جدلية الكاتب / الناقد في مذكرات «سنوات الرمل» لحماد البدوي: الأبعاد والدلالات

تمهيد

لا غرو أن للمذكرات أهمية كبيرة؛ فقد تتحول إلى مصدر/مرجع ثَرٍّ بالمعلومات حول مجموعة من القضايا والمواضيع التي يتم ذِكْرُها، والتي يندر الحصول عليها ويصعب لاعتبارات معينة. وهذا ما نستشفه من مذكرات”سنوات الرمل” لحماد البدوي التي تحكي عن ركوب مناضل يساري معارض المغامرة طلبا للجوء بسبب مذكرة اعتقال صدرت في حقه، انتهت بمنفى قسري دام لسنوات عدة.
ولأن كلمة مذكرات “مرنة فضفاضة، طيعة عادة للدلالة على مجموعة من الانطباعات والأفكار وغيرها”، يطرح الكاتب في مذكراته -وبأسلوب سردي رصين- مجموعة من القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية والإنسانية والأدبية والنقدية، التي تجعلنا لوهلة أمام إشكال تصنيفي، نظرا للتشابه الكبير الحاصل بين المذكرات والسيرة الذاتية واليوميات، وأيضا أدب الرحلة. ونحن سنحاول أن نتناول القضايا الأدبية والنقدية التي تطرحها وأبعادها ودلالاتها.

1.شعرية وصف الأمكنة

قدم الكاتب انطلاقا من مذكراته بنية طبوغرافية للأمكنة التي ارتادها بصيغة تحمل الكثير من الأبعاد والدلالات؛ فلم يتردد في وصف الفضاء، ورصد تحركات الشخوص الموجودة فيه، بنوع من الرمزية. نذكر من ذلك وصفه للمركز الأمني الرابواني ورواده، والصحراء وغضبها وحرارتها المفرطة. الصحراء التي “دخلت في حالة جذب مخيفة، فبدأت عواصف الرياح المتواصلة تعبث بالرمال كما تشاء، تصنع منها سلاسل صغيرة من التلال المتحركة إلى أن هدأ عقلها وعادت الصحراء إلى رشدها.”
لقد شخصن الكاتب الطبيعة وأعطاها صفات إنسانية من أجل الإحالة إلى القسوة التي تبدو عليها. فالصحراء متمردة، ومزاجية في حالة غليان، يصعب العيش فيها. لذلك شبه مصيره وهو يلج فضاءها بمصير “عساف” في رواية النهايات لعبد الرحمن منيف يقول: “تذكرت مصير عساف في رواية النهايات لعبد الرحمن منيف(..) فأنا الآن في مملكة الرمل، وبدل أن أغطس في حوض ماء فقد أَلْقَى بي مارد الصحراء في وسط عاصفة رملية لأصبح واحدا من هذه الربوع.”
فتحولت الصحراء إلى فضاء مرفوض بالنسبة إليه وغير مرغوب فيها، فكما أن البيئة تلفظ الإنسان وتحتويه، فإن الإنسان طبقا لحاجاته ينتعش في بعض الأماكن ويذبل في بعضها”(). فنجد أن البدوي الإنسان أجبر على العيش فيها ضد حريته. يشير في هذا الصدد ” أجبرت على العيش في مملكة الرمل، في جغرافية النسيان، في قلعة مفتوحة ومنيعة في نفس الآن. لا أبواب لها ولا أسوار، مع أنه يتعذر الإفلات منها.”
غير أن قسوة المكان لم تمنعه من محاولة اكتشافه؛ فقد وصف بشكل دقيق مديرية الأمن العسكري أو مركز الشهيد سالم الربيع، ورواده وبناياته والأسرى الذين يوجدون بداخله ومهماتهم وبعض تحركاتهم، والغرفة التي تضم المكتبة التي أسهمت إلى حد كبير في تثقيفه وكان لها الأثر البالغ على شخصه. فظل بفضلها مرتبطا بالمطالعة والكتابة رغبة في تجاوز حالة الرتابة ” لم يكن يهمني ما أكتبه(..) المهم بالنسبة لي هو أن أخلق لنفسي رتابة ما في هذا الفراغ، لكي لا يضيع مني عقلي. فأنا كمن يلعب لعبة الورق لوحده، أو بالأحرى لعبة الضامة. إذ يجب على المرء أن يستأنس بروتين ما يساعده على قضم الوقت.”
1.سنوات الرمل: جدلية الكاتب / الناقد الأدبي

وظف الكاتب في مذكراته أسلوبا مشوقا تداخلت فيه مجموعة من الأجناس والأنواع الأدبية منها فن الرسالة؛ إذ ضمت رسائل عدة باعتبارها وسيلة من وسائل التواصل/ الاتصال التي ربطته بالعالم الخارجي. فقد أرسل رسائل واستقبل أخرى اختلفت مضامينها وتنوعت بين ما هو إيديولوجي وسياسي وفكري واقتصادي واجتماعي وإنساني، نذكر منها: (- رسالة إلى مدير المركز الأمني بتاريخ 22/12/1993 – رسالة من رفاق باريس 12 11/ 1995 – رسالة إلى جمال الكتاني بتاريخ 23 نونبر 1995 – رسالة إلى جمال الكتاني بتاريخ 4 أبريل 1994 بقيت بحوزة الكاتب – رسالة من رفيق إلى رفيق رسالة إلى جرير 1 – رسالة من رفيق إلى رفيق رسالة إلى جرير 2..).
احتوت المذكرات أيضا على أشعارا كشفت عن نفسية حماد البدوي وموقفه مما يقع له، حيث أبدى من خلالها صموده وعدم استسلامه أمام الوحشة والضياع والتيه الذي بدا عليه. يقول في هذا الصدد:
“ها أنذا عائد من نقطة التيه..
كان بصري قد لاذ فيها بأطياف الأجسام.
طريقي مغمور بالوحشة والضياع..
خطى اليوم سقطت فوق خطى الأمس. (…)
مسالك الوطن أغلقوها،
ومسالك غربة أخرى مغلقة،
ومسالك الحياة موصدة،
ومسالك الموت لن أفتحها.”
كما أومأ في قصيدة أخرى إلى تحديه ومواجهته للصعاب والألم داخل فضاء صحراوي قاس. يقول في مقطع:
“أيتها العافية، ما الذي أبعدك؟
من قصص جوانحك، فعطل قدومك..(..)
وحدي، واجهت القفار والغضب والألم ! ”
عبرت هذه المقاطع الشعرية عموما عن نفسية المناضل حماد، وبينت أناه وصبره التزاما منه بخطه النضالي ومبادئه التي يقتسمها مع رفاقه والتي لا يمكن المحيد عنها حسب ما عبر عنه.
ولم يكتف البدوي بما أبدع من خواطر وشعر، بل أدرج في إطار تناصي أبيات ومقاطع شعرية لشعراء آخرين، مثل ما هو عليه بالنسبة إلى أبيات الشاعر فايز حضور ص 118 ونزار بني المرجة ص ،119، وبنجامين مولويز ص 119، وبيتين شعريين للمتنبي مؤداهما:
عيدٌ بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عِيد بِما مَضَى أَمْ بِأمْرٍ فيكَ تَجْدِيدُ
أَمَّا الْأَحِبَّةُ فَالْبَيْدَاءُ دُونَهُمْ فَلَيْتَ دُونَكَ بَيْدَا دُونَهَا بِيدُ
كما ضمن في مذكراته قصيدة باللغة الفرنسية كان قد نسخها رفيقه الخمار الحديوي لكلود ليفي أهداها له، وإلى ثلة من الرفاق تسلمها في مطبوع كان عبارة عن تقرير أصدرته عائلات فرنسية راعية للمعتقلين القاعديين بسجن عين قادوس:
Vanités de vanités
..Liberté des libertés
لقد دون الكاتب حماد البدوي في مذكراته مجموعة من القضايا المتعلقة بالأدب شعرا كان أو نثرا، الأمر الذي سمح له بممارسة النقد والجدل بطريقة توضح شغفه بالأدب واطلاعه الواسع على عديد الأعمال الأدبية.
فشبه ما حل به في سنوات النفي القسري بما حل بشخصية عبد الودود في مسرحية “الحدود” إشارة منه إلى اهتمامه بالمسرح بأبعاده والوظائف التي يؤديها: “صرت أشبه مصيري بمصير شخصية عبد الودود في مسرحية الحدود لصاحبها دريد لحام. لقد بقيت عالقا، مثله، في مكان ما، لا أستطيع مغادرته.”
ووجه نقدا للمسرحي عبد الكريم برشيد، بعد أن استفزه وهو يستمع لبرنامج إذاعي يتداول في شؤون المسرح، يشير فيه برشيد إلى أن الاحتفالية تتعدى نطاق المسرح لتشمل الوجود والكون، ويميز بين المسرح الاحتفالي وبين الاحتفالية كفلسفة، وغير ذلك من الأمور. فشاغبه -حسب تعبيره- في ذلك ورقيا لحوالي صفحة ونصف..
لقد ألفينا البدوي يعطي موقفا من مجموعة من الأعمال الروائية، فأعجب برواية “زوج بغل” للطاهر وطار التي أورد بعض المقاطع منها في المذكرات. واعترف بعدم تحمسه سابقا لقراءة أعمال نجيب محفوظ لأسباب إيديولوجية وأخرى مرتبطة بما اعتبره أهم وأفيد، لكنه غير موقفه وقام بقراءة بعض أعماله، فخلص إلى أن ” كتابات نجيب محفوظ عظيمة وساحرة، وتكشف عن عبقرية خارقة لكاتبها. فهي متون ترشح بالأسئلة الفلسفية والوجودية..”.
زيادة على ذلك أبرز الكاتب شغفه بروايات الطيب أحمد صالح ورواية “يسوع ابن الإنسان” لجبران خليل جبران، و un slilence turbilent لأندري برانك، ورواية “نجل الفقير” لمولود فرعون، وأبرز موقفه من السيرة الذاتية “الأيام” لطه حسين، فاعتبر بأن الكاتب ينحاز إلى جانب الحكومة والقصر، لكنه بالمقابل أكد تميزه وتوفره على أشياء استحق من خلالها أن يسمى عميد الأدب العربي. كما أنه مارس نقدا لبعض الأعمال الشعرية منها إشارته إلى تيمة الالتزام في شعر أحمد الجماري، والتي خالف فيها موقف الناقد العياشي أبو الشتاء الذي أصر في برنامج إذاعي على أن دواوين الشاعر الثلاثة محكومة برؤية جنائزية وتراجيدية.

1.سنوات الرمل: التعايش سبيل الاستمرارية

تتحكم في علاقة الإنسان بالمكان مجموعة من الحيثيات التي تؤدي في آخر المطاف إلى تحديد نوع وطبيعة الأفعال والتصرفات تجاه المحيط الذي يعيش فيه، إذ “يفرض كل مكان سلوكا خاصا على الناس الذين يلجون إليه”.
والكاتب انطلاقا من المذكرات، يعتبر مبادئه وما يؤمن به خطا أحمر لا يمكن المساس به، يغنيه عن القيام بسلوك مخالف يمس بالكرامة الإنسانية.
لكن، هذا لا يعني أنه لم يتعايش مع الوضع، بل إن الظروف أملت عليه أن يتأقلم من أجل الاستمرار، فقد تناول خبزا به بقايا الدود بعدما كان حريصا على أن ينظفه في الأشهر الأولى لكونه ليس مثل الأسرى والبقية.
وقبل “الفَطْرَة” من صاحب الدكان بعد أن أبدى رفضه بداية لأسباب دينية، وهي عبارة عن قدر مالي لم يستفد منه بعد أن سرق من داخل غرفته كانت ستعفيه من ثمن شراء بطاريات للمذياع لمدة شهرين كاملين بل قبل ثوبا فضفاضا منه رغم أنه رفض بأن يكون محل شفقة. وحظي ببعض اللترات من الحليب التي قدمها له أحد المتعاونين في المستودع القريب من غرفته، والذي يضم سلعا مهربة ومخزنة. كما أنه طلب ملابس من مدير المركز بعد مرور عام حفظا لكرامته، وبعض المجلات والكتب كي يشبع فكره.

1.المذياع آلية للتواصل/ الاتصال

مارس الكاتب الجدل باعتباره هواية مفضلة من خلال مذكراته ويومياته، فلعب المذياع باعتباره آلية من آليات التواصل دورا كبيرا. المذياع الذي جعله مهووسا بمجموعة من البرامج المقدمة، ولصيقا بما يقع في بلده المغرب والجزائر وباقي أقطار العالم.
يقول عنه في هذا الصدد “مذياعي الصغير، أتعلق به أشد تعلق. فهو صديقي وجليسي ومصدر تثقيفي وإطرابي. يخفف عني وطأة الوحدة، وينقل العالم البعيد إلي. لذلك فهو لا يفارقني لحظة واحدة. أعبث طوال اليوم بمؤشره في بحث مستمر عن الإذاعات والبرامج.”
لقد سمح له المذياع بمعرفة نبأ اغتيال الرفيق محمد آيت الجيد بنعيسى، واعتقال آخرين منهم نور الدين جرير والخمار الخديوي. وبفضله كان على دراية بسفر الحسن الثاني إلى فرنسا وما رافقه من جدل، وعودة الفقيه البصري إلى المغرب والتعديلات الدستورية المقترحة وغيرها. كما أن عن طريقه سيبدي موقفا من مجموعة من القضايا السياسية والتاريخية والأدبية، ويدونها في مذكراته.

1. المذكرات سبيل التحدي والصمود

استعان الكاتب أثناء تدوينه لمذكراته باللغة العربية، لكن هذا لم يمنعه من أن يستعمل بعض ألفاظ وعبارات اللهجة الدارجة واللهجة الحسانية، وكذلك الحال بالنسبة إلى اللغة الفرنسية عندما أورد أورد قصيدة باللغة الفرنسية لصاحبها كلود ليفي وبعض العناوين والألفاظ كما هو مبين في الصفحات (98 211 -202 – 124).
يمكن القول إن الظروف كانت حافزا للكاتب كي يطور لغته، سواء تعلق الأمر باللغة العربية أو الحسانية أو الفرنسية أو الإسبانية. فقد أشار نفسه إلى أن مطالعة الشعر والروايات مكناه من تحسين لغته العربية، وكذلك أومأ إلى سعيه الدؤوب إلى تقوية اللغة الفرنسية لديه بعدما كان ضعيفا فيها فتفوق. والأمر نفسه بالنسبة إلى اللغة الإسبانية التي أكد أنه تشربها في فترة وجيزة لحاجته إليها بمركز اللاجئين.
لقد حرص الكاتب على القراءة والكتابة إلى جانب المشي والتأمل في الطبيعة والصحراء الممتدة التي لا رواء فيها، ولا خضرة ولا شجر فقط الشمس تلفح الوجوه. فسعى إلى إبراز عدم استسلامه وانهزامه رغم أنه داخل مكان تنعدم فيه أبسط شروط الحياة، وتئن معه الذات الإنسانية وتتشوه، فتغدو مكلومة لما حل بها ويحل. نذكر من تجليات ذلك تجنبه الخروج إلا خفية من أجل قضاء حاجته بفعل الثقوب التي بدت على ملابسه، فلازم غرفته. وقد عبر عن ذلك ببيتين شعريين لم يفسح عن قائلهما:
لَيْسَ لِي كسوة أخاف عليها من مغير، ولن ترى لي مالا
أجعل الساعد اليمين وسادي ثم أثني –إن انقلبت- الشمالا

خلاصة

لقد ظل الكاتب من خلال مذكراته يدق الخزان الذي كان بداخله بما أوتي له من إمكانيات (رسائل، مذياع، هاتف، ولقاءات مع مسؤولين شرحا لحالته ووضعه باعتباره معارضا سياسيا)، فنجح في الخروج من بوتقته عن طريق الكتابة التي هدأت نفسه وشذبتها، وطهرتها وجعلتها تنأى بنفسها عن الدخول في حالات الملل والضجر، إذ هناك ما يستدعي التوثيق والكتابة. كما نجح في الخروج من الخزان عن طريق إرادته وعزيمته وصموده عملا بمقولة ” لست مهزوما ما دمت تقاوم”.
المصادر والمراجع

-سنوات الرمل، حماد البدوي، الراصد الوطني للنشر والقراءة، مطبعة سليكي أخوين، 2014.
-جورج ماي، السيرة الذاتية، تر. محمد القاضي وعبد الله صولة، دار رؤية للنشر والتوزيع، 2007.
-لوتمان (يوري) : مقال مشكلة المكان الفني، تر: قاسم (سيزا) ، مجلة عيون المقالات، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ع8، 1987.
أستاذ باحث، حاصل على الدكتوراه في اللسانيات


الكاتب : د. جمال الفقير

  

بتاريخ : 17/10/2019