خمس طلقات في وداع بنداود

– 1 –
كان قد ولد أواخر الخمسينات في أعالي هضاب تازة وبها ترعرع، وقاد وهو صبي تيوس القبيلة إلى الحقول واصطادَ العصافير قرب الغدير وطارد أسراب الفراشات وشوى الذرة عند حافة البئر..ثم نزل مع النازلين عند يفاعته إلى ظهر المهراز ليدرس الفلسفة حتى يبقى قريبا من موقد الفكر ويتمرّن على سرقة النار من محراب الآلهة..وأثناء ذلك تولّع بالنضال الطلابي وبرع في كتابة اللافتات وصوغ الشعارات ورفع اليد احتجاجا..ثم أدركته صنعة الأدب الذي جاءه متشظيا حارقا وناقص البهجة لا يؤمن بغير الانتفاض والانتصار لفلول الجائعين..ثم كانت الصحافة سبيله إلى التكلم باسم خشاش الأرض من أبناء وبنات جلدتنا والاصطفاف إلى جانب المخذولين الذين نسيهم التاريخ وتنكّرت لهم النواميس..ظل صوتا مدوّيا لمن لا صوت لهم..ورضي أن يكون عبارتهم المعلقة على أطراف المجرّات.

– 2 –
قبل حوالي السنة احتفل عبد الحميد بعيد ميلاده الستين الذي تزامن مع حصوله على المعاش وفراغه من الكدح اليومي في مهنة المتاعب، دعا إلى جلسة حميمية جماعة من أصدقائه وصديقاته وقّدم لهم مشروبات باردة وأطعمة خفيفة صنعها بنفسه، وأطلق بخورا لطيفا ليعتدل الجو داخل شقته بالطابق الرابع..كان يبدو أنيقا كعادته دائما ولكن هذه المرة بقدر زائد قليلا من المرح حتى سأله أحدنا:
-هل يفرح الواحد حقا إذا بلغ الستين من العمر؟
-ليس العمر سوى فكرة يا عزيزي..قد يشعر الإنسان بالكهولة وهو في العشرين وبالشيخوخة في الأربعين..إنما هي تسميات سمّيتموها.أجاب بحكمة ساخرة.
انشغل الجميع بالأكل والشرب والدردشة وظل هو واقفا كمُضيف حقيقي.. يلبّي الطلبات ويستجيب للملتمسات..يُحدّث عمن رسم هذه اللوحة أو صنع تلك المنحوتة..يفتح الباب لطارق متأخر، ويزيد أو ينقص من صوت الموسيقى..
كان معارفه قليلون وأصدقاؤه أقل..ربما لأن المسافة كانت قصيرة بين المكتب والمقهى..أو لأن أفيون الكتابة استنزفه ولم يترك لديه متسعا للأغراب والعابرين..
بعد ثلاثة أو أربعة أشهر شعر دون توقع منه ببعض التعب الذي استهان به كعادته عندما ظن أنه عابر..حمى قليلة وسعال خفيف..نقصان في شهية الأكل ورغبة متزايدة في الاستلقاء والنوم..كان رأي الأطباء أن يلازم البيت ويواظب على الدواء والتغذية الجيدة..(سيكون المرض سحابة صيف) قالوا..ولكن كذب الأطباء كعادتهم على بنداود ولو صدقوا.

– 3 –
مع بداية شهر رمضان الأخير سينهار وضعه الصحي بصورة مفاجئة وينصحونه بالانتقال للإقامة في المستشفى ليكون قريبا من مصادر التشخيص والعلاج، وهناك سيتعلق بنداود من جديد بأمل أن يستعيد شيئا من عافيته المفتقدة وخاصة طمعا أن يخفّفوا عليه بعض تلك الآلام المبرّحة التي قيل له بأن سببها هو الماء الذي صار يملأ رئتيه..
وسوف يتولى الأطباء إعادة التحليلات وتدقيقها ليتوصّلوا إلى معرفة ما استجد من أحوال المريض الذي علموا من ملفّه أنه ظل يعاني من داء في الرئتين..لكن بنداود كان على حق عندما لم يطق الإقامة في المستشفى العمومي الذي بدا للعيان أنه يفتقد لكل أسباب الراحة التي يحتاج إليها المريض: (سرير معطوب تثقب أسلاكه ظهره وساقيه بشكل لا يُحتمل..عدم وجود حمام للاغتسال والنتيجة بقاء المريض دون نظافة لعدة أسابيع، ولكم أن تتصوروا حالة راحلنا الذي ألف الاستحمام مرة أو أكثر في اليوم الواحد..عدم الانتظام في تلقّي العلاج الذي كان عبارة عن حقنة يومية من المضادات الحيوية لأن مناخ الخمول في رمضان كان يؤثر على عمل الطاقم الطبي..إلخ) ونحن طبعا لا نقول هذا شماتة في وزارة الصحة وهي تستقبل كاتبا وصحفيا شاءت الظروف اللعينة أن يقع بين يديها حتى فارق الحياة، أو نكاية في زملائه ممن لم يتجشموا التدخل الفعال لتحسين وضعه العلاجي بمزيد الرعاية والعناية التي يستحقها هو الذي بدّد دون منّة زهرة شبابه في خدمة مهنة المتاعب..

– 4 –
خلال هذه الفترة العصيبة التي جاوزت الشهر ستكون كلمته المأثورة: (لن أكمّل معكم رمضان) دليلا داميا على أنه قد زهد في رفقتنا وصار الآن يفضل أن يرحل غير نادم على عالمنا الموبوء الذي لم يذق فيه غير المرّ ولم يعش فيه سوى الأسوأ..سيترك شقته وكتبه ويتنازل عن لوحاته وطيف صديقته التي طالما ذرفت الدموع من أجل إثنائه عن رغبته:
قالت له وقد أحزنها يأسه وأدمى قلبها تشاؤمه:
-اشفَ يا عبد الحميد..اشف ولو من أجلي..
ابتسم بصعوبة وألم يفضح معاناته الداخلية:
-فليكن يا شهرزاد..سوف أشفى من أجلك فقط هذه المرة..
غير أنه فعلها في غفلة من الجميع ولم يف بوعده الذي قطعه على رفيقته ذات الجفون الدامعة..أغمض عينيه في الصباح الموالي قبل أن يصل موعد زيارتها اليومية وراح في سبات طويل لن يفارقه حتى أسلمه لقبره.
– 5 –
أذكر أننا كنا..وهو ما يزال قيد الوجود..ننشد أبيات الشاعر السوري محمد الماغوط وهو يرثي زميله (في الحرمان والتسكع) بدر شاكر السياب قائلا:
(تشبّث بموتك أيها المغفّل
وعضّ عليه بالنواجذ
فما الذي تريد أن تراه؟
كتبك تباع على الأرصفة وعكازك أصبح بيد الوطن.
قبرك البطيء كسلحفاة لن يبلغ الجنة أبدا
الجنة للعدائين وراكبي الدراجات)
وأتخيله الآن يضحك ضحكته المدوية وهو يقول معلّقا:
-ومَن يدريك أن قبري أنا سيكون سريعا مثل عويطة ويصل إلى أبواب الجنة عن بكرة أبيه حتى قبل حلول الحجاج والأئمة..
شكرا باسمك أيها العزيز لكتيبة الأمل التي رافقت نبضاتك الأخيرة وكانت قريبة من آلامك.


الكاتب : حسن بحراوي

  

بتاريخ : 14/06/2019