المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير يتحدث عن دعم المغرب لحركات التحرير الإفريقية لبلدان جنوب إفريقيا

تلتئم هذه المناظرة الإفريقية على أرض المملكة المغربية التي شكلت على امتداد التاريخ القديم والحديث معبرا وحلقة تواصل بين الشمال والجنوب ووجهة مفضلة لحركات التنقل والنزوح البشرية وملتقى الديانات والحضارات والثقافات العابرة للحدود. ذلك أن المغرب كما وصفه جلالة المغفور له الحسن الثاني هو بمثابة شجرة جذورها ممتدة في إفريقيا جنوب الصحراء وأغصانها مترامية في أوربا.
أجل، ظل الكيان المغربي الواقع بالشمال الغربي لإفريقيا حاضرا بقوة في المجال الجيوستراتيجي الإفريقي مجسدا عمق انتمائه للقارة السمراء التي شهدت سلسلة رحلات بشرية وقوافل تجارية لتبادل المواد الطبيعية والاقتصادية والبضائع والسلع في سياقات تاريخية تميزت بنظام التبادل العادل المتكافئ قبل ان تنقلب الموازين مع العهد الاستعماري وأطماعه التوسعية والهيمنة على القارة الإفريقية.
وبالرغم من أوضاع الاحتلال الأجنبي والتقسيم الجغرافي بين القوى الاستعمارية التي بسطت نفوذها على معظم البلدان الإفريقية، لم تنقطع الروابط بين المغاربة وأشقائهم الأفارقة بحكم العلاقات المتأصلة والمتجذرة التي حافظ عليها المقيمون أفرادا وعائلات الذين استقروا بالأرض الإفريقية غير مبالين بالحدود المصطنعة التي فرضها واقع الاستعمار في ظل التجزئة والتقسيم للكيانات الإفريقية خاصة بين شمالها وجنوبها ما بعد الصحراء او ما يسمى Afrique Subsaharienne . كثيرة هي أمثلة التقارب والتعاون البيني للمملكة المغربية مع حركات التحرر الوطني في المجتمعات الإفريقية سواء منها الناطقة بالفرنسية أو بالإنجليزية أو بالبرتغالية،حيث لم تكن العوامل اللغوية أو الثقافية أو الاجتماعية أو البيئية لتحول دون مد جسور التواصل والتفاعل بين أعضاء المجموعة الإفريقية.
الحضور الكريم،
ستفتح وستتناول المناظرة الإفريقية التي ستنطلق أشغالها اليوم ملفا من أهم وأبرز ملفات التضامن الإفريقي والعمل المشترك إبان فترة نضالات الحركات التحريرية، يتعلق الأمر بموضوع : دعم المغرب لحركات التحرر الوطني الإفريقية ببلدان جنوب إفريقيا والموزمبيق وأنجولا وغينيا بيساو والرأس الأخضر وساوطومي برينسيب. إنه موضوع مركزي يستأثر بالاهتمام ويستحث الباحثين المؤرخين والمفكرين السياسيين الأفارقة لفتح نقاش وحوار من أجل ترصيد قيم التضامن الإفريقي والتعاون البيني التي يزخر بها المشترك التاريخي والذاكرة التاريخية المشتركة والتي تقاسمتها شعوب إفريقية آمنت بوحدة المصير فانخرطت في وحدة النضال التحريري التي حمل رسالتها جيل القادة المجاهدين للعمل الوطني التحريري.
غداة عودة جلالة المغفور له محمد الخامس من المنفى في 16 نونبر 1955 والإعلان عن الاستقلال الوطني في 18 نونبر 1955، اتجهت الأنظار من البلدان الإفريقية الخاضعة للاحتلالات الأجنبية، واستشعر جلالته واجب التضامن والتآزر معها. وهكذا، دعا مبكرا لمؤتمر مجموعة الدار البيضاء الذي حضره الصف التقدمي من الزعماء الأفارقة الخمسة: رئيس جمهورية غينيا أحمد سيكوتوري ورئيس جمهورية غانا وقوامي نكرومة ورئيس جمهورية ساحل العاج وهوفويت بواني والرئيس المصري جمال عبد الناصر ومعهم رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس، وذلك في مستهل يناير 1961. وخلص القادة إلى إعلان الدار البيضاء الذي يعتبر الإطار المؤسس لمنظمة الوحدة الإفريقية وخارطة الطريق لدعم حركات التحرر الوطني للبلدان الإفريقية الواقعة تحت النفوذ الأجنبي.
وفي ذات السياق، استنهضت حركات التحرر الوطني من الميز العنصري ANC في جنوب إفريقيا بقيادة الزعيم نيلسون مانديلا وفي البلدان الإفريقية الخاضعة للاستعمار البرتغالي وهي أنجولا والموزمبيق وغينيا بيساو والرأس الأخضر وساو طومي بزعامة رواد وقادة مناضلين اضطلعوا بمهام نسج وتوطيد علاقات تعاون مع الدول الإفريقية المستقلة كإثيوبيا ومصر والمغرب وكذا مع حركات تحريرية مماثلة كجبهة التحرير الوطني الذي جعلت قاعدتها الخلفية بكل من المغرب وتونـس.
وشكلت المملكة المغربية الملاذ الآمن والحاضن لحركات التحرر الوطني التي اتخذت من العاصمة الربــــاط مقرها الذي وضعه جـــلالة المغفــــور له الحسن الثاني تحت تصرفها في إقامة وســط الرباط. وقــد خاطــب جلالته في حفــــل افتتاح المقــر المخصص للقـــادة الأفارقـــة وكما نقله عنــه المناضل الثـــوري دو سانتوس DO SANTOS بقوله : «إن المملكة المغربية لتسعد بتخصيص هذه الإقامة لحركاتكم التحريرية مجتمعة لتمكينكم من القيام بمسؤولياتكم ومهامكم بكل حرية للانتصار لقضاياكم المشروعة. وآمل أن تصبح هذه الإقامة عندما تحققون استقلالكم مقرا لسفارتكم».
في هذه الأجواء المفعمة بمشاعر الترحاب والتعاطف التي عبر عنها بالملموس المغرب ملكا وحكومة وشعبا، تقاطرت عليه في الستينيات من القرن الماضي أعداد كبرى من الشباب الأنجولي والجنوب إفريقي والموزمبيقي ومن غينيا بيساو والرأس الأخضر وساو طومي برنسيب طلبا للتكوين والتأطير والتدريب على استخدام الأسلحة وفتحت مراكز للتدريب العسكري على حرب العصابات منها مركز باب برد بضواحي تازة ومركز ببركان وغيرها. وهكذا، اكتسى التعاون والدعم المغربي عدة أوجه وصيغ جسدت الانفتاح الكبير والواسع للمملكة المغربية على التضامن الإفريقي في أرقى مظاهره تجلى في إحداث وزارة للشؤون الإفريقية تولاها الدكتور عبد الكريم الخطيب، أحد مؤسسي و قادة جيش التحرير في الشمال المغربي الذي شهد له بأدواره الوازنة والمرموقة الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا كما سنطلع على مضمون هذه الشهادة في عرض شريط وثائقي في هذه الجلسة الافتتاحية.
وتوطدت العلاقات عبر الإفريقية في هذه الحقبة التاريخية الزاخرة بأمجاد وروائع الكفاح المشترك ما أحوجنا إلى توثيقها وكتابتها ومن ثم ترصيدها إنصافا واعتبارا للذاكرة التاريخية المشتركة والمتقاسمة بين حركات التحرر الوطني في إفريقيا جنوب الصحراء وشمال إفريقيا التي انتصب فيها المغرب كدعامة صامدة وقوة ضاربة عجلت بتحرير البلدان الإفريقية الخاضعة للاستعمار البرتغالي.
وسوف يتولى الأشقاء الأفارقة المشاركون في هذه المناظرة الإفريقية غير المسبوقة والفريدة من نوعها تسليط الأضواء الكاشفة على حقبة تاريخية مفصلية في إنهاء الوجود الاستعماري والميز العنصري l’aparthaïd بإفريقيا وانبثاق قارة إفريقية جديدة حرة ومستقلة وموحدة.
ويقيني أن مبادرة تنظيم هذا اللقاء الفكري المفتوح تأتي في وقتها ولربما بعد طول انتظار وتطلع لتنزيل هذا الاستحضار التاريخي لتجربة تضامنية ونضالية مشتركة انتصرت فيها الحركات التحريرية لطموحات وتطلعات شعوبها للحرية والاستقلال والسيادة الوطنية والوحدة الترابية. وقد يكون من المهم والمفيد في هذا الاستحضار التاريخي استقراء التسلسل النضالي أكثر من الأحداث والوقائع وإبراز القيم الوطنية والنضالية المتقاسمة أكثر من المواقف الظرفية لتمثل وتملك الرصيد النضالي المشترك ومنظومة القيم والمثل العليا ومكارم الأخلاق التي حملها الجيل الأول – السلف الصالح – التي تعتبر مكونا أساسيا للرأسمال اللامادي لإفريقيا الأمس واليوم والغد. نحن أحوج ما نكون اليوم إلى تثمين هذا الرأسمال الروحي والمعنوي والقيمي الذي يقوي الهوية الإفريقية وينمي قدراتها الذاتية لمواجهة التحديات في عالم معولم يطمس الهويات الوطنية والقارية ولكسب رهانات التنمية الشاملة والمستدامة للشعوب الإفريقية.
بهذه الاستمرارية وهذا التكامل بين نضالات الماضي من أجل التحرير والانعتاق من التسلط الاستعماري والتحكم الخارجي ونضالات الحاضر والمستقبل في سبيل بناء وإعلاء صروح إفريقيا متقدمة اقتصاديا ومتضامنة اجتماعيا وبشريا، تتأسس علاقات التعاون والتكامل الاقتصادي وبوجه عام استراتيجية العمل المشترك لبناء اقتصادات بازغة ومتقدمة تؤمن مكانة القارة الإفريقية الناهضة في عالم اليوم والغد.
وقد أدرك الاتحاد الإفريقي هذه الحتمية فبلور توجهات وسياسات عامة وقطاعية لتوضيح الرؤى وتعزيز البرامج والمشاريع التنموية الاندماجية والتكتلات الاقتصادية الإقليمية.
والمغرب بقيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس وفي لمبادئه وقناعاته ومؤمن اليوم بمصير الوحدة الإفريقية التي هي صمام الأمان لشعوبها، كما آمن في الماضي بوحدة المصير كوجهين متلازمين في جدلية الوجود وسنة الحياة.
بهذه الروح وعلى هذا الأساس، تتواصل المبادرات والمساعي الملكية لتأكيد مهام وأدوار المغرب في المساهمة في بناء وتنمية إفريقيا اليوم وغدا كمجال استراتيجي بامتداداته التاريخية الجغرافية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والبشرية.
والمناظرة الإفريقية التي نعقد الأمل على إنجاحها كأحد مفاتيح هذا التوجه النابع من المشترك التاريخي الذي يعتبر رافعة لاستشراف آفاق العمل التنموي، ستكون مناسبة لتدارس محاور التأمل والتفكير في موضوعها وللاهتداء إلى توثيق وكتابة الذاكرة المشتركة المغربية الإفريقية على مراحل. وإذ شرعت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير في إعداد مواد علمية لإصدار من هذا النوع، فإنها عازمة على مناقشة هذا الورش الثقافي التاريخي مع الأشقاء ضيوف هذه المناظرة لبلورة مشروع إفريقي مشترك للاستثمار فيه في بناء افريقيا ناهضة وقوية وموحدة.

تص كلمة مصطفى الكثيري
في المناظرة الافريقية


بتاريخ : 13/03/2018

أخبار مرتبطة

82 % من المغربيات المتزوجات محرومات من الولوج إلى سوق الشغل 80 % من النساء غير الحاصلات على شهادة غير

تعيش بعض المجالس المنتخبة بالعاصمة تعثرات في التدبير ما يؤثر سلبا على مقومات التنمية بالعاصمة التي تعرف مشاريع ملكية كبرى

علمت الجريدة من مصادر مطلعة بان الوالي محمد اليعقوبي اشر على تشكيل لجنة لافتحاص عدد من الملفات بمجلس عمالة الرباط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *