المخابرات الفرنسية ولعبة خلط الأوراق في قضية اغتيال الشهيد المهدي بن بركة 2/2

يوم 2 نوفمبر 1965

عندما عاد الكولونيل بومون إلى عمله يوم 2 نوفمبر، تساءل لماذا لم يتصل به لوروا في رقم هاتفه الخاص، فأجاب هذا الأخير، انه كان يأمل الحصول على معلومات جديدة. لكن لوروا تراجع أمام المحكمة عندما أحس بالبساط يسحب من تحت رجليه ، انه هاتف بومون، وأن امرأة أجابته بأن الكولونيل في عطلة. فعقب بومون على ذلك بأن لوروا يكذب. والسؤال المطروح أيضا هل أعلم لوروا رئيسه بالمكالمة التي جرت بينه وبين لوبيز يوم 31 أكتوبر 1965.
المثير للانتباه في هذا المسلسل من الأحداث ، هو الصمت الطويل للوروا ، والذي أراد لعب دور الواجهة في المحاكمة إلى أن اكتشف أنه وحيدا أمام المحاكمة، وأنه سيؤدي الثمن وحده..فقد تلقى لوروا يوم، 31 أكتوبر في الساعة الحادية عشرة وست وثلاثين دقيقة، مكالمة طويلة من لوبيز، الذي التحق بعائلته في بيلكارد بمنطقة اللوار. وانتظر لوروا إلى يوم 2 نوفمبر لكتابة ورقة حول موضوع المكالمة الهاتفية بين الرجلين، ثم وجه الورقة إلى رئيسه بومون ، لكنه لم يتذكر كل ما جاء في المكالمة. ، وكل ما تذكره أن سأله لوبيز ، هل سمعت بخبر اختطاف بن بركة، وأضاف :

Il y a de l’Oufkir
la- dessous

وفوجئ الجنرال جاكيي أمام المحكمة من أن لوروا لم يخبره بموضوع المكالمة بينه وبين لوبيز. ويظهر تورط لوروا في الأحداث التي تلت افتضاح العملية، فمباشرة بعد المكالمة المذكورة أعلاه بين لوبيز ولوروا يوم 31 أكتوبر، اتصل ضابط الشرطة لوبون من ولاية أمن باريس بمصالح المخابرات في الساعة الثانية عشرة وخمس وأربعين دقيقة، طالبا إذا كان أحد ضباط المصلحة، قد اتصل ببن بركة يوم 29 أكتوبر، لكن تحت أوامر لوروا، كانت الإجابة بالنفي في الساعة الواحدة والربع، وبرر لوروا أن لوبيز ليس ضابطا في المصلحة، لكنه مخبر فقط.
لم تأخذ الأمور مجراها الحقيقي في قضية بن بركة إلا يوم 2 نوفمبر، إذ بدأ لوروا الاتصال برئيسه بومون وإخباره بموضوع مكالمة 31 أكتوبر. اتصل بعد ذلك بالجنرال جاكيي، ليتناول طعام الغداء مع الضابط كاي من الاستعلامات العامة، الذي أخبر لوروا بان لوبيز اشترك في عملية الاختطاف، جاء الخبر من أحد مخبري الاستعلامات العامة، الذي نقل الخبر عن المحامي والبرلماني لومارشون، الصديق الحميم لجورج فيكون. وأضاف كاي بأن S.D.E.C.E غارقة في مستنقع من…، لكن لوروا كان يجيب بأنه لا يعرف شيئا عن القضية. وبناء على المعلومات التي وصلت إلى كاي ، فمن المرجح أن أوفقير أجهز على بن بركة بخنجر…
إن إجابات لوروا على المعلومات التي كان يتوفر عليها الضابط كاي، جعلت هذا الأخير يعي أهمية المعلومات التي كانت بحوزته، لأنه شك في رد فعل لوروا تجاه ما دار بينهما من حديث.
يظهر من خلال تصرف لوروا يوم 2 نوفمبر أنه فوجئ من رد الفعل حول اختطاف بن بركة، فقد دبت حركة قوية داخل مصالح S.D.E.C.E ، وتوجهت بعثة من هذه المصالح إلى ولاية أمن باريس ، بناء على توصية الجنرال جاكيي. كانت البعثة مكونة من كامب ، مدير مساعد في مصلحة مكافحة التجسس، وكانت له مهمة الاتصال بالأمن، ومن كاين ولوروا.
لم يبلغ كامب الشرطة بتقرير لوروا المؤرخ في 22 شتنبر 1965، وأعلمهم أن المخابرات الفرنسية لا تقف وراء عملية الاختطاف.. وأثناء ذلك لم يذكر كامب ما يعرفه عن الجنرال أوفقير رغم توفر المعلومات لدى مصالح المخابرات من مشاركته في العملية، وكان الحديث في هذا الاجتماع مقتصرا على ما جاء في تقرير لوروا ليوم 22 شتنبر والفرقة الخاصة التي كلفت بملف بن بركة والكومندان الدليمي… ودار الحديث حول لومارشان صديق فيكون .
في هذا الزمن كان لوروا يملك معلومات هامة ، لكنه أخفى كل شيء عن علاقاته بالفريق المغربي ، خصوصا وأن هناك أخبارا تدوولت حول علاقة لوروا بالشتوكي (أو برئيس الكاب 1)، إذ تناول الرجلان طعام الغداء بمطعم يقع في شارعOberkamp، كما كشف الكولونيل أمام المحكمة أن مصالحه هيئت ملفا حول بيرنيي، الذي شارك في الإعداد للاختطاف ، من خلال «الفريق السينمائي».
يظهر من سياق الحديث أن التقرير الذي حمله بومون إلى الشرطة كان متجاوزا، بل إن الثغرة التي فتحتها مصالح الاستعلامات العامة في قضية بن بركة كانت سببا في فضح تواطؤ عدد من مصالح المخابرات الفرنسية. فتقرير بومون، كانت تنقصه عدد من المعطيات ، بالإضافة إلى أنه لم يشر إلى موضوع المكالمة التي جرت بين لوروا ولوبيز، يوم 31 أكتوبر . كما أن تقرير بومون لا يشير إلى لوبيز وحضور أوفقير والدليمي إلى باريس، والليلة التي أمضاها أوفقير في منزل لوبيز، ولم يتطرق أيضا إلى حركات الذهاب والإياب الليلية في منطقة أورموا. اعترف لوبيز بعد ذلك أمام المحكمة أن التقرير الذي حمله بومون إلى الشرطة لا قيمة له.
بهذه المعطيات الناقصة والموجزة جدا حلت بعثة S.D.E.C.E بمصالح الشرطة يوم 2 نوفمبر 1965 في الساعة الثالثة بعد الزوال، وكان الاجتماع في مكتب كودار ، مدير ديوان المدير العام للأمن الوطني. وصل لوروا متأخرا إلى الاجتماع، وكما فسر لكودار، تأخر عن الموعد، لأنه كان يقوم بعملية تمحيص لبعض المعلومات، والحقيقة أنه كان على موعد مع لوبيز في نفس الوقت. وبدل أن تدلي مصالح المخابرات بما لديها من معلومات حول عملية اختطاف بن بركة، كان همها أن تتوصل إلى ما تعرفه الشرطة عن القضية، وصرح كودار أنه أحس في هذا اللقاء بأنه يخضع لاستجواب، أكثر منه حوار حول القضية.
وعندما وصل لوروا إلى موعد الاجتماع في نهاية الجلسة لخص لزميليه كامب وكاين، ما دار بينه وبين لوبيز.
في الساعة الرابعة بعد الظهر، انتقلت هذه البعثة إلى مكتب ديوان والي الأمن، سامفاي، وأقسم كامب أمام مدير الديوان أنه لا يعرف شيئا عن القضية. صرح كاين أمام المحكمة، بأنه في هذا الاجتماع قال عميد الشرطة كاي لأعضاء بعثة المخابرات، وإذا أثبت لكم أن لوبيز شارك في عملية الاختطاف، فحاول لوروا التغطية على لوبيز بأن هذا الأخير صرح بكلمة الشرف أنه لم يشارك في العملية، وطلب من سامفاي أن يأخذ بعين الاعتبار قيمة لوبيز لدى مصالحه، وأنه إذا تبتت مشاركته في العملية فإن مصالح المخابرات لن تحميه.
ونخلص من وراء كل هذا أن لوروا لعب دورا مشبوها في عدم ربط المعطيات وإيصالها إلى كل المصالح ، وهو الشيء الذي سهل مأمورية جل المتورطين في عملية الاختطاف والاغتيال في مغادرة التراب الفرنسي بكل طمأنينة.
في الوقت الذي كان فيه الجميع مقتنعا بتعدد الأطراف في عملية الاختطاف والاغتيال، كان لوروا يفبرك التقارير الخاطئة، إذ صرح الجنرال جاكيي أمام المحكمة، ومنذ الجلسات الأولى، أن الجميع، ومنذ 2 نوفمبر، كان مقتنعا بمشاركة أوفقير والدليمي في عملية الاختطاف. وكما لاحظ الدفاع، فإن الجنرال جاكيي، لم يخبر الحكومة الفرنسية بهذا الاقتناع الذي وصل إليه الجميع يوم 2 نوفمبر 1965.
كان يوم 2 نوفمبر حاسما في تطور قضية اختطاف بن بركة، وأحس يومها لوروا بوقوعه في قفص القضية، كان يومها على موعد مع لوبيز بمقهىLe Bougnat ، في الساعة الثامنة ليلا، وهو المقهى الذي كان في ملك زوجة أحد مساعديه يدعى لونوار، وأحس لوبيز ولوروا بانغلاق الدائرة عليهما، كان لوروا تائها، ويردد :

Mon petit vieux
je saute, je saute

في نفس الزمن كانت مصالح الشرطة تبحث عن لوبيز، الذي «اختفى» عن الأنظار، وحين كان سامفاي يتحدث إلى لوروا ظهيرة ذلك اليوم (2/11/1965) كان يؤكد على لوروا بأن يتقدم لوبيز إلى مصالح الشرطة لتسليم نفسه، فأجاب لوروا بأنه سيفعل ذلك ، لكنه لم يذكر انه رآه قبيل ذلك اللقاء بقليل، وانه على موعد معه في المساء. وفي لقائهما بالمقهى مساء يوم 2 نوفمبر طلب لوروا من لوبيز تسليم نفسه إلى الشرطة ، ولكن في صباح الغد.
يوم 2 نوفمبر هاتف الشرطة المكلفة بالجنايات، كان عميد الشرطة، بوفيي، الذي عوض مارشان غائبا، فطلب كاي أن تترك له الرسالة التالية: « هل قادكم البحث إلى قرب أورموا؟». لكن كاي أسر إلى والي أمن باريس بابون بتفاصيل أكثر دقة في نفس اليوم، في الساعة الثالثة زوالا، وكانت بين الرجلين علاقة خاصة، ومن ضمن ما صرح به كاي في لقاءه مع بابون ، تورط لوبيز في العملية، واحتجاز بن بركة في إحدى الفيلات بضواحي باريس ،وأن الشرطة متورطة في الموضوع. وقد أخبر بابون حالا وزير الداخلية الفرنسي بما لديه من معلومات .
اعتقد محامو الطرف المدني بأن اتفاقا حصل بين كاي والمحامي لومارشان على ألا يشمل البحث فيكون، نظرا للمعطيات التي يعرفها حول الإعداد للاختطاف والاغتيال. خصصت مجلة نوفيل أوبسرفاتور ، في عدد 20 فبراير 1966، مقالا بقلم كلود أنجلي حول قضية بن بركة ، ذكر فيه أن روجي فري، وزير الداخلية، وصديق كاي و لومارشان، أكد في عديد من المرات، أن كاي زار لومارشان في نهاية صبيحة 2 نوفمبر، وأن فيكون كان أيضا حاضرا معهما ، وانه أسر بتفاصيل حول القضية. كان روجي فري يكيل المديح لنفسه، إذ ذكر، وفق كاتب المقال، بأن تحت إلحاحه اهتم صديقه كاي بالموضوع، وأن المعلومات المهمة الأولى جاءت عبر هذا اللقاء. وتسائل الصحفي، ألم يكافئ كاي، جورج فيكون بإبقائه طليق السراح، ولماذا لم يبحث الأمن، ولمدة شهرين، عن فيكون، وأن روجي فري، كان يتفاوض مع أوفقير والدليمي في اليوم الثالث من نوفمبر، عندما أرسل مساعديه أوبير وبوزي، إلى مأدبة العشاء الذي أقيمت في السفارة المغربية.
هذه المعطيات لم يكذبها في حينه المحامي لومارشان ، لكن أمام المحكمة تراجع عنها،علما أن في فبراير 1966 كانت تجري ظروف أخرى ، غير ظروف المحاكمة التي أودت بمصير عدد من المسؤولون في المخابرات والأمن الفرنسي ، وكادت أن تعصف بمسؤولين كبار في نفس الأجهزة ، دون استثناء مسؤولين سياسيين في وزارة الداخلية و ديوان الوزير الأول، بل حتى داخل قصر الإليزي. وهذا ما نبه إليه الدفاع حول الدور الذي لعبه لومارشان في تحويل مجرى البحث من أجل أهداف خاصة.
في نفس المقال أشار الصحفي إلى التداخل الحاصل بين أوساط الإجرام والمخابرات وأجهزة الأمن والمسؤولين السياسيين، فوزير الداخلية فري صديق للومارشان، وعلى علاقة مع عميد الشرطة كاي ، ولومارشان البرلماني والمحامي له علاقة حميمية مع لوبيز وفيكون . وعندما طرحت مسألة استقالة لومارشان من البرلمان دافع فري بقوة عن صديقه.
عاد المراقب العام بوفيي إلى مقر عمله، فاستلم ملف بن بركة من عميد الشرطة مارشان، الذي كان يقوم بالمهمة بالنيابة. لكن ولاية الأمن لم تسلمه كل المعطيات المرتبطة بالملف . في الساعة الثامنة مساء اتصل به كاي ، ليعطيه بعض المعلومات حول لوبيز ومساهمته في الاختطاف.

يوم 3 نوفمبر 1965

يوم 3 نوفمبر 1965 جاء الشرطي سوشون عند مدير الشرطة القضائية واعترف له بمساهمته في اختطاف بن بركة. وبعد ذلك سيأخذ لوبيز إلى مقر الشرطة. وهناك اعترف لوبيز بمشاركته في عملية اختطاف بن بركة، مصرحا بأن آخر من رأى بن بركة قد يكون الجنرال أوفقير.
في يوم الاثنين 3 نوفمبر، بعد الظهيرة، كانت الشرطة قد استوفت عناصر جريمة اختطاف بن بركة، تحت إشراف أوفقير، الذي كان في نفس الوقت يحضر حفلة كوكتيل على شرف إنهاء بعض العمال لتدريب في باريس. وكما لاحظ دفاع الطرف المدني، كان بإمكان المراقب بوفيي طلب استماع لأوفقير، لكن هذا المسؤول الأمني قرر إرجاء الاستماع من جديد للوبيز إلى الساعة الواحدة ليلا من ليلة 3/4 نوفمبر، والقيام بتفتيش في سكن لوبيز. ولم يصل طلب الاستنطاق إلى وزير الداخلية الفرنسي بشأن أوفقير ومن معه إلا في الساعة التاسعة وخمس وأربعين دقيقة، في حين حلقت الطائرة التي تقل أوفقير والدليمي في الساعة التاسعة وخمس وخمسين دقيقة. جرت الأمور، وكأن كل شيء مرتب لكي يغادر أوفقير فرنسا دون أدنى ملاحقة .
( استند رؤوف أوفقير في كتابه، الضيوف، الذي صدر في بداية 2003 ، إلى العلاقات المتميزة التي كانت تربط بين أوفقير وعدد من الأجهزة الفرنسية، خصوصا داخل جهاز الجيش الفرنسي والمخابرات).
تلقى لوروا في صباح يوم 3 نوفمبر أمرا من رئيسه بومون بالابتعاد عن التحقيق في قضية الاختطاف ، ومرة أخرى لاحظ محامو الدفاع ، أن مصالح S.D.E.C.E ، مهتمة بمصير مخبرها لوبيز أكثر من اهتمامها بالبحث عن بركة. و أثبتت الوقائع أم مصالح المخابرات تحركت في كل الاتجاهات لتضليل تحريات الشرطة الفرنسية، والسؤال الذي طرح في حينه : لماذا بذلت مصالح المخابرات كل هذا الجهد لتضليل وعرقلة البحث؟
في الوقت الذي اجتمعت معطيات عدة على مشاركة العناصر المغربية والفرنسية في عملية الاختطاف .أثارت هذه المعطيات دفاع الطرف المدني ، فتحدث المحامي ستيب أمام المحكمة قائلا :
« ليس من شأن شرطي أن يوجه اتهاما ،إن هذا دور قاضي التحقيق ، والحالة هذه أنه يوم 3 نوفمبر عين السيد زولنجر قاضيا للتحقيق . ابتداء من هذه اللحظة ، كان من حق السيد زولنجر وحده فقط ، التقرير في إقرار اتهام أم لا ، أو على الأقل الاستماع كشاهد إلى أوفقير والدليمي والعشعاشي ، والذين كانوا آنذاك في التراب الفرنسي(…) لماذا لم تعملوا أي شيء لمنعهم من مغادرة أورلي يوم 4 ( نوفمبر)…» .(Affaire Ben Barka. Témoignages et documents- U.S.F.P. France-1975)
كان رد والي أمن باريس موريس بابون ، أنه من غير الحكمة في هذا الوقت اتهام الجنرال أوفقير، الذي كان يعتبر صديق فرنسا ، وأحد الضباط العسكريين السابقين في الجيش الفرنسي، وأعلن ثقته في « صديق فرنسا» .( كانت تربط أوفقير بفري، وزير الداخلية الفرنسي صداقة متينة ، وربما استغلت هذه الورقة في توظيف لوبيز ولوروا وسوشون وفيكون ولومارشان وغيرهما في عملية الاختطاف، فلم يكن أحد يعتقد أن الأمور ستنكشف بهذه السرعة، وأن الغطاء على القضية سيكون كثيفا).
في الوقت الذي كان أوفقير يحضر حفلة كوكتيل يوم 3 نوفمبر، كتب بابون خلاصاته إلى وزير الداخلية، جاء فيها :
« Nous avons des informations qui tendent à mettre en cause le général Oufkir (…) Pour le moment ce sont des allégations sans preuves matérielles (…) Dans ces informations il y a des bavardages de Lopez» – Affaire Ben Barka. Témoignages et documents – P 45
بيد أن السياق الزمني للأحداث وكما ذكرنا أعلاه كان جميع المسؤولين الأمنيين على علم بتفاصيل حدث الاختطاف ، وأسماء المساهمين فيه، إضافة إلى اعترافات فيكون ولوبيز وسوشون، فلماذا كتب بابون إلى وزير الداخلية بأن الأمر لا يتعدى ثرثرة دون أدلة مادية. هل يرتبط الأمر بتغطية خاصة بوزارة الداخلية الفرنسية لرفع أي اتهام بالتقصير في القيام بواجبها، أم تغطية زمنية للسماح لأوفقير ومن معه بمغادرة التراب الفرنسي، أم هما معا؟ ومن غرائب الصدف ، أن مساعدي بابون حاولوا وبكل قوة أن يبينوا أن المعلومات التي جمعت من لدن الأجهزة الأمنية يوم 3 نوفمبر لم تكن جدية، إلا أن المحامي بريكويي، رد على ذلك، كيف أن نفس المعلومات التي توفرت لدى الأمن كانت غير جدية يوم 3 نوفمبر، في الوقت الذي كان فيه «المغاربة» موجودين فوق الترب الفرنسي، لتصبح بقدرة قادر يوم 4 نوفمبر جدية، أي في الوقت الذي غادر فيه «الفريق المغربي» فرنسا؟ والحالة هذه هل يملك القاضي الفرنسي معلومات جديدة من بابون الذي ما زال حيا بعد « تعصيره» كم كافة الأجهزة الأمنية والقضائية بخصوص تهجير يهود فرنسيين إبان الحرب العالمية الثانية، وليس لديه ما يخسره الآن إذا ما سأله القضاء الفرنسي حول عملية تجميد المعطيات الخاصة باختطاف بن بركة في بداية نوفمبر 1965.
كان وزير الداخلية الفرنسي قد اقتنع تماما بتورط أوفقير في عملية اختطاف بن بركة ، وهو ما أسر به إلى مدير الأمن الوطني، كريمو، وطلب منه، بما أنه سيحضر حفلة في مقر السفارة المغربية ، أن يتحدث مع أوفقير حول الموضوع، وأن يسجل ردود فعله. أثناء سهرة السفارة، وصلت أخبار إلى المغرب، عن العثور على جثة في إسون ، فبلغ سفير فرنسا في الرباط مخاوفه إلى باريس، وتحدث إلى جاك أوبير ، وفرانسوا دولابولاي ، الموجودين في السفارة المغربية، إبان حفلة المساء. وأثارت هذه المكالمات فضول أوفقير، الذي لم يتورع على نزع السماعة، وطلب من السفير الفرنسي الموجود على الخط، سبب مكالمته ومخاوفه.
لكن الموظفين الفرنسيين لاحظا مباشرة بعد ذلك ، رغبة وتسرع أوفقير في مغادرة فرنسا ، والغريب أن دولابولاي ، ساعد أحد موظفي السفارة المغربية على الاتصال بإدارة الخطوط الفرنسية لحجز وبسرعة مقاعد نحو المغرب، وهكذا سجل مكتب الحجز بخصوص هذه المقاعد، أنها حجزت بتوصية من الشؤون الخارجية.

يوم 4 نوفمبر 1965

في صباح يوم 4 نوفمبر 1965 غادر أوفقير والدليمي باريس باتجاه المغرب ، في حين توجه العشعاشي نحو جنيف، وتسائل محررو الكتيب ، الذي صدر بباريس سنة 1975 ، عن سبب توجه العشعاشي إلى جنيف .
(Affaire Ben Barka. Témoignages et documents – P46)
والتساؤل قد يرتبط بالحديث عن الوثائق التي كانت بحوزة بن بركة بجنيف ، والمتعلقة بمؤتمر القارات الثلاث ، وبمنظمة تضامن ، التي كانت تجمع عددا من المنظمات التحريرية والثورية في العالم.
ومع هذه العودة السريعة من طرف أوفقير ومن معه، فإن السلطات الفرنسية ورغم المعلومات المتوفرة لديها، ورغم اعتقال لوبيز وسوشون، فإن أفراد العصابة الفرنسية، باليس ولوني وديباي تمكنوا أيضا من مغادرة التراب الفرنسي بسهولة، علما أن سوشون غادر فرنسا منذ 1 نوفمبر، كان أفراد العصابة الفرنسية قد دخلوا منذ فترة في مفاوضات مع أوفقير، اتصل باليس بالماحي، في فيلا سعيد، بعدما تعذر عليه الاتصال بأوفقير، ليطلب هو ورفاقه لقاء مع وزير الداخلية المغربي، الذي رأى في الطلب مجازفة كبيرة. لكن الفرنسيين ألحوا على الحصول على المال للفرار نحو المغرب. فتلقوا من الدليمي مليون فرنك.
حينما نشر بوفيي إعلان البحث عن العناصر الفرنسية، يوم 4 نوفمبر 1965 ، في الساعة الواحدة زوالا، كانت هذه العناصر كلها قد غادرت فرنسا.
لم يبح الشرطيان سوشون و فواتو بكل ما يعرفان أمام مدير الشرطة القضائية، ماكس فيرني إلا يوم 3 نوفمبر، لكن في المساء ذاته، تلقى والي الأمن تعليمات، من لدن وزير الداخلية، بشأن إرجاء استنطاق الشرطيين، لأن هناك خطوات دبلوماسية ستتخذ إزاء الحكومة المغربية. ولم يخبر فيرني، المراقب العام بوفيي، بتوقفه عن استنطاق سوشون و فواتو.
ولم يعلم المراقب العام إلا مساء يوم 6 نوفمبر بأن الاستنطاق توقف بأمر حكومي. وكما لاحظ دفاع الطرف المدني، فإن توقف استنطاق الشرطيين له انعكاسات كبيرة على سير التحقيق. وسيظهر فيما بعد أنه إذا كان أمر بوشسيش قد حسم يوم 9نوفمبر، بالنسبة لقاضي التحقيق، فإن الأمر بالاعتقال الصادر في حق أوفقير والد ليمي، لم يصدر إلا يوم 20 يناير 1966، رغم أن دفاع الطرف المدني طاب بذلك منذ يوم 29 نوفمبر 1965.
برز أيضا البعد الحكومي في قضية بن بركة عندما طلب وزيرا الداخلية والوزير الأول للإدلاء بأقوالهما، فقرر مجلس الحكومة التستر بالمادة 564 من القانون الجنائي. ولم يستطع الطرف المدني توجيه أسئلته إلى ببومبيدو وفري إلا عبر الكتابة، بل إن الأسئلة الموجهة خضعت لمراقبة دقيقة من المحكمة. مست هذه الأسئلة جوهر قضية بن بركة في إطارها السياسي، والمساعدة التي كانت عناصر المخابرات المغربية تجدها فوق التراب الفرنسي، ومسؤولية بعض الشخصيات الفرنسية على ذلك. وكان أهم الأسئلة التي حذفت تلك المتعلقة بتقرير 22 شتنبر 1965، ودور بومبيدو وفري في عرقلة اتهام أوفقير ومن معه، إضافة إلى سؤال آخر حذف متعلق بالبعثة الدبلوماسية التي أرسلت إلى المغرب يوم 4 نوفمبر للتفاوض حول مصير بن بركة.
ولاحظ دفاع الطرف المدني أن أجوبة الوزيرين كانت تنحو نحو الهروب من الموضوع الحقيقي، وأن المسؤولين في الوزارة الأولى والداخلية لم يبلغوا الوزيرين بكل المعطيات في حيته . لكن دفاع الطرف المدني ذكر بأن وزير الداخلية كان يملك معلومات هامة وكافية لاتهام أوفقير والدليمي وآخرين ظهيرة 3 نوفمبر 1965. وعلى هامش هذه الملاحظة، صرح المحامي ستيب أمام المحكمة بما يلي :
«Si monsieur le ministre de l›intérieur n›avait pas(…) pris cette regrettable initiative qu›il a prise le 3 novembre au soir de n›inquiéter en aucune façon ,avant leur départ du territoire français ,Oufkir, Dlimi, Achachi et autres policiers marocains ?les assassins de M ben Barka seraient ici aujourd›hui , sur ces bancs.» (Affaire Ben Barka. Témoignages et documents – p 48)
في الندوة الصحفية التي أقامها دوكول رئيس الجمهورية الفرنسية، يوم 22 فبراير 1966، تحدث دوكول عن اختفاء بن بركة ولم يستعمل كلمة الاختطاف، أما والي أمن باريسن وهو بابون الذي تحدثنا عنه أعلاه، فقد خاطب زوجة المهدي بن بركة بالأرملة، أي أن الأوساط الفرنسية كانت متيقنة من اغتيال بن بركة، ولم يتردد رئيس الجمهورية الفرنسية في اتهام وزير الداخلية المغربي الجنرال أوفقير في الوقوف وراء عملية الاغتيال.
منذ تاريخ اختطاف بن بركة والروايات تتوالى حول مصير جثته، لكن أهم ما في هذا المسلسل أنها بدأت قصة فرنسية، من خلال أطوار التحقيق القضائي الفرنسي وأطوار محاكمة الجنايات بباريس (1966-1967)، وكانت هناك محاولة إنهاء لهذه القصة التي طالت جدا، وشكلت جرحا عميقا في التاريخ السياسي ببلادنا، يتعلق الأمر برواية أحمد البخاري حول عملية اغتيال بن بركة، والتي حولت الاهتمام والمسؤولية من الجانب الفرنسي نحو الجانب المغربي ، وكان يلح في عدد من الاستجوابات أن السلطات الفرنسية والأجهزة الأمنية لم تكن على علم بعملية الاختطاف، ولعل هذا يثير في حد ذاته أسئلة متعددة حول رواية البخاري، التي تزامنت مع الرفع الجزئي عن سرية الملف من لدن الحكومة الفرنسية في يناير 2000.


بتاريخ : 31/10/2018

أخبار مرتبطة

  جرى تدشين، يوم الثلاثاء 16 أبريل 2023، المجازر الجهوية الجديدة للرباط سلا الصخيرات تمارة. تأتي هذه المجازر الجهوية الجديدة في

  عاقبت لجنة الانضباط، التابعة للعصبة الاحترافية لكرة القدم، فريق الدفاع الحسني الجديدي بخوض أربع مباريات دون جماهير، على خلفية

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *