع تاريخي و التقليد ليس غير نعت وتسمية لما كان سابقا لها، فكيف نتعامل مع خطابات التقليد و الحداثة في المجتمع المغربي؟ و ما صلاتها بضبط منظومة القيم و استقراء حقائقها في نفس المجتمع؟
للإجابة على ذلك يشغل عبد لله حمودي مفهومين مترابطين ، ينعت الأول «بسياسة الخطاب» والثاني بـ «إنتاج الأحكام المعرفية» (19). بفضل مفهوم سياسة الخطاب يبرز أن الصراعات و الحروب المعلنة في البرامج والخطابات بين من يصنفون أنفسهم ضمن دائرة وجبهة الحداثيين بكل مسمياتها الفرعية (ليبراليون، اشتراكيون..)، وبين من يضعون أنفسهم ضمن جبهة التقليد (أهل الأصالة و الدعوة..) ليست في واقع الأمر سوى صراعات و حروب داخل الخطاب و تدبيرها في المجتمع ما هو سوى سياسة لهذا الخطاب. إن نظرة وتصورات «الجبهتين» معا هي من إنتاج سياسة الخطاب، لذلك لن يجد الباحث في الواقع الاجتماعي أي حضور لهما . لن يجد لا التقليد ولا الحداثة ، و إنما ممارسات اجتماعية يتداخل فيها التقليد مع الحداثة لدى حاملي التصورين معا .(20) . يقول عبد لله حمودي بهذا الخصوص :» إن سر «سياسة الخطاب « يكمن في التناقض بين القوة التي يستمدها زعماء الحداثة من التأهيل العلمي و التقني ، من جهة والضعف الذي يسكن مواقفهم من القيم الدينية والأخلاقية التي تتداخل مع قيمهم الحداثية من جهة أخرى . هذا التناقض يغذي قوة خصومهم الذين يتصدرون الإصلاح باسم تأويلاتهم للإسلام « (21)
وبفضل مفهوم «إنتاج الحكم المعرفي» يكشف عن الآليات التي تحكمت و تتحكم في إنتاج هاته الثنائيات وتغذي صلاتهما الصدامية داخل الخطاب . تعتبر المقارنة مع اوروبا، او ما يسمى «غربا» الآلية الكبرى التي حكمت، حسب عبد لله حمودي، جميع الثنائيات وعلى رأسها ثنائية التقليد والحداثة و الاصيل و الدخيل (22) آلية ظلت تستبطن وتضمر فرضية وجهت إنتاج الأحكام المعرفية من دون أن تخضع لأية مساءلة ، فرضية مفادها كون» أن الأصالة و الحداثة يكونان موجودين مجردين، لهما وجود طبيعي في حد ذاتهما.
وبذلك يخيل للناس أن تناقضهما ضمن الثنائية هو كذلك شيء تفرضه طبيعة الأشياء « (23). تفضي المقارنة بفرضيتها المضمرة تلك إلى إرساء التصنيف الثنوي (تقليد –حداثة)، وتحويل الصراع و الصدام إلى صراع يستهدف السيطرة والهيمنة على التسميات، والكلمات .صراع يمكن توصيفه بلغة عبد لله حمودي، بكونه «سياسة الاستيلاء على قوة التصنيف» (24). ومن ثم السهر على صفاء ونقاوة الحدود بين التقليد والحداثة. رسم الحدود وحراستها بين طرفي الثنائية، مؤداه إنكار المشترك، وإنتاج الصورة المغلقة لكل من الماضي والمستقبل. «ترفع الحداثة عن الدعويين وترفع الأصالة عن الحداثيين… ويتحول الحداثي إلى استعارة تحيل على الآخر المنبوذ، أي الغرب، والدعوي يتحول إلى استعارة تحيل على الفكر المتحجر والثراث الجامد» (25).إنها سياسة الخطاب التي تؤطر بآلياتها وفرضياتها المضمرة إنتاج الأحكام على الذات والآخر، وكذا على ماضي وحاضر ومستقبل المجتمع المغربي عامة، وطبيعة منظومته القيمية بشكل خاص .سياسة رافع عبد لله حمودي ضدها، ليضعنا وجها لوجه أمام طبيعتها الخطابية، ورهاناتها الدائرة حول الهيمنة والسلطة. ومن ثم الكشف عن ورقة السؤال الأكبر المحتجب (تحت ظل تناحرات الخطابات والمصالح) و المدخلي في الآن نفسه لإعادة صياغة معالم طريق مستقبل المجتمع المغربي: لماذا السكوت عن التمازجات في المغرب والمنطقة بأسرها؟ ولماذا تهميش هذا الواقع الحيوي؟ (26). ولماذا الاستمرار في سياسة إنكار المشترك وعدم الاعتراف بتشكيلتنا المركبة؟ إن التمازج هو أصل المغاربة الأقوى، وهو الكنز الثمين، والوديعة التي احتضنها التاريخ، وصارع المغاربة لأجلها في الزمن القريب. إنه المفهوم المنطلق، والممارسة الجارية في نمط العيش الجماعي، وبإمكانه، حسب عبد لله حمودي ان يكون إطارا للحياة الاجتماعية و السياسية. يقول بهذا الخصوص: «خلاصة القول إن ظاهرة التمازج التي شكلت وإلى زمن قريب الظاهرة الأساس قد همشت بفعل التحولات الاستعمارية، وبفعل القوميات، وبفعل السلطويات، وبفعل تنافس الهويات الحالية في ظروف العولمة . و قد يظن البعض أنه من المستحيل إعادة الاعتبار إلى التمازج كمفهوم وممارسة، وكإطار للحياة الاجتماعية والسياسية في منطقتنا. لكن العكس هو الصحيح». (27).
مبتغانا من وراء استحضار باحثين مغربيين من عيار رحمة بورقية وعبد لله حمودي، الحجاج على كون المجتمع المغربي، بمنظومته القيمية، لا يمكن تبصر عمقه ضمن خطاطة وصنافة وثنائية التقليد والحداثة. الأمر الذي انزاحت عنه الدراستان لتسليط الضوء على مناطق التمازج والتعايش الخلاقين داخل تلك المنظومة، والمتمثل في العلاقات الاجتماعية الجماعية للمغاربة، وفي ممارساتهم داخل ظرفيات ووضعيات ملموسة .بناء على ذلك يصبح من الصعب قبول توصيف الوضع القيمي بالمجتمع المغربي بـ «أزمة القيم» و«السكيزوفرينيا القيمية» و«النفاق الاجتماعي» و ما شابه ذلك.

2 – عودة إلى بول باسكون

ليست عودتنا إلى بول باسكون، عودة إلى إسم /شعار، أو إسم /سلطة، بل عودة إلى ممارس للسوسيولوجيا، في المغرب وعليه، ظل قصده هو الإمساك بما يتفرد به المجتمع المغربي، مقارنة بمجتمعات اخرى. وكان أن قاده قدر البحث في «حوز مراكش «للعثور على توصيف» المجتمع المزيج «كوصف مطابق و ملائم لما يعتمل داخل هذا المجتمع، من تشكيلات اجتماعية متمايزة من حيث طبيعتها الاجتماعية والتاريخية، بعيدا عن إسقاط خطاطة نظرية جاهزة تم تجريبها على مجتمعات مغايرة في الزمن والطباع .(28). لن نسير في اتجاه عرض وإيضاح التركيب والتمازج كما بسطه باسكون داخل سؤال أنماط الانتاج والتشكيلات الاجتماعية الاقتصادية، بل إن ما يستوقفنا داخل كل ذلك هو انزياحاته بمفهوم التركيب والتمازج لتوصيف الممارسات الاجتماعية للإنسان المغربي، بشكل عام وداخل سياق وضعيات ملموسة بشكل خاص. يدرج بول باسكون، في أحد نصوصه التي يبسط فيها النماذج الخمس التي تتعايش داخل المجتمع المغربي، حالتين أو مثالين يشخصان الكيفية التي يعبر بها التمايزالمتعايش، على مستوى التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية، إلى مستوى الممارسات الاجتماعية . يقول:
«ينتمي فرد محدد وحسب سلوكاته المختلفة، إلى عدة مجتمعات. والدلائل على ذلك بسيطة ويومية: فلاحون لهم الحق في الاراضي الجماعية، تذهب نساؤهم، يوم العنصرة، لرش قبور الموتى من الاقارب و الاجداد و التبرك بهم، ويوم غد يتسلحون بكل اللازم من اللباس ليذهبوا إلى مكتب القرض الفلاحي كي يطلبوا قرضا جماعيا . ألا يمكن لنا بدلا من تحديد هذا عن طريق السن والسلالة والمنطقة، رده عوض ذلك إلى تعايش نماذج اجتماعية متعددة، وهي بالمناسبة خمس نماذج».
«لدينا مثال آخر عن شاب يحمل شواهد ويرتدي بذلة عصرية . يتصل هاتفيا بمسؤول اداري ويحادثه بالفرنسية ليوصيه عن تشغيل شخص معين .لكن أمام تحفظات المسؤول، فإنه يلح عليه أكثر من مرة ، لكن هاته المرة بالعربية ، موضحا له بأن عائلته كبيرة، لا مورد ولا معيل لها ، و أنه من قبيلة كذا … لكنه في الأخير يواجه برفض معلل بالقانون. كل هذا تم من دون أي ذكر لمؤهلات المترشح الموصى به» (29)
مثالين وغيرهما كثير، يقول، باسكون للإستدلال على الكيفية التي يدمج بها الأفراد مجتمعهم المزيج، ويمارسون صلاتهم الاجتماعية وسلوكاتهم خارج ما قد يبدو متناقضا أو متنافرا، متعايشين ومتيكفين بفضل ذلك مع كل متطلبات وحاجيات أوضاعهم الاجتماعية.
يستهدف استحضارنا لهاته الأمثلة، عوض عرض تمازجات التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية، بيان كون قوة وعمق «كشف» بول باسكون المتمثل في توصيف المجتمع المغربي بالمركب والمزيج، تتجلى وتكمن في الممارسات الاجتماعية أكثر منها في «سؤال أنماط الإنتاج». ومن ثم تكون على صلة بـ «بالمغربي» ونمط عيشه وتعايشه مع سياقاته الاجتماعية الماضية والحاضرة .العيش في المتنافر والمتناقض، في الماضي الحاضر ولحاضر الماضي، بشكل سوي هي إحدى التفردات القيمية الكبرى للمغربي .لذلك اعتبر الراحل بول باسكون أن رصد مشكلات المجتمع المغربي بمنطق الفوراق ينسينا في الجوهري، أي التمازج. (30)
لقد وضعت الباحثة رحمة بورقية يدها على هذا التمازج والتركيب الذي يطبع إيجابيا العلاقات الاجتماعية الجماعية المغربية، وإن كان بتوصيف مغاير هو الهجانة، ووضع الأنثروبولوجي عبد لله حمودي يده بقوة على التمازج من حيث هو حضور في الممارسات الاجتماعية و الوضعيات و الظرفيات للمغاربة و مدخل لإعادة صياغة كيفيات حضور المجتمع المغربي في الحاضر و المستقبل، وإن كان في كثير من الأحيان يمنحه مرادفا غير مطابق هو التوافق (..). لكن في كل ذلك يسكن الجوهري : منظومة القيم لا يفترض علميا أن نضع لها كمدخل، المقاربة بالفوارق، حسب باسكون، وسياسة الخطاب، حسب حمودي ، و المنحى السياسي الإعلامي ، حسب بورقية .لأن مؤدياتها السقوط في الحروب الرمزية، المضمرة لرهانات السيطرة على الكلمات والتصنيفات ليس إلا، بكل تبعاتها الاجتماعية على الصلة بالماضي والحاضر و المستقبل .

هوامش

1-Balandier,george, sens et puissance, puf,2éme,édit,1981,pp :91et102.
2-Balandier,george,Histoire des autres,édit,stok,1977,p :231.
3-Balandier,g, sens et puissance,ibid,p :91.
4-Berque,jaque, ça et la dans les débuts du réformisme religieux au maghreb, ……p :471
5 – الزاهي نورالدين، الزاوية و الحزب، الإسلام والسياسة في المجتمع المغربي
6-Bourqia,rahma, les valeurs ,changements et pérspéctives ;http://doc.abbatore.hat.ma/doc/img-pdf.
7-ibid,p :64
8-ibid,p :72
9-ibidem
10-ibid, :73
11-ibid,p :74
12 -,ibidem
13-ibid,p:104
14 – حمودي ، عبد لله، الحداثة و الهوية ، سياسة الخطاب ، الحكم المعرفي حول الدين و اللغة ، المركز الثقافي العربي ، 2015م، ص: 1
15 – المرجع السابق ، ص : 16-17
16 – المرجع نفسه ، ص: 19
17 – نفس المرجع و الصفحة
18 – نفس المرجع ، ص: 20
19 – نفس المرجع ، ص: 61
20 – نفس المرجع ، ص: 69
21 – نفس المرجع ، ص: 72
22 – نفس المرجع ، ص: 81
23 – نفس المرجع ، ص: 82
24 – نفس المرجع ، ص: 84
25 – نفس المرجع ، ص: 91
26 – نفس المرجع ، ص: 226
27 – نفس المرجع ، ص: 229
28-Pascon ,paul, le haouz de marrakech ,t :2,,,,,,,,,,p : 591
29 – باسكون ، بول ، طبيعة المجتمع المغربي المزيجة ، ترجمة مصطفى المسناوي ، ضمن ، بول باسكون ، علم الاجتماع القروي، مطبعة القرويين ، البيضاء ، د.ت. ص: 54
30 – نفس المرجع و الصفحة .
(يتبع)


الكاتب : نورالدين الزاهي

  

بتاريخ : 18/03/2019