حلم رجل منبوذ

طالما تحاشى حمدان النظر الى الزاهدين في المقاهي الشعبية، لأنه يكون في مرمى الاضواء، فالانظار تحيط به من كل الجوانب، وهو لم يرد إلا أن يعيش ذاته التي أرقته في محاولات مستميتة أو تهيؤات الحصول أو القبض على مكانة يحلم بها منذ صغره.

فهو لا يدري أنه ذلك الكذاب الذي تحاصره الاضواء، أينما حل وارتحل، فلماذا يحاول إذن الهرب من واقعه البئيس؟
صمته لن يعيق فضول زبناء المقهى المتطاولين على حديثه المقطر، وسكوته أحيانا لن يمنع عيونهم الفضولية من اختراق أنسجته وخلاياه.
ومع كل حركة أو تحرك لن يستطيع الانفلات من كراهية المعاشرين له.
أحيانا تسأله إحدى المومسات التي ينفق عليها بسخاء عن ذنبه كيف له أن يكون بكل هذا التميز في الكذب أسكر بالسحر؟ مهنته المزيفة يحتل بها عشرات الشاشات التلفزيونية وصفحات الجرائد وأحاديث الزبناء في المقاهي، حيث يصبغ الهواء بغبار أسود يستشفه كرها كشظايا تمزق رئتيه.
كيف لهؤلاء الناس أن يصدموا رجلا لا يفرق بين قلبه وعقله، يقطع على مشاعره كل السبل، كل لا تصل الى أحد، وتفضحه عيناه النائمتان دائما اللتان تسجلان كل حركات وسكنات المومسات اللواتي يقتحمن فضاء المقاهي، وكأنه يسبر ملامح أغوارهن كل الكوابيس التي اعتادها خاصمته تاركة له أصوات الزبناء في المقاهي والحانات الافكار المتصاعدة من عقله ترتطم دائما بالاستهزاء والتهكم، التي يتعالى صريرها داخل أذنيه كمجموعة من الصفائح الفارغة تعبث بها الرياح فيصفع بعضها البعض القوة تزيد اتساع قطري حدقتي عينيه الصغيرتين، وإن كان توتر أعصابه يدفعه طوال اليوم الى البحث عن صديقه الجيلالي لزعر الذي يحثه على اقتناء أضحية العيد لإحدى القوادات.
هذا هو حمدان الذي اعتاد أن يقلص حلمه الكبير في امتلاك سيارة أو ضيعة أو معمل. واقعه كشخص منبوذ من أسرته ومجتمعه يدفعه الى التحليق في عالم الكذب والافتراء. فمنذ أن كان صبيا يراقب الطائرات الورقية في السماء تزهو بأذيالها الملونة تناطح السحاب، يتابعها من بين أسلاك الكهرباء وحبال الغسيل وأشياء اخرى تزاحم سماء حارته الشعبية الضيقة.
لحد الآن لا أحد من أصدقائه المقربين يعرف اسمه الحقيقي، فهم لا يصدقون أن اسمه حمدان أو يعرفون محل سكناه وهل هو حاصل على بطاقة التعريف أم لا؟ إذن لماذا يظل يراقب الفتيات فوق المقاعد؟
لماذا يشيح ببصره عن الرجال؟ المشهد المفتوح يزيده انقباضا ينتهي به الأمر أحيانا وحيدا أمام شرفة تطل على معالم مدينة فاس التاريخية.
حمدان يترك الأمر برمته، لافظا كل المرارة داخل حلقه، متحررا من صراع الافكار والشعور بالعجز والضآلة، فهل لأنه شاب أعزب بلا مسؤولية ضخمة، متخم بالاسئلة الوجودية؟ أو أنه يتخيل نفسه داخل خريطة الاغنياء. أما وأن صارت الآن الخريطة ضباتيه فإنه يخشى كل الخشية أن يعيش الخذلان، فكل انكساراته ناتجة عن إحساسه بتقمص الشخص المرموق صاحب الورشات أو المدير المسؤول عن إحدى الشركات.
يقضي كل أيامه بين صراع الخروج من البيت وصراع العودة إليه، وما بينهما حتى يدركه الإنهاك قبل أن يفك طلاسم الاضداد التي تحيط به.
دائما يمارس الحلم جهرا في المقاهي وفي الشوارع لم يعد لديه سعة للنقاش لذلك يجد نفسه عند بوابة البداية فيطرق رأسه ويجهش بالبكاء عندما يتلقى صفعات أصدقائه.
يتذكر أخته العانس في تلك الآونة وهي مكومة في إحدى زوايا منزله تنظر إليه وهو يسحب من تحت وسادة ابن خاله ما بداخلها من عملة صعبة، وغضون وجهه الكالح تشرق بالسعادة الفائضة.
لم يعد في ذلك النهار الى المنزل، انتظرته أمه وقت الفطور فلم يعد، انتظرته وقت الغذاء والعشاء فلم يحضر لأول مرة حلق حمدان ذقنه عند الحلاق ودخل بعد ذلك مطعما راقيا ثم ذهب الى إحد حمامات السونا.
في اليوم الموالي التقى شخصا يدعى«عبدو» الذي رافقه الى الحانة لاحتساء كؤوس الجعة وقضاء الليل داخل مقهى الشيشة. يبقى على هذا الحال حتى ينفد المال الذي كان بحوزته، ينفض عنه الجميع ويصبح موضوع النكت اللاذعة من قبل أصدقائه فيختفي عن الأنظار ما يزيد عن شهر ليجد نفسه مرة أخرى منبوذا كما بدأ أول مرة، حيث لايزال القمر في السماء أحمر خجولا، بينما وجه حمدان لايزال على حاله.


الكاتب : خليل التجاني الصنهاجي

  

بتاريخ : 11/01/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *