الهايكو العربي.. بين غراب غوشيكو وخيل المتنبي

 

«هذه الطريق
لا أحد يمر بها
ما عدا الشفق»
n ماتسو باشو

لا يمكن التفكير في الهايكو، كممارسة وجدانية تفرج فيها الذات عن عواطفها في لحظة دقيقة يرى فيها الهايكيست العالم كله في حبة أرز أو في قطرة ندى، إلا في اتصال هذا الشعر/الكلام مع الدهشة ومع الطبيعة بفصولها الخمسة (الكيغو)، وأيضا مع أشياء لا حصر لها على نحو خفيف وطريف ومسل وممتع.
فليس الهايكو إلا لحظة إشراق مبتهج داخل متحف للصور المشوهة والمختلجة بشكل لا نهائي (العالم). وبتعبير أدق إنه القدرة الفنية على اقتناص الهدوء في ذروة الضوضاء، أو هو إلباس معنى آخر للأشياء الصِغْرية التي نراها، ونلمسها، ونحسها، دون أن ندرك جوهرها الكلي، حتى وإن كان معلمو الهايكو يصرون على الاكتفاء بالمعنى الظاهر المنزاح عن أي تأويل، ويبعدون عن هذا القول أي غاية فنية وجمالية. وهذا «ادعاء» مردود عليه، كما توضح نظريات القراءة. وما الارتكان إليه سوى ضرب من ضروب الممارسة الدينية التي تعزز الاتصال مع الطبيعة (أو مع الموجودات).
قد تكون التقنيات الفنية مفيدة في ارتكاب الهايكو، بمقاطعه وإيقاعاته الكلاسيكية (أو بدونها)، ومنها «الكيريجي» (كلمة القطع). وقد تفيد الإضاءة السحرية لما هو عادي، وحشده في لحظة أكثر كثافة وأكثر إشراقًا، لكن السؤال هو: هل حيازة التقنية وإدراك الإشراق يكفيان لكتابة الهايكو؟
إن الهايكو، كما يقدمه المعلمون الأوائل (باشو، بوشون، إيسا، شيكي، سانتوكا.. إلخ)، يعني الإشارة إلى صورة في الطبيعة، على نحو دقيق وخفي وكثيف، وبدون حيل أدبية (الاستعارات)، ولا أي نفس غنائي. إنه اقتناص الشامل في التفصيل، من دون الارتكاز إلى أي مساحة تجريد. وبهذا المعنى، فإن الهايكو، في العمق، غبطة الحواس ووميضها. فـ«لم يكن أمام الراهب البوذي، وللهروب من حياة المعبد القاتلة، سوى الفن الحيادي: الرسم الجاف لمظاهر الطبيعة بأقل ما يمكن من خطوط وحركات، أو التعبير عنها بأقل ما يمكن من الكلمات، أي بفن الهايكو» (كتاب الهايكو الياباني: ترجمة وتقديم: محمد عظيمة وكوتا كاريكا. ص: 25). إنه، تبعا لذلك، ليس إبهارا، بل ترويضا/ رياضة روحية للقبض على الذات في ما لا تنتبه إليه من أشياء الطبيعة. الهايكو ليس شيئا صغيرا ممتعا (أو ذكيا). كما أنه ليس صورة ذهنية، أو فكرة تومض في الرأس، كما يعتقد الكثيرون. هو «شيء جوهري لا يدرك حقيقته الغربيون»، كما يقول الشاعر الياباني الشهير ناتسوم سوسيكي الذي يعتبر الهايكو «استيلاء تلقائيا على مشهد غير قابل للتغيير».
تأسيسا على ذلك، بوسعنا أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن للهايكو أن يكون نصا غير بوذي؟
يذهب دانيال شارنوه، في مقال له حول «الهايكو والزن عند الراهب موهان»، إلى أن الهايكو ليس شعرا بالمعنى الغربي للكلمة، بل إنه تدوين قصير للحظة تنوير تمكن من حيازة الكون بأسره في راحة يد واحدة. وبتعبير رولان بارث، إنه تلك «اللدغة الأساسية» التي تشبه ضربة عصا معلم الزن على كتف مريده الذي تمكن منه النعاس، كما لو أن العالم يضرب على أكتافنا ليجذب انتباهنا قائلا: «استيقظ، عش هذه اللحظة بالكامل، لأن اللحظة وحدها هي مجالك !». إنه، في نهاية المطاف، وميض حقيقة تقع أمام أعيننا في لحظة خاطفة.
إنه لمن الواضح، إذن، أن الهايكو «شكل فني روحي يعكس الفلسفة البوذية» بتعبير باتريك جيلي، كما يستدعي طريقة خاصة للتعامل مع الكون، انطلاقا مما يسميه الفيلسوف الأمريكي آلان واتس في كتابه «طريق الزن» حالة من الفراغ العظيم أو النقاء الذهني التام. وهذا لن يتحقق إلا بالوصول إلى ذهن مستغرق في لحظته، عبر تجربة التأمل والعزلة والصمت والترحال التي تفضي إلى توحد صوفي مع الوجود، حيث يتحول كل شيء نحو الفراغ. ولذلك لا بد للهايكو من حساسية دينية تدعمه، ما دام يعني، كما يقول صلاح ستيته، «الارتباط الثابت الذي لا يتزعزع بترسيخ القدم، على الرغم من كل شيء، في تخفيفات اللحظة، خاصة إذا كانت هذه اللحظة استثناء؟». الاستثناء هنا هو أن اللحظة، في الهايكو، تعني «قلب الأبدية»، وليس أي شيء آخر.
إن الهايكو يعيدنا، في تجليه اللغوي، إلى اللحظة الشعرية اليابانية (الأبدية). بينما يقع الشعر الغربي، كما يقول ستيته، في مفترق الزمان والمكان، بعيدًا عن الرؤية الدورية التي تتمتع بها عقائد وفلسفات الشرق الأقصى. رؤية دورية تشرح، من بين أشياء أخرى، أهمية عودة الفصول واستحضارها من خلال وساطة «الكيغو»؛ الكلمة الرئيسية التي تضفي الشرعية على الهايكو من خلال تثبيته في المسار الهادئ للسنة».
ويضيف ستيته أن «الشعر الغربي، من جانبه، يخضع لكل تقلبات الزمان والمكان التي يستكشفها، من خلال استخدام جميع موارد الروح»، أي من خلال السلسلة الطويلة من المشاعر التي راكمها ، ومن خلال اعترافاته الغنائية المختلطة، ومن خلال أساطيره وأزمنته وذاكرته. إنه شعر لا يمكنه الاستغناء عن الذاكرة؛ وهذا قطعا ليس هو طموح الهايكو الذي يحافظ من خلاله معلمو الهايكو «على الوجوه اللانهائية للحياة».
وتبعا لذلك، يمكننا أن نتحدث عن نهجين وموقفين من العالم مختلفين. يقول الناقد الفرنسي: روجيه مونيي «الشعر الغربي يعني، بشكل أساس، الإشارة إلى تكامل أو تفكك الوعي الإنساني المملوء أو المشوَّه في علاقته بالعالم من حوله، بينما يعتبر الهايكو تجربة روحية، أي أنه في جوهره أكثر من مجرد قصيدة، حتى بالمعنى الأقوى الذي يمكن أن يعطى للكلمة.. بل إن الهايكو، كتابة وقراءة، تمرين روحي مشبع بالزن. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن ما يقترحه الهايكو المنجز هو تجربة تتحدد بها تجربة التنوير البوذية (ساتوري) إلى حد ما «. إنه، كما يقول الراهب الشهير سايجو، «حالة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الانفعال، أي عن انشطار الأنا الذي يقترحه الشعر الغربي. إنه بمعنى من المعاني، قول غير شخصي».
ولا يعني الهايكو، أيضا، «التقاط الكثافة». فالشعر الغربي محمّل على نطاق واسع بالصور والرموز، وأحيانًا بالمتناقضات، كما نجد عند شعراء مثل بودلير ، مالارمي ورامبو وكلوديل وسان جون بيرس وروني شار وإيف بونفوا، بل حتى عند الشعراء الأكثر تجريدًا مثل أندريه دو بوشي. ويسري ذلك على نوفاليس وريلكه وبول سيلان وتوماس إليوت، وأيضا أونغاريتي الذي يعتبر قارئا جيدا للهايكو، ويدرك كيفية «التقاط الكثافة»، وتلك الطريقة الغامضة في وضع السهم في قلب الأشياء النابضة بالحياة.
إن معلمي الهايكو الأوائل (باشو ، بوسون، إيسا ، شيكي، أونيتسورا، هاغي جو، شيراو، جوتشيكو، رانسيتسو، ميشيكيكو، ياسي، كيوروكو، إيشو.. وغيرهم) يتكئون على «الكلمة المنطوقة والمغلقة بقسوة على نفسها، وعلى أشكالها التخطيطية، من أجل إعادة تركيب لحظة خاطفة، وحقنها بألف انعكاس للوجود في العالم المباشر»، يقول ستيته. إنه مجرد قول يعكس استنارة احتجاز المعنى في صورة مباشرة ومركزة تضيئه باستمرار. هو الممر والضوء والوصول. هذا هو الهايكو، بعيدا عن بعض التنظيرات التي تجعله مرادفا لـ «الإيجاز» و»الكثافة» و»الإضمار» و»التثغير»، أي تلك التنظيرات التي تجعل هذا النوع من القول خاضعا لسلسلة من التأويلات والمشاعر والأفكار والتزمينات. كما تجعله رديفا للدقة التي تحافظ على الحجم الكلي للإيقاع، كما يوضح فيليب جاكوتيت في مقال له بعنوان: «الهايكو كأسطورة للشعر الخالص». وفي المجمل، فإن أغلب التنظيرات الغربية لهذا النوع من القول، مع استثناءات لامعة (إيف بونفوا)، تنظر إلى الهايكو من خلال مرجعية الجماليات الغربية، أي من خلال كليشيهات تنظيرية لا علاقة لها بالتجرية الروحية اللازمة لهذا القول.
لقد استفاد بونفوا من الإمكان الشعري الذي يتيحه الهايكو، ولكنّه عوض أن يمارس الاقتداء والاستنساخ، «اتجه إلى تسمية ما كتبه بـ «النص الشعري الجديد»، تاركا تسمية الهايكو وراء ظهره. ذلك أن «قدراته النقدية تؤهله بكل بساطة ليخالف مُرتكزاً جوهرياً في الهايكو الياباني الذي إذا تم سحبه من النص أو من اعتقاد كاتب النص، فإنّ هذا المنتج لا ينبغي أن نطلق عليه «هايكو»، حسب ما ذهب إليه محمد عضيمة في مقال له بعنوان «قصيدة الهايكو هامشاً: القُربان والمَعبد، إيف بونفوا». وبعبارة أخرى، إن الهايكو في شعرية بونفوا مجرد هامش، أو «منشط» أو «مهارة» مختلفة استعملها عن وعي لاختراق ميتافيزيقا الشعرية الغربية. إنه استبضاع يدرك الحدود والمزالق، ويتجاوزها خارج أي تماه مفترض مع المنجز الياباني (الهايكو).
وتبعا لذلك، يمكن أن ننظر إلى «الهايكو العربي» الذي «اجتاح» المشهد، وصار له رهبانه وأتباعه ومنظروه الذين يتعاملون معه كأنه «البعد الخامس»، متجاهلين، عن عمد (أو عن جهل)، أن الاقتراب من الهايكو يقتضي تقاطع الرؤية بينهم وبين الرهبان البوذيين الذين غادروا المعابد لمعانقة ذلك الإغواء الأبدي الذي تتمظهر من خلاله حقيقة جوهريّة لابد من الالتباس معها، ليس كذات، وليس كفكرة، وليس كاكتشاف، بل كاستنارة خاطفة لـ «لحظة أبدية». إنه ضرب من «الصلاة» (بونفوا)، بعيدا عن غطرسة المفاهيم، وحالة الهجاء الفكري الحاد التي تسددها الشعريات إلى بعضها البعض. وتأسيسا على ذلك، نطرح، بنزاهة فكرية تامة، جملة من الأسئلة:
هل يمكن أن نطلق تسمية «هايكو» على ما يكتبه الشعراء العرب، علما أن للأشكال الأدبية وضعا وجوديا تفرضه شروط التجربة الواقعية في شموليتها: شروط الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا والسنن اللّساني؟
هل شعراء «الهايكو» العرب، بعيدا عن كل تأصيل مجاني، مستوعبون جيدا للأصل الفلسفي والديني لهذا القول؟ هل ساحوا في الأرض وتاهوا في المرتفعات واتحدوا مع الفصول، لتحصل الاستنارة في أذهانهم؟
هل بلغوا بالهايكو أعالي لغويّة ومناطق تعبيرية ليس بوسع غيرهم سلكها؟ وبعبارة أخرى، هل غادروا التشبيه والمجاز وتجريد الملموس وتجسيد المجرد، واستطاعوا أن يفكوا اللغة العربية من قيودها الفقهية؟
هل يستوعبون، مثلا، أن «لحظة الاستنارة» ليست «لحظة جمالية» إذا نظر إليها في سياقها الأصلي، وأن النقد الغربي المثقل بمرجعياته هو الذي حوَّلها إلى تأمل جمالي في الوجود، كما فعلت الباحثة الفرنسية آن جورو، في مقال لها بعنوان «الهايكو والتأمل في الوجود»؟
هل رَصْفُ المقاطع على نحو معين وتقطيع الجمل والتقشف في اللّفظ، خارج التجربة الروحية وخارج الحدس، أشياء يمكنها أن تصنع الهايكو؟
هل النماذج العربية التي نقرؤها، خارج ضجيج «الكثرة الخادعة»، تترجم حالة اللافعل التي هي حالة من التأمل العالي والصفاء النهائي؟ وبعبارة أدق، هل اعتنق أصحابها البوذية التي تؤلف، بشكل أساسي، الحالة الذهنية للهايكو، وهل دخلوا المعابد وقدموا القرابين (أفكر هنا في بونفوا)؟
هل الترحاب الإعلامي وأنطولوجيات «الهايكو العربي» والاحتضان المؤسستي، دفاعات يمكنها أن تدحض حقيقة أن «ميتافيزيقيا العقل التوحيدي الغربي والعربي الحاضرة في تكوين وصلب أي نشاط فكري رسمي أو شعبي لهذه المجتمعات ليس لها تربة ولا منشأ ولا معايشة في المجتمع الياباني ، لا الواحد الديني ولا واحد « هيغل» ولا حتى محاولات دحضه من قبل «جيل دولوز» و»فراسوا ليوتار» و»فرانسوا لارويّل»…»، كما يقول باسم القاسم؟
هل الهايكو مجرد براعة لغوية فائقة، وذكاء شعري حاد، لاقتناص الوميض في «شذرة» تتضمن السخري والمفارق؟
هل الهايكو اقتراح جمالي؟ وإذا كان هذا الاقتراح جماليا، فما الذي تبقى من الهايكو فيه، علما بأن الهايكو يكتفي بأثره الظاهر، ولا يكثرت بالجماليات بمفهومها الظاهري والهيرمينوطيقي؟
إن ممارسة الهايكو تقتضي العودة إلى عمق روحانية باشو، واستيعابها، واعتناقها. فأن «تكتب الهايكو ليس معناه أن تخطّ الهايكو، بل معناه قبل ذلك أن تحيا الحياةَ هايكو، أن تتشرّب شروط الهايكو.. لا يكتب اليابانيون الهايكو، وإنّما يعيشونه.. هندسةُ منازلهم هايكو، وأطباقُ مطبخهم هايكو، وكلامهم هايكو، وصمتهم هايكو، وموسيقاهم هايكو، وجلسات شايهم هايكو… أن تكتب الهايكو يستلزم الأمر أكثر من ورقة وقلم وصور شعرية أو بلاغية.. يتطّلب أن تأكل هايكو وتشرب هايكو وتسكن هايكو وتتكلّم هايكو وتصمت هايكو، معناه باختصار أن تحيا هايكو»، كما يذهب إلى ذلك المترجم محمد أيت حنا في مقال له بعنوان «أن تعيش المفارقة.. أن تكتب هايكو».
إننا لا ننازع أحدا في أن يكتب ما يشاء (المبدأ هو الحرية)، وأن يسميه «هايكو» إذا عنَّ له ذلك، وأن يذود عن حوضه بسلاحه وذخيرته النقدية. لكن النزاهة الفكرية تقتضي إرجاع هذا القول إلى سياقاته الثقافية، دون الوقوع في أي نزعة سلفية مغلقة. فنحن ندرك أن تطورات عدة اخترقت «أسس الهايكو» كما وضعها «ماساوكا شيكي»، كما ندرك أن عمالقة الهايكو المعاصرين أنجزوا إضافات مهمة على مستوى الإيقاعات والمضامين. ومعنى هذا الكلام أن الهايكو يمكنه أن يتطور باستمرار، لكن ذلك لن يتم إلا من داخل التجربة الروحية واللغوية والإيقاعية التي احتضنته. وهذا ما انتبه إليه العديد من الدارسين الغربيين الذين يتكئ النقد العربي، عموما، على منجزهم. ومعنى ذلك أنه بإمكان الشعرية العربية، التي ينبغي أن تدرك نفسها قبل كل شيء، أن تستفيد من منجز الهايكو، وأن تسمح له باختراقها، دون أن تقتفيه، ودون أن تمارس «الركمجة» في بحوره.
إن الاشتباك مع منجز «الهايكو» حق مشروع، لكن في حدود الاستفادة من ممكناته، وليس التماهي المطلق معه، أو استنساخه، أو ادعاء امتلاكه كشعرية مغايرة في وثبة واحدة، حتى دون خوض التجربة الروحية التي تؤطره ثقافيا ومعرفيا.
والهايكو ليس مجرد تمرين في التأمّل، وشدّ لعضلات الذهن وإجبارها على تخيل الآنيّ العابر من شرفة منزل، أو سطيحة مقهى.. إنه نور خاطف يشقّ الظّلام، وعلى الهايكيست أن يتوفر على الجاهزية لتتحقق في نفسه الاستنارة.
لقد انتبه صاحبا «كتاب الهايكو الياباني» إلى أن «الهايكو، على صعيد اللغة العربية، يشكل إغراءا للكتابة فقط لأنه نص قصير ويوهم، من حيث الظاهر، أنه لا يحتاج الى أية براعة لغوية». كما أن كتابه يستظلون بكلمة لها من الحماية والدفاع الذاتيين ما يجعلهم يخوضون غماره باطمئنان وثقة.
ونبه المؤلفان إلى «أن الهايكو ليس امتيازا، بمعنى أنه ليس أفضل من غيره، فقط لأنه هايكو، ويعتمد الصيغة القصيرة. أي ليس لأنك تسمي قصيدتك القصيرة هايكو صارت تحفة أو أفضل من غيرها أو صارت هايكو فعلا . هو مجرد صيغة من الصيغ المتوفرة للتعبير عن.. وعن.. لاقت رواجا كبيرا في العالم لأسباب كثيرة، أهمها القدرة على التجاوب مع تقنية الإيجاز والسرعة التي فرضها التقدم التكنولوجي في لغة التراسل والتخاطب».
ومرة أخرى، نؤكد أن الهايكو لا يحتمل التلفيق، ولا يحتمل أي جرعة من جرعات «الشعريات الأخرى» الوافدة عليه. لا يحتمل المجاز، ولا يحتمل البيان والبديع، ولا يحتمل «فعولن مفاعيلن»، ولا يحتمل التاريخ، ولا يحتمل الخروج عن توزيعه الإيقاعي الخاص بالثقافة اليابانية، ولا يحتمل الذات، ولا يحتمل هذا «المأزق التبشيري الكبير» الذي يحاول بعض الشعراء، الذين نحبهم مع ذلك، إقحامنا فيه.
لسنا ضد «إعطاء حياة جديدة للشعرية العربية»، فقد سبقنا غيرنا إلى ذلك، وفي مقدمتهم رولان بارث في كتابه «إمبراطورية العلامات». كما لا نحاول لعب دور «السلفي» أو»الأصولي» الذي يغلق الأبواب؛ أقصى ما نحن بصدده هو رسم الحدود المتفق عليها حين نتناول هذا «الاجتياح الشعري» الذي نطلق عليه ظلما: الهايكو، وأن نتحدث عن الحوار الممكن بيننا وبين هذا القول، بعيدا عن الاقتداء والاقتفاء، وبعيدا عن الاحتفالية المجانية، وأقرب كثيرا أو قليلا من البحث عن كتابة جديدة، أو عن حياة جديدة للأدب، عبر تحطيم الحدود التقليدية بين الآداب والعمل على تلاقحها، كما قال رولان بارث في محاضراته عن «إعداد الرواية»، وليس التحمس لممارسة هذا الشكل «الشعري»، والتسليم بأنه وُلِد ليقطع الأرخبيل ويواصل اجتياحه للكوكب، كما كتب جان أنطونيني، نائب رئيس الجمعية الفرنكفونية للهايكو، في دراسة له بعنوان «صمت الهاكو» .
إن الهايكو ليس تنظيما شعريا لفقدان الكلام (الصمت)، كما قد يتبادر إلى الذهن ونحن نقرأ هذا العدد الكبير من «الومضات» أو «الشذرات»، وليس «تعبيرا بنفس واحد عن فكرة» (الهايكو لا يفكر)، بل هو أساسا إمكانٌ للاستبضاع، لا على أساس التماهي الكلي مع خصوصياته الفنية والفلسفية، بل على أساس تهجينه داخل نسق القصيدة العربية بكل امتداداتها التاريخية والمعرفية.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 08/11/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *