جولة انطباعية في «ليالي تماريت» للروائية أمينة الصيباري

 

تتكون رواية «ليالي تماريت» للمبدعة أمينة الصيباري من اثني عشر فصلا، لكل فصل عنوان وتصدير بأقوال /مقولات لفلاسفة وأدباء ومشاهير.وكل فصل يحيل مضمونه إلى العنوان وحكم
الأقوال/المقولات.
هذه الفصول يمهد لها مدخل فيه من متعة السرد ومتعة العمل الأدبي النثري ما يجعل القارئ يتعجل بلهفة العاشق للعمل الروائي، الوصول
إلى النهاية/النتيجة.
مشكاة القلق

يحيل المدخل إلى رصد واقع نفسي متأزم حائر يعاني من ألم وجودي يسبب الأرق….واقع ينكشف جليا من خلال هذا المقطع الجميل»أعيش نهارا متصلا» «مصابيح رأسي ترفض الإنطفاء.ليلي تزينه مشكاة القلق المشرقة…تنام قطتي ولا أنام…تنام المدينة المزعجة ولاأنام…ينام العالم وأنا انتظر…أنتظر النوم الذي يخلف ميعاده،ولا يأتي»…» أرق صامد، يفرض على الذات أن تفكر في تطبيع…»
العلاقة معه واستثماره من أجل «نسج تآلف مع الوحدة،من عقد مصالحة مع الفراغ.تعودت على معاقرة العدم، على خلق عوالم من الذات،وأحيانا من لا شىء. أرق صامد تستثمره الذات الساردة في قراءة الأوراق/المتلاشيات التي تلف فيها المكسرات على شكل مخروطات مختلفة الأحجام …
هكذا وبتوظيف أسلوب تشكيلي موسيقي، تنكشف العلاقة الوجودية بين الذات و»الشىء الثقافي» /المتلاشيات من خلال المقطع التالي:
«فتحت مخروط الأكاجو،أخذت أعد الحبات حبة، حبة، كمن يصنع عقدا من الخرز،….فتحت مخروط الزريعة.وضعت اللباب في آنية، وكذلك فعلت بمخروطي الحمص والفول السوداني واللوز.وضعت محتوى كل واحد في إناء. جمعت الأوراق ضممتها للكومة منها على المكتبة.هل تكفي الذخيرة للجزء الأصعب من الليل.؟»
أرق عنيد تستثمره الراوية للنبش في مخزون ذاكرة جسد سحبت منه الخسارات المتتالية روحه ، نبش ستكتبه « بحبر القهوة المرة.»

الواقعية في الرواية

تنتمي الرواية إلى صنف الرواية الواقعية بسردها لأحداث واقعية لأشخاص، تتميز هذه الواقعية : بكونها
– واقعية نقدية/ فلسفية تهدف إلى مساءلة نماذج إنسانية تعرضت لأزمات ،هذه المساءلة تهدف إلى التغيير وتمرير القيم الايجابية من خلال تقديم مجموعة من الآراء والمواقف على لسان شخصيات الرواية ونقل كيفية تأثيرها على حياة الإنسان اليومية..
– واقعية نفسية تركز على ما يخالج الشخصية(البطل/الخصم) من أحاسيس ومشاعر ودوافع إزاء مجريات الفضاء الخاص والعام.
– واقعية ذاتية حيث تعرض الساردة وجهة نظرها الذاتية من خلال موضوع/ أحداث فصول الرواية بطريقة مباشرة واتخاذ مواقف صارمة لا رجعة فيها. .
– واقعية حقيقية بصدق الأحداث التي تشعر القارئ بأنه عايشها هو أوغيره وتداولها العام والخاص ووسائل الاعلام.
أول ما يسائلنا في النص عتبته ،أي العنوان. في ص38 نقرأ بأن «تماريت» هي اسم القرية التي ولد فيها غارسيا لوركا.وتعني العاشقة باللغة الأمازيغية وقد كتب هذا الأخير «ديوان التماريت»متمثلا فيه التراث العربي الإسباني بإحالة على الثقافة الأمازيغية.
هذا الديوان تحتفظ به البطلة ضمن الوثائق اللازمة لقضاء سهرة الأرق، غير أن «ليالي تماريت» تحيل منطوقا ومفهوما إلى ليالي الأرق التي تعاني منها البطلة «غادة» ، حيث تشتغل ذاكرتها بدون انتظام استطرادي لتسترجع ماضيا «يجيد لعبة الانتظار والتخفي،لكنه زائر ملحاح… «.
من خلال شريط الماضي تنكشف قصة غادة، وهي قصة عشق وزواج بفريد العطار، أستاذ الجمال والبلاغة ومؤطر بحثها لنيل الاجازة.
عن هذا الزواج تحكي: «أدخل قفص الزوجية لأتحرر من المحيط….أربط اسمي باسم رجل، رأته كثير من النساء صيدا ثمينا…يصوبن نحوه سهامهن…قمة العبث أن نفكر في زنزانة طلبا للحرية.»…
قصة عشق عرف تعثرات تعبر عنها بقولها :»ثمة حظ تعثر في الطريق…التوت رجلاه…ولم يقو على الزحف…ثمة غباء عاطفي غذته القصص الرومانسية ،وختم بصمغ العطار».
سبب كل هذه التعثرات هو اختلاف في وجهة النظر حول الأمومة، إذ رفض العطار حمل غادة بمبرر كلمته الشهيرة «التاريخ لن يعيد نفسه معي…..لماذا تصرون على تفريخ التعاسة.بالله عليك أعطني شيئا واحدا يمكن أن يحفز الإنسان على الإنجاب…لا مدرسة…لا مستشفى…لا مقبرة….اعدلي عن فكرة مجنونة اسمها الخلفة. قليلا من الاحترام للإنسانية.» أما غادة فقد أصرت على الاحتفاظ بحملها ومبررها في ذلك أن «الطبيعة لا تشاور أحدا….أنا امرأة ومن حقي أن أكون أما….»
الاختلاف حول الأمومة تحول إلى خلاف قطعي أدى إلى الإجهاض والطلاق بالتراضي أي الابتعاد….تبرر غادة الابتعاد بمنطق قوي قائلة :»في اللحظات الفارقة علينا أن نبتعد. في اللحظات الجارحة علينا أن نبتعد….وإلا سوف ندخل مسلسل التدمير المتبادل….»ابتعاد خلف ألما وجوديا.»ولا يزال الألم غائرا في الروح.»
حاولت غادة أن تؤسس لعلاقة جديدة مع صديقها عماد الصالحي، غير أن النزيف عاد مع خبر تعرض العطار لحادثة سير …ذهبت لزيارته، سلمت عليه، ضغط على أناملها ،فكانت النهاية/ نهاية الرواية:Voix Offمع مقطع شعري /ذكرى.
جمالية الرواية تكمن في كونها تتيح للقارئ إعادة بنائها الدرامي وتتبع حبكتها/تسلسل أحداثها باتجاه الحل من خلال إعادة شريط الذكريات ومنتوج المتلاشيات النفسي.
تنطوي «ليالي تماريت» على تقنية ليست مألوفة في الكتابة الروائية وهي تقنية الاشتغال/الانطلاق من المتلاشيات/أوراق الزريعة، الكاوكاو، الحمص….فعندما يستبد الأرق بالبطلة، فإنها تسحب «من درج المكتب عشوائيا ورقة من أوراق الزريعة والكاوكاو كما تسحب أوراق اليانصيب…. على بركة الله إذن نقوم بسحب الليلة…»هذه الأوراق ترتبها بعناية ولا تسمح للمشغلة أن تمسها هي ولوازم السهرة المسائية.
قراءة المتلاشيات/ الأوراق ليست محايدة، إذ تتبدى من خلالها ذات البطلة وتسجل انفتاحا على «الكينونة المتكلمة»، وتكشف ما هو ثاو في أعماق الذات لتشخيص الحياة النفسية عبر المحكي النفسي والشعري والصدى والمونولج الداخلي….وبذلك يكون «التذويت» هو البارز في القراءة، إذ يتم التعامل مع مضامين المتلاشيات من خلال تصور الذات وكما تتقدم إلى الذات ومنه تلعب الذات دورا أساسيا في السرد الروائي. هكذا يكون مضمون ورقة اللوز في الفصل الأول حول البداوة مستنفرا لتساؤلات الذات حول البداوة ككلمة وكمفهوم، وحول علاقتها بالعمران والمدينة والتقاليد في استحضار رائع لطقوس الزواج بين التقليدي والحداثي.
يحيل مضمون ورقة درهمي الكاوكاو في الفصل الثاني إلى مقطع من طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي حول «الإشارة الخفية بمؤخرة العينين» ،هذا المقطع يحرك في الذات ذكريات بطلها فريد العطار،الزوج/الطليق ويستنفر حالة نفسية مستعصية التخلص منها. تقول البطلة»آه منك يا ابن حزم،هل كان ظهورك ضروريا في هذا التوقيت بالضبط؟ تحرك في نفسي كل هذا الوجع.»
ورقة الفصل الثالث عبارة عن مقتطفات في صورة حكم ونصائح ختمت بهذا البيت الشعري:
«إن العيون التي في طرفها حور
قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا».
وكاستجابة لحالة نفسية تعلق الذات قائلة «ياه!من يكون هذا الذي بعث لأمرأة لا يعرفها بكل هذا الكلام». اعتبرت الورقة رسالتي والليل ليلي. ورقة الزريعة في الفصل الخامس حول المقاهي في العالم أثارت تساؤل الذات حول مقاهي المغرب تحديدا ومقاهي الدار البيضاء، واستدعت حوارا مع النفس:» ماذا حصل ليصبح الناس على ما هم عليه الآن؟رجال ينخرون الكراسي بمؤخراتهم.ويلوثون الهواء بما ينفثون من سموم.يعصرون يوميا على براد شاي….قلة حيلة…فراغ…فراغ…فراغ…..»هذه الورقة ألهمت للذات موضوعا ميدانيا حول مقاهي الدار البيضاء ستنشره في مجلة المقام التي تشرف عليها صديقتها منى.
في الفصل الثامن تتوقف الذات عن كتابة الخربشات لتسحب ورقة من» الحزمة إياها».كان موضوعها صورة «ديانا/الليدي» وحديث عن قصتها. موضوع سيفتح الباب على مصراعيه أمام «الكينونة المتكلمة». و «يحرك جذع الذاكرة، فتتساقط الأحداث كفاكهة ناضجة…» كينونة متكلمة تتأمل جسدها أمام المرآة»هذا الجسد المنتهي الصلاحية الرافض أن يمنح نفسه للذة بعد العطار»(فريد العطار هو طليق البطلة غاذة). تتذكر البطلة في الفصل الثامن ما قرأته يوما في مخروط المكسرات حول «العنكبوت».
ذكرى عصيبة استرجعت فيها الذات حالة جميلة مضت مع الزوج انتهت بتراض حول الطلاق لأنه رفض أن تكون أما فأجهضها، كما استرجعت لحظة مفصلية قررت فيها القطيعة ودفن الماضي بكل تفاصيله وأشلائه ،غير أن هذا القرار يتزامن مع إخبارها من طرف صديقتها منى بحادثة سير وقعت لطليقها.وبين قرارها وترددها للذهاب لعيادته يتردد صدى بداخلها «ليت الذاكرة كانت بلاطا، كنت غسلتها بالماء القاطع، ومسحت منها ما ارتبط بهذا العطار الغامض…» ص 143
فضاء السرد الروائي

أثث فضاء السرد بلغة شعرية بعيدة عن التقريرية والإخبار، بارعة في نقل التجربة الوجودية الذاتية بسلاسة تجعل المتلقي ينخرط بعشق في تفاصيلها. أمينة الصيباري تقتنص بقلمها واقعا محبطا بلغة شاعرية. يمكن ملامسة سمات اللغة الشعرية في الرواية انطلاقا من:
* شعرية العنوان «ليالي تماريت»
باعتباره إطلالة على عالم الرواية وبنائها الفني الذي هو أقرب إلى السيرة الذاتية التي يعاد بناؤها من خلال شريط ذكريات تمتد في الماضي ويستمر وقعها المؤلم في الحاضر..
* شعرية المعمار الفني للرواية:
تتوزع الرواية على اثني عشر فصلا، لكل فصل عنوان ذو حمولة ذاتية/عاطفية (طوق الحمامة.مواعيد.طريق الورد.صوت من الماضي.سلطان الشعر….) تحت كل عنوان تندرج أقوال مشاهير ذات حمولة دلالية/ إيحائية/ رمزية تفتح على القراءة التأويلية. وبالرغم من انفصال العناوين فإنها تعكس مضمونا فكريا متماسكا.
– شعرية الغلاف الخارجي
تجلت في الدفة الأولى التي تحمل لوحة «فسيفسائية «للفنان الصديق الراشدي. أما الدفة الثانية فقد احتوت على فقرة وردت في متن النص الروائي(ص 62) انطوت على قرار اختياري وجودي يستبطن ألما سيضل غائرا في الروح.
– شعرية الإهداء :
احتل الإهداء موقعا متميزا وسط الصفحة صدر بالحرف» إلى»منفصلة عن المهدى إليهم وهم» من يثقون في قدرة الحرف على تغيير العالم».
يكشف العنوان أن المهدى إليهم فئة تحمل الهم الثقافي من أجل التغيير.وقد يكون على رأسها الصديقة «منى»محررة مجلة المقام ذات الخط الحداثي/الثوري الذى واكب نضالات الحركة النسائية قبل صدور مدونة الأسرة ومسيرة الرباط والدارالبيضاء سنة2000 والأحداث السياسية المفاجئة لسنة 2002.
في الصفحتين المواليتين لصفحة الإهداء نقرأ قولة لطاغور»الفن يماثل الحب في كونه غير قابل للتفسير». ومنه فالفن والحب يقتضيان الفهم وإضفاء المعنى….و نقرأ قولة للراوية «أكره الكمال،إنه يشبه الموت، حالة منتهية بإتقان….»ومنه فالكمال يعني الوصول إلى مرحلة التوقف /الثبات/الشلل….والراوية تعيش حالة حركة/هزات نفسية وجدانية
*شعرية الزمن والمكان
حيث سهرة الأرق لها لوازمها الخاصة (أوراق الزريعة…القهوة ،الموسيقى،ديوان تماريت،قصة لقيطةاسطنبول،شعر العطار…..). وتصل شعرية الزمن قمتها عندما يتعلق الأمر بزمن تيار الشعور حينما تشتغل الذاكرة لتحكي الزمن الماضي بإيحاء من ضغط الزمن الحاضر.
* شعرية السرد:
توسلت الراوية بأسلوب موجز،رفيع،نفاذ، قسم بحسب الصلات بين الكلمات إلى أساليب تشكيلية وموسيقية،وقسم بحسب التعبير عن التجربة الذاتية والرؤية الخاصة إلى جملة من التقنيات الفنية الروائية مثل أسلوب الاسترجاع والحوار بنوعيه الخارجي والداخلي وأسلوب التقطيع والرسائل/المواقف والصور الفنية البلاغية والمجازية و الوصفية تجلت في:
– وصف الأشياء(وصف المدينة.المقهى.لوحات الفنان أحمد الشرقاوي.صورة ديانا.خربشاتها على قميص عرسها….)
– وصف الأشخاص(فريد العطار»جبل عناد متنقل»…علي الريسوني «كاميكازالفصل»، منى»عبقرية في تجديد القواميس»،»الحارس الليلي وكلبه» مكلف بحراسة قطعان السيارات.
– وصف الأحاسيس والحالات الداخلية والمواقف»قريحتي يابسة كرخام عتيق.لا معنى ينفذ إلى مجاري الرأس.الحروف قاحلة كفلوات هجرتها الغزلان…نقط…نقط…نقط….كأنها عساكر تحرس بياضا آثما…»
– وصف ينطوي على السخرية (وصف رواد المقاهي الذين يعصرون يوميا على براد شاي…وصف أصحاب البواسير الدماغية الذين يكرهون الجمال..
*شعرية اللغة العامية:
استعملت الراوية اللهجات الدارجة في ثنايا السرد لتعميق الصوت والصورة وليعيش القارئ في عمق واقعية الحدث والصدق الفني،تجلى ذلك في سردها الثانوي في الفصل الرابع المعنون ب»الحور العين»، حيث تحكي قصة «مي إيزة» وعائلتها وأسرتها وفاجعتها في ولدها المغرر به . وقد تفوقت الراوية في اختيار الحوار المناسب للوضع الاجتماعي /التربوي لأطراف الحوار(حوار مي ايزة مع زوجها….حوار الابن» المظفر»مع الجماعة.
صفوة القول، استمتعت كثيرا بقراءة الرواية ليس من باب النقد لأنني لست ناقدة ، ولكن من باب عشقي للقراءة الشيء الذي يفسر عنوان «جولة انطباعية في ليالي تماريت»، ويدعم تاملي لجمالية الرواية وعتبات بنائها الفني(العنوان،الإهداء، الفصول وتصديرها، الأسلوب المعتمد في السرد.تنشيط الذاكرة…..).هذا التأمل يطوي طيا إعجابي بالراوية على مستوى انتصارها للحق في اختيار الحياة وفق مقولة «كرامة الإنسان تستحق جدارة الاحترام» .


الكاتب : ذة. فاطمة الفوراتي

  

بتاريخ : 16/08/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *