المعتزلون الجدد

إلى زمن قريب كانت المكاتب والمقاهي والأسواق تستنزف جميع أوقاتنا، ولم يكن الواحد منا يجد أقل فرصة لتأمل وجوده الهش أو النظر إلى جواره القريب حتى جاءت العمة كورونا لتضع حدا لهذا الانتهاب الزمني وتسن لنا أسلوبا في الحياة لا عهد لنا به..
كل ذلك فرض علينا إعادة ترتيب حياتنا اليومية من جديد.
نحن الآن معسكرون في بيوتنا بشكل غير طوعي تماما، ننظر إلى أشيائنا بعين الغريب، مكتباتنا ولوحاتنا وصورنا تبدو باهتة كأنما هي لأشخاص آخرين..نسهر إلى ساعة متأخرة من الليل ونستيقظ منهكين عند منتصف النهار على إيقاع كوجيطو جديد: لا أحد يجيء..لا أحد يغادر.
أسمع لأول مرة دقات الساعة وهديل الكوكوت وأتواصل بالواتساب مع أصدقاء لا أعرفهم، ولم يسبق لي أن رأيتهم رؤية العين، أشكو لهم من احتراق الطعام المتكرر ومن أعباء الأشغال المنزلية..
أحلام العزلة ملونة وطويلة وفادحة..نظهر فيها شبه عراة ننط في الأدغال مع قردة داروين ونمرح مع هنود ليفي ستراوس..ونشاهد أقرباءنا القدامى يجوبون الأسواق زمن الحماية ويقدمون التحية للجنرال ليوطي..
أطل من النافذة، فلا أرى سوى حارس العمارة يحمل بوطة الغاز لبيت جارنا في الطابق الرابع.. ورجل السانديك وقد فقدَ ظله يسير مثل عربة بدون عجلات..ينصحنا بوضع بعض الطعام عند الأبواب لإعالة قطط الإقامة السكنية التي بقيت بدون صاحب..
في ظل هذه العزلة الرقمية، أعود إلى عاداتي القديمة في جمع الطوابع البريدية وحل الكلمات المتقاطعة في جرائد بالية..أتريض قليلا في خيالي وأعود من غابة هيلتون مشيا على الأقدام في خيالي دائما..
أفهم من ذلك أن السيدة كورونا تساعدنا مشكورة على تجديد المشاعر والعواطف والخيال..وتعلمنا أن لا وقت للاكتئاب ونوبات الميناخوليا..وأن الوقت قد صار مترهلا والأشياء غائمة حولنا والذكريات بعيدة في مخيلتنا..
غير أنني فطنتُ في الآونة الأخيرة، وفي لحظة يقظة استثنائية ، إلى أن هذه العزلة العجيبة تنطوي على شيء مفارق: فبقدر ما نعيش لحظات الوحدة البيتية القاسية، تغمرنا وسائل التواصل بالأخبار و الأنباء من كل فج عميق، بالمعنى الحقيقي للكلمة: فالصين صارت على مرمى حجر..والشرق أقرب من حبل الوريد..وأوروبا وأمريكا تعيشان في عقر دارنا..إنها عزلة تواصلية فريدة من نوعها..
فكرت أن الفقهاء كانوا ينعزلون في قمم الجبال ليصيروا متصوفة ودعاة، ونحن الآن ننعزل في سفوح المدن مع الكمبيوترات لنصبح كائنات فضائية مترهلة وبدون بوصلة.
ولكن العزلة ليست شيئا سيئا في النهاية، قلتُ مع نفسي، ربما ساعدتنا على إنتاج بعض الاستيهامات والتداعيات التي ظلت راسية في مخيلتنا، وزهدتنا في مرافقة أصدقائنا الأوباش من ذوي الياقات والهواتف النقالة..
وأخيرا ولتزجية الوقت، اهتديتُ إلى التنقيب في بعض المعاجم لأتعرف أكثر على معنى العزلة فأشفت غليلي بهذه التعريفات الثمينة:
(العزلة هي أن تبقى بعيدا عن الزحام..العزلة هي المكوث في الغرفة وحيدا..العزلة هي العيش بعدد أقل من الأصدقاء..العزلة تساعد على تعلم فن الطبخ..العزلة كالملح للطعام تعطيه نكهة..العزلة مثل العطلة تجعلنا في سعادة دائمة..العزلة هي الجلوس وحيدا أمام البحر لمشاهدة طائر اللقلاق يعلم أطفاله فن الغوص..تكون العزلة لطيفة عند تناول المرطبات..إذا شعرت بالعزلة، اذهب وتناول بعض الطعام…)
وذلك بالتحديد ما سوف أفعله الآن.


الكاتب : حسن بحراوي

  

بتاريخ : 03/04/2020

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *