الكتابة والعزلة: نداء الأقاصي المخفور بالنور

يقول الشاعر والكاتب الفرنسي إدمون جابيس «قعر الماء مرصع بالنجوم»، بمعنى أن اللآلئ والحقائق الصافية لا تتأتى إلا بالغوص في هذا القعر المشبع والمشع بالنور.
هي دعوة إذن للبحث عن جواهر الأشياء، للتأمل في صفاء اللغة وما تمنحه من سخاء ، سخاء لا يتم إلا في أغوار العزلة وصمتها الذي يضج بنكهة الأشياء في هيولتها، صمت وسمت يتغذى من خلال التأمل، لائذا بعزلة تسمح بقدرة مضاعفة على الإبصار والرؤية. هذه القدرة التي جعلت نيتشه يقول يوما «سارع إلى عزلتك يا صديقي» ، ودفعت الكاتب الأمريكي هنري ثورو إلى مصادقة غابات «والدن» باحثا عن» الحقائق المركزية للحياة».
كتاب وشعراء نادتهم تلك النجوم فاستجابوا لنداء الأقاصي، محاولين النفاذ إلى الطبقات الغائرة للموجودات والأشياء لإيقاظ الأسئلة النائمة. وفي استجابتهم تلك، اختاروا الابتعاد عن الصخب والإنصات إلى ما وراء الضجيج الذي تحدثه الجماعة ممثلة في الآخر، فنعتوا بالإقامة في «الأبراج العاجية» التي ينفصل ساكنوها عن حركية الواقع واعتمالاته وسيرورته، لكنهم في عزلتهم الاختيارية هاته اختاروا عن وعي أن يهيموا في السراديب والأغوار السحيقة للنفس التي كلما توغلوا فيها، افتتنوا بالنور المنبعث منها، مستسلمين لسحر ووحي يقودهم الى التوحد مع الأشياء في بكارتها ونقائها الأول، ألم يقل الشاعر محمود درويش في قصيدته « لاعب النرد» : «الوحي حظ الوحيدين».
هل الوحدة مرادفة للعزلة؟ وهل العزلة دائما هي المعادل الموضوعي للألم؟ ما الذي تمنحه العزلة للكاتب: التماس مع القاع الأعمق للوجود والدواخل وإنضاج الفكرة على مهل، أم القدرة على النظر إلى العالم بعين الصيرفي الذي يصطاد أثمن ما في الحياة؟ هل يمكن أن نتحدث عن عزلة أدبية بقدر ما تنفصل عن الواقع، تنغرس أكثر داخله.
هذا ما نحاول في هذه الورقة، الإجابة عنه من خلال آراء كتاب ونقاد خبروا دهاليز عزلة الكتابة، و»الطريق الغامض الذي ينحدر إلى الدواخل» حسب تعبير الشاعر الألماني نوفاليس.

 

 

الناقد والكاتب
نور الدين صدوق:
بين العزلة، الوحدة
و المنفى

يرى الناقد والروائي نور الدين صدوق أن أي حديث عن عزلة أدبية، هو بالتحديد حديث عن الكتابة. فاختيار العزلة، القصد من ورائه «تفعيل الممارسة الإبداعية بغاية إنتاج معنى يترجم واقع الذات في علاقتها بنفسها، وبالتالي المحيط الذي تتفاعل معه. إذ التفاعل في العمق، حصيلة نتيجة عن علاقتين: الأولى والمعيش اليومي والثانية مع المرجعيات الأدبية التي تتصارع في اللاوعي وتذوب في الممارسة الإبداعية من منطلق أن لا كتابة بدون قراءة، و لا نص مهما اجتهدنا صاف. إذ – وكما يرى – الروائي الإيطالي «أنطوني تابوكي» (1943/2012)، فالمبدع في المفهوم الدقيق سارق استعارات من عدة نصوص بغاية خلق/ تخليق فرادة نصه الذي يعبر ويحمل هويته كمبدع ومؤلف. وهنا تحضر الإشارة إلى كون الاستعادة قد يفهم من روائها التكرار (بفتح التاء)، لولا أنه ليس تكرار القصد وإنما الإضافة، حيث توسعة المعنى و الامتداد به عبر تحققات مضيئة فاعلة ومنتجة. يقول «عبد السلام بنعبد العالي في كتابه «النص المتعدد» (توبقال/2020):
« التكرار إذن هو ما يحرر من التطابق، وهو ما يكمن وراء ديناميكية الهوية المنفتحة، إنه حركة «المباينة» التي تحدد الهوية كانتقال ملتو من مخالف لآخر، فتجعل التجديد ينبثق من عمق التقليد، وترد إلى التقليد غناه و ثراءه، فتسمح لنا بأن نردد القول «و نقوله مرة أخرى أول مرة» حتى يغدو «المعاد من قولنا مكرورا» كما قال زهير.» (ص/16)
الحديث عن العزلة الأدبية، بالنسبة للناقد صدوق، يستلزم ضبط معنى، مثل: ما الفرق بين العزلة والوحدة و المنفى؟. فالعزلة في الجوهر هي عزلتان :

عزلة الاختيار الشخصي و الذاتي.
ب -عزلة الإكراه و الإجبار.

فالأولى تتحقق عن طواعية واختيار، وتحافظ على حرية الحركة والانتقال عبر الأمكنة بما هي متنفس إيقاعات الكتابة والتأليف. ويمكن أن ينضوي تحتها العزلة المتمثلة في إجازات الإقامة داخل الدولة ذاتها أو في دولة ما من الدول. أما عزلة الإكراه و الإجبار فسوداء. كأنك داخل معتقل تمارس حريتك ضمن المربع الذي توجد فيه. وباستمرار يلاحقك نفسيا الإحساس بالخوف والرهبة القاتلة، إذ سرعان ما تكره المكان وتمل من كل شيء و ترى الخارج بعين الحنين الجارف.
على أن الوحدة، خاصة، يتفرد بها الإنسان منذ درج على التنشئة والتكون. فيؤثر الاستقلال بذاته، والتحرك وفق الاكتفاء والقناعة الشخصية الذاتية. فالوحدة لا تتضمن العزلة، ولا تحويها، إذ قد يعيش المرء داخل غرفة في بيت وحيدا، لكن في فضاء جماعي يتشكل من عدة أفراد. وأما العزلة فتستلزم الوحدة، حيث الفردانية تفرض حضورها، و يتحرك المرء – كما سلف – ضمن حرية يفعلها لصالحه ويتأقلم معها يوميا فتغدو روتينا محبوبا. ويبقى المنفى في الأساس سياسيا، إلا أنه وليد الطواعية أو الإجبار، وعلى الأغلب يتم خارج الدولة مسقط الرأس. يرد في سيرة «اختراع العزلة» للأمريكي «بول أوستر» (دار المتوسط/2017) :
« كان منعزلا، إنما ليس بمعنى أن يكون وحيدا. ليس على طريقة «ثورو» (كاتب أميركي)، على سبيل المثال، ذلك الذي نفى نفسه، لكي يتمكن من تعرف مكانه، ولا العزلة على طريقة يونس الذي صلى للخلاص وهو في بطن الحوت. بل العزلة بمعنى الانكفاء. بمعنى ألا يضطر إلى رؤية نفسه، ألا يضطر إلى رؤية نفسه بعيون الآخرين» (ص/25)
و أما «رولان بارا فيورد في «يوميات الحداد» (المجلس القومي للترجمة/2018) :
« الإثنين الساعة الثالثة بعد الظهر. لأول مرة أدخل الشقة وحيدا. كيف سيمكنني العيش هنا وحيدا تماما. وفي الوقت نفسه من البدهي أنه لا يوجد أي مكان بديل.» (ص/15)
يتمثل أثر العزلة الأدبية كاختيار في عدة مستويات ، يقول الناقد والروائي المغربي صدوق ، مضيفا أن من أبرزها النفسي والأدبي. فـ»التجليات النفسية تتجسد في الإحساس الذاتي بالاطمئنان وكسر حدة الضغط، إذ بالإمكان الشروع في الممارسة الأدبية متى حان حين الكتابة الذي ينبثق انطلاقا من الخلوة بالذات وإتاحة إمكان التأمل، حيث الذاكرة تعمل على الاستعادة ورتق زمن الماضي بالحاضر في توليفة تركيبية أدبية ترتهن للتركيز وترتيب منطق الأحداث، بالإضافة والحذف كما التقديم والتأخير، بحكم أن الغاية بناء نص يتفرد بقوة البناء وتماسكه، وهو ما لا يمكن تحققه في غياب العزلة الأدبية».
يقف نور الدين صدوق عند حديثه عن أثر الخلوة الأدبية على مفارقة هذه الخلوة عند المذكر قياسا بالمقارنة ووضعية الأنثى، وبخاصة التي تحوز أبناء، مؤكدا أنها «قد تكون صعبة، علما بأن شهادات معظم الكاتبات تؤكد بأن الفيض الإبداعي لهن يتحقق ليلا بعد أن تكون وضعية البيت قرت إلى السكون والهدوء، إذ جميعهن يدخلن في العزلة الأدبية بعد الساعة العاشرة ليلا، وينتهين في وقت جد متأخر حسب القدرة والكفاءة و الاستعداد النفسي. تقول «إيزابيل الليندي» في شهادة لها حول الكتابة (لماذا نكتب/ بيروت/ 2016) :
« أحتاج أن أروي قصة، إنه هاجس. كل قصة هي بذرة في داخلي، تنمو وتنمو، مثل ورم، ويجب علي أن أتعامل معها عاجلا أو آجلا، لماذا قصة بعينها ؟ أنا لا أعرف ذلك حينها أبدا، ولكنني أتعلم من ذلك لاحقا. على مر السنين اكتشفت بأن كل القصص التي رويتها، كل القصص التي سأرويها على الإطلاق ، مرتبطة بي بشكل أو بآخر. عندما أتكلم عن امرأة في العصر الفيكتوري ترحل عن الأمان في بيتها، وتأتي حمى الذهب في كاليفورنيا، فأنا أتكلم عن الأنثوية، عن التحرر و الانعتاق، عن الأمور التي مررت بها في حياتي الخاصة، هاربة من عائلة تشيلية، كاثوليكية، محافظة، بطريركية، فيكتورية. خارجة إلى العالم.» (ص/29)
يخلص صدوق الى أن للعزلة الأدبية علاقة بالحلم، فـ»الرمزي وما تتحقق مشاهدته في النوم، تجسيد لنص يقتضي استعادته بغاية تدوينه وتحويله إلى لغوي مقروء. ويلعب الخيال في هذه الحالة دورا في عملية التحويل. وأرى إلى أن العزلة تسهم في تنمية وتغذية الحلمي كحياة وكرموز على السواء، خاصة وأن استمرارية التفكير في بناء النص وتأسيس معناه، الدافع الرئيس لفتح نوافذ متعددة على مستوى التخييل..»

الكاتب والناقد
مصطفى الحسناوي:
العزلة كانت الاختيار الأنطولوجي الذي أضاء طريقي نحو الكتابة

يرى الكاتب والناقد مصطفى الحسناوي أن»العزلة شرط وجود الكاتب وشرط وجود ممارسة الكتابة. داخل العزلة يعيش الكاتب «كالماء في الماء» حسب استعارة جورج باطاي، مضيفا أن العزلة التي يتحدث عنها «لا تتموضع خارج الوجود، بل إن علاقة الكاتب معها هي علاقة جوهرية وحميمية تماما كعلاقة النواة بالتمرة أو علاقة الحياة بالموت كما نجد عند هايدغر، والتي يصورها على شكل علاقة بين الفاكهة ونضجها قائلا «إن النضج لا يوجد في الأصل خارج الفاكهة، بل داخلها».
يسوق الحسناوي هنا كمثال على هذه العلاقة ما قاله الشاعر الألماني ريكله عن أن العزلة تنغلق عليه، وأنه داخل الاشتغال بالكتابة، كالنواة داخل فاكهتها: «العزلة التي يتحدث عنها ريكله، هنا، ليست العزلة التي يتحدث عنها عامة الناس. هذه العزلة تعتبر كهبة ومنحة .
ينبغي القول أيضا إن عزلة الكاتب هي بالذات عزلة الكتابة، لأن الكتابة في حد ذاتها لا تكون، في اشتغالها، مشروطة بالاستجابة لأفق انتظار»النحن» الاجتماعي.
يحتفل الشاعر بول فاليري، كما قال، داخل أعماله بالامتياز الفذ، والاستثناء الذي يمنحه إياه اللانهائي مع ضرورة الإشارة هنا الى أن اللانهائي لا علاقة له بميتافيزيقا الماوراء، بل علاقته كلها تنوجد في مادية الوجود وملموسيته»، مقرا بأن العزلة «لا علاقة لها بأي نزوع فرداني وتتجاهل كلية أي بحث عن الاختلاف في ذاته. يتعلق الأمر بمهمة تخومية، قوية أي مهمة امتلاك ما يتعذر امتلاكه. فمن يكتب، يجد نفسه دائما مفصولا عما يكتبه، وهذا الانفصال في حد ذاته يحميه من كل رنو أرعن، أو نزوع غبي للتحقق في نوع من المجد الوهمي»، وأن « لا أفق لعزلة الكاتب غير الانمحاء في كتابته، ولا أفق للكتابة ذاتها سوى الانوجاد في فضاء آخر يحررها من سلطة الأنا.
إن عزلة الكاتب تنعلن خارج الصخب والضجيج الذي ينتجه العقل الجمعي، وتتأسس في الإلزام الوحيد الذي يجد الكاتب نفسه مضطلعا به، وهو الإلزام الذي تفرضه عليه كتابته.
يقول الشاعر روني شار «الزم تجاه نفسك، ما وعدت به نفسك وحدها» وهو إلزام وجودي وإبداعي. هنا بالذات نجد الكاتب مشروطا بالالتزام الذي طرحه آرثر رامبو «أنا آخر».
لا يخفي الكاتب مصطفى الحسناوي أن العزلة كانت دائما، « الاختيار الأنطولوجي الذي أضاء طريقي نحو الكتابة منذ كتبت أولى خربشاتي الشعرية في بداية السبعينات، وأتذكر أنه في تلك الفترة كانت الكتابة والقراءة تأخذ أوقاتا معينة من حياتي اليومية: في المنازل والمدن والمناطق التي عبرتها في هذه البلاد، شمالا وجنوبا. فمنذ حصولي على الباكالوريا وأنا دائم الترحال حتى أن مكتبتي الخاصة ضاع الكثير من كتبها في هذه الترحيلات الدائمة. طبعا أنا أحب العزلة ولكنني لست منعزلا j’ aime la solitude mais je ne suis pas solitaire. .
فأنا أحب، ككاتب، السير في الأسواق وملاقاة الناس بالرغم من أن طقوس الكتابة ترتبط لدي بالعزلة التي داخلها يمكن أن نكتب ونفكر في تناغم تام مع الكون، وهي نفسها العزلة التي كان مفكر استثنائي مثل هايدغر يمارسها في كوخه بالغابة السوداء، حيث يخلق التماهي بين المسالك الغابوية المتربة ومسالك الحكمة.
داخل العزلة أجدني أرى الأشياء بنوع من الوضوح والشفافية. وسواء كنت بصدد كتابة رواية أو نص نقدي أو دراسة فلسفية، فإنني غالبا ما أفضل التوحد مع نفسي وذلك عبر التوحد مع الأشياء والكلمات».

 


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 03/04/2020