الكتابة بين الحلم والذاكرة ‎رواية «بستان السيدة» نموذجا  

«الإنسان الذي لم يعد له وطن، يتّخذ من الكتابة وطنًا يقيم فيه». وأظنّني – فعلًا – صرتُ أستدلُّ وطني
«إدوارد سعيد»

تعتبر الكتابة من خلال منظور إدوارد سعيد ذلك الوطن الذي يقيم فيه الكاتب عند فعل الكتابة، فهو بذلك يتيح إمكانات عميقة لخلق عوالم ذاتية لشخص الكاتب، ونحن عند الكتابة ندشن منفى وخلوة بالنفس تجعلنا نقيم جدار الغوص في العبارات، تقول الروائية رضوى عاشور في هذا الصدد»الكتابةُ فعلٌ أنانيٌّ وطارد، يفرض درجةً من العزلة الداخليّة، ينفيكَ عمّن حولك أو ينفي مَن حولك، يضعُهم على الرفِّ إلى حين، لأنك حتّى وإن كنت تجلسُ معهم، تشاركهم الأكل أو الكلام فأنت في مكان أخر».
إذن فالكتابة استقالة عن الوجود نحو اللاوجود، هي بحث مضن عن أحرف يبتغي من خلالها الكاتب الخلود الرمزي عبر كتاباته، الأثر اللغوي. ما من فعل نرتكبه إلا ووراءه منفعة أو هدف إلا الكتابة، ولعل ذلك ما دفع غابرييل غارسيا ماركيز لأن يقول: «أي سرٍ هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوىً يمكن لكائن بشريٍ أن يموت من أجله، أن يموت جوعاً، أو برداً، أو من أي شيء آخر لمجرد عمل هذا الشيء الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه» وهو شيء في نهاية المطاف، إذا ما أمعنّا النظر، لا ينفع في أي شيء؟» ورغم رؤيته بعدم النفعية يضيف في موضع آخر: «الكاتب الجيد سيستمر في الكتابة وإن لم يجد ثمن ترميم حذائه».
نستشف من هذا المنطلق أن الكتابة فعل انساني فهو مرآة الأنا للأخر ، من خلال ما سبق سنعمد على تقصي آثار فعل الكتابة عند عبد القادر الشاوي من خلال منجزه الروائي المعنون بــ» بستان السيدة» الواقع في 166 صفحة والصادر حديثا عن دار الفينك للنشر2018.
تدور أحداث هذه الرواية عن عمل أدبي (رواية) يبتغي صاحبه سعد، الشخصية البطل أن تترجم الى الفرنسية، بذلك يتم اقتراح شخصية حنان الداودي لترجمة هذا العمل ،من قبل شخصية مريم البدري.أما شخصية كريم السعداني ذلك الجسد المريض الملقى في المستشفى، هو نفسه الذي تسبب أيضا بمرض شخصية حنان الداودي من جراء حبها له بشكل صوفي، يشكل أحد طقوس العبادة المطلقة لشخصه.
لقد احتفت الرواية بتيمة الكتابة من خلال فعل التراسل بين شخصيتي (سعد و حنان) هذا التراسل الذي بدأ شهر فبراير من عام 2007 حيث يعتري الرسالة الأولى شيء من المفاجأة بالنسبة للطرفين حيث يقول البطل سعد: «ربما كانت رسالتي إلى حنان الداودي أكثر من مفاجأة لها بالتأكيد ولي أيضا حين أعدت قراءتها في فترة لاحقة ، لا بل ربما عادية تماما كما قلت في بعض اللحظات أيضا». يتبين لنا من خلال هذا المقطع أن السارد وشخصية حنان يعيشان نوعا من التناقض كما صرح وأشار،» إن هذه الرسالة الأولى كانت تخفي كالعادة كلما خاطب النساء شيئا من الطمع»…. ويسترسل في قوله» الطمع الذي لا يمكن أن ينتهي.».. هنا نطرح السؤال ما نوع الطمع؟ هل طمع التقرب من شخصية حنان أم الطمع في خلق عوالم غامضة لدى المتلقي حول العلاقة بين شخصية حنان الواقعية والمتخيلة.
لقد دشن عبد القادر الشاوي من خلال هذه الرواية فعل الكتابة كفعل لترجمة الحلم والاستعانة بالذاكرة التي لها دور أساسي في بناء المكون السردي للرواية.
يمكن الحديث عن فن التراسل باعتباره جنسا يتخلل الرواية، وهذا يحيلنا على ما تحدث عنه ميخائيل باختين بالتعدد الأجناسي ويعني تواجد أجناس متعددة في جنس الرواية. فالرواية كتراث إنساني هي الجنس الأمبريالي الطبع الذي يضم أشكالا تعبيرية مختلفة مما يجعلها متشعبة ومتعددة اللغات والأصوات.
إن عنصر الكتابة عند المؤلف يقوم على عنصري الذاكرة والحلم ،فالذاكرة حين يقول السارد : كانت لي في الواقع رسائلي وذكرياتي ومعرفتي العامة…الى جانب رغبة متأججة ، كلية مطلقة، كنت أداريها طول الوقت، أقصد أن أكتب رواية وانتهى الأمر… ويقول في موقع آخر «في الذاكرة رأيت، في بداية الأمر رسائلها الكثيرة مرتبكة تتكلم فيها عن الشعر أو يتكلم الشعر عنها، عن كريم السعداني في علاقة جوانية ذات نفحة صوفية تتسم بالغموض وأبحرت نحو المجهول، عن الحياة الميتة التي كانت لهما. عن العذابات والذكريات العطرة أو بالأحرى المرة بدون كبرياء». أما عنصر الحلم فهو عندما خلق ذلك اللقاء المزعوم بين سعد وحنان في باريس حيث يقول السارد : « ومع ذلك قررت واهما وبدون تردد أن أسافر إليها، ولست أعرف تماما الى الآن كيف يسر لي الحلم سفري قطعا…إنني أستعيد في حلمي هذا جميع التفاصيل تقريبا التي حملتني على السفر».
في هذا المقطع يخلق السارد المتجسد في شخصية سعد لقاء مع حنان الداودي في مدينة باريس في شارع غرونيل، حيث يقول :»لا أذكر الآن في هذا الحلم المستهام إلا وقد استدرت مباشرة مع شارع ربما يسمى غرونيل، فوجدت نفسي على مقربة من مسرح مايول في مقابل مطعم الفيل الوردي أو شيء من هذا القبيل». إن هذا اللقاء المتخيل ليس له وجود في الأصل فهو حالة الكتابة بالحلم التي تجعل القارئ في حالة انعدام توازن بين الواقع والمتخيل. هذا الأسلوب استلهمه سعد من رواية «الوداع الاخير لسيلبيا جويس التي اقترحها عليه أحمد الناصري ، وهذا لأنه كان يعلم أن هناك تشابها بين رواية سعد ورواية سيلبيا من حيث التراسل الافتراضي الذي قام بينه وبين حنان قبل وبعد وفاة كريم السعداني. ينتبه سعد من خلال قراءته لرواية «الوداع الاخير» أنها تتشابه مع روايته التي كتبها حيث يقول: « سينتهي التراسل في رواية سيلبيا جويس بالانقطاع الذي هو الانتحار أيضا ، وينتهي في روايتي بالانتحار الذي هو الانقطاع أيضا.أعني الفعل الذي أصبح بقوة الفجع انتحارا أقدمت عليه حنان الداودي في غفلة من نفسها على الأرجح».
من خلال هذه المقاطع نفهم أن الكتابة لها بعد تأملي يتمثل في الحلم في حالة الصحوة.. ونفهم أيضا لعبة المؤلف في توهيم القارئ بشخصية حنان المتخيلة والتي ليس لها وجود إلا في المراسلات، التي هي أيضا فعل استذكار يستند على الذاكرة والحلم.
لقد نجحت رواية «بستان السيدة» من خلال فطنة مؤلفها عبد القادر الشاوي في استدراج القارئ ثم التضليل عليه في متاهة التحولات على مستوى الشخصيات، فتصبح الكتابة من هذا المنطلق ذات معنى من خلال الاستناد على الحلم والإيحاءات الغامضة التي يستدعيها المؤلف من متحف الذاكرة ، ثم باختيار أسلوب صوفي يجعل الموجودات مجردة ، علاوة على ذلك نجد عنصر التشعب الأجناسي من خلال التوسل بأشكال تعبيرية مختلفة، ناهيك عن الأبعاد النفسية للشخصيات التي كان يطبعها التناقض وربما الانفصام.
«بستان السيدة» هي رواية حلم في حضرة الذاكرة … هي شغف الكتابة والمكر في خرق أفق انتظار القارئ والمتلقي.

*طالبة باحثة


الكاتب : سلمى العلالي*

  

بتاريخ : 14/03/2019