رفض العفو ثلاث مرات ، قيد يديه وبنى زنزانة في سطح بيته حتى تظهر براءته : محمد بنتزوط .. قصة ملاكم سجن 22 سنة بتهمة قاضية

“للي دخلوني للحبس كنحلم بهم كل ليل… ..قتلوني… ..انحبست الكلمات في حلقه…،خفض عينيه الى الأسفل حتى لا يلاحظ أحد انكساره وردد بصوت جريح متقطع، ما يحس بالظلم إلا لي مجربو”
هكذااختلست من جلبة الضجيج حولي لحظة بوح بالانكسار الذي يحسه شاب سرق منه شبابه، ليتحول فجأة الى أسير مقيد لمدة 22 سنة ، رفض خلالها أن يستسلم لليأس من إعلان براءته رغم طول هذه المدة، حتى أنه رفض 3 مرات العفو الملكي الذي يمنح له… ولم يقبل في المرة الرابعة الا عندما عجز عن مقاومة دموع أبوين عجوزين ترجيا رؤيته بينهم قبل موتهما.
لكن سلطة الرفض والإحساس الغائر بالظلم داخله التي استبدت به طيلة سنوات سجنه لم تكن لتتنازل دون شروط حتى للأهل، وكان شرطا أن يبنوا له زنزانة تشبه زنزانته في سطح المنزل بنفس قضبان السجن الحديدية،لكن مع إقفال الباب من الخارج بقفل ملحم (من التلحيم) لا يمكن فتحه.

 

كيف تحول
الملاكم لأسير؟

هو محمد بنتزوط، كما تثبت بطاقته الوطنية للتعريف، من مواليد 10/02/1964.المهنة مدرب ملاكمة .العنوان زنقة 62 رقم 6 لابيطا القنيطرة. كان ينتمي للنادي القنيطري فرع الملاكمة ،بعد ان زاولها في نادي الصحة ثم نادي الرشاقة، ليلتحق بالمنتخب الوطني للملاكمة. حسب رأي بعض المتتبعين ،فإن الجميع كان يتنبأ له ببطل على مستوى كبير، نظرا لقوته البدنية والمهارات الفنية التي يتوفر عليها،لكن مساره تعثر بسبب عدم القدرة على التوفيق بين التداريب المكثفة والمشاركة في البطولات الوطنية وظروف العمل -حسب راي المتتبعين الرياضيين- حيث كان يعمل كحارس أمن خاص . بالرغم من انه كان دائما يزاول في النادي القنيطري كمدرب ،حيث حاز على كفاءة التدريب في الملاكمة.
كما كان يملك محلا لبيع الدواجن، يسيره أجير، لعدم خبرته في المجالمجال، من أجل تحسين ظروفه المعيشية، حتى جاء شهر أبريل من سنة 1998 ليحمل معه »كذبة كبيرة«،ستسلب من محمد 22 سنة من حياته.
عندما تستمع لقصة محمد بنتزوط ، يتهيأ لك كأنك بالفعل أمام رواية لأغاتا كريستي، غريبة في أطوارها ومفتوحة على الاحتمالات والاسئلة العديدة المعلقة مع نهاية غير متوقعة.
في شهر أبريل من سنة 1998 ستستفيق القنيطرة على وقع جريمة بشعة، الضحية فيها الاستاذ علال القرشي، الذي قطعت جثته الى أجزاء ورميت في أماكن مختلفة.
شغلت القضية الرأي العام القنيطري على الخصوص، ليشمل التحقيق كل من يدور في دائرة الضحية ويصل لمحمد بنتزوط بحكم أنه حارس ليلي في الحانة التي كان يتردد عليها الضحية.كباقي الزبناء دون ان تكون له اي علاقة به.
يمر شهران دون أن يتوصل التحقيق للجاني او الجناة. لكن خيوط مسرحية ستبدأ في النسج لانهاء هذا الملف في شهر يونيه.وبالضبط حين كان بنتزوط أمام محله لبيع الدجاج ،حيث كان يتواجد ايضا احد رجال الامن بالصدفة. يدخل أحد أبناء الحي المسمى العربي جعبة وهو في حالة سكر “كمااعترف بذلك بنفسه” ، الى محلبة مقابلة لمحل الدجاج ،أخذ يتشاجر مع التاجر بسبب كأس لبنـ يكسره العربي فيصاب بجرح في يده، يتصاعد الشجار ويتطور امام اعين رجل الامن، يتدخل بنتزوط ليبعد العربي ابن الجيران عن المحلبة درءا للمشاكل،لكن الدم سيلطخ قميصه ،سيغيره ويضعه في دكانه امام اعين رجل الامن مع حافظة اوراق مدرسية لأحد شباب الحي كان قد نسيها فوق الطاولة. لتتحول هذه الاشياء الى وسائل ادانة الملاكم. بالقتل ..وهنا عقدة الحكاية او الحبكة.
سيتفاجأ بنتزوط في اليوم الموالي برجال الامن يطالبون بتفتيش المحل ،حجزوا القميص الذي به دم جعبة وحافظة الكتب (كلاسور) وكناش المحل.وسيتم استدعاء جعبة للتحقيق في واقعة الشجار وأخذ عينة من دمه ويتم ارسال قميص بنتزوط لمختبر الشرطة العلمية للتأكد من مطابقتها لفصيلة دم جعبة ، لكن هذه النتيجة بقدرة قادر اختفت ولم تقدم للمحكمة. ليتفاجأ الجميع يوم 21 يوليوز 1998بتقديم نتيجة مختبر تؤكد أن فصيلة الدم في قميص بنتزوط تحمل فصيلة الدم ” o”مجردة ، في حين أن فصيلة دم جعبة” + o ” وفصيلة الضحية” o-” و يتم إلقاء القبض على بنتزوط في غشت 1998 بتهمة قتل علال القرشي.ويستمر التحقيق معه لمدة سنتين يرفض فيها رفضا قاطعا أن يوقع على محاضر التحقيق، ويندد بكل المنسوب له ظلما، ويطالب بخبرة مضادة وبالإفصاح عن نتيجة تحليل دم جعبة ودم القميص التي هو متأكد من أنها تحمل دليل براءته . بعد سنتين من التحقيق التي لم يوقع فيها على المحاضر،أجبرته فرقة خاصة بضرورة التوقيع و ظل 72 ساعة بدون أكل ولا نوم ولم يوقع وحينما يئسوا من رفضه، شنجوه بحقنة أردته متخشبا، كانت من أصعب اللحظات التي عاشها طيلة هذه الفترة ،يقول محمد كماكانوا يجبروه على شرب مخدرات قوية، “كنت لا أبلعها و أجهد نفسي في الحركات الرياضية حتى يتبخر مفعول المخدر مع العرق”
حين أحيل على المحكمة حكمت عليه بالمؤبد وبتهم ثقيلة منهاالقتل العمد وتشويه جثة مع سبق الاصرار والترصد.
يقول بنتزوط أن محاكمته كانت أشبه بمسرحية هزلية، حيث ركزت الاسئلة الموجهة اليه من طرف القاضي على محله لبيع الدجاج وكيف يذبح الدجاج ومن يتكلف بغسله ولم تتطرق للقضية التي يحاكم بسببها.

من هو الضحية
علال القرشي؟

هي قضية متشابكة وغامضة، تجعل الاسئلة تتزاحم في ذهنك بشكل متسارع، أسئلة كبيرة بقيت معلقة 22 سنة دون جواب؟
من هو الضحية علال القرشي؟ لماذا تم قتله بتلك الطريقة البشعة ومثل بجثته؟ هل يمكن أن يكون لأستاذ مربي الاجيال أعداء بهذا الجرم الانتقامي البشع؟
إذا كان فعلا بنتزوط هو القاتل، من ساعده في القتل وتقطيع الجثة وبتلك الطريقة الاحترافية ورميها . ولماذا لم يتم استدعاؤهم؟
لماذا لم يحمل محمد بنتزوط على إعادة تمثيل الجريمة امام الرأي العام كما يتم عادة في مثل هذه الحالات؟
لماذا لم تحتج عائلة القرشي على بنتزوط وهو السبب في قتل أحد أفرادها والتزمت الصمت؟
لماذا لم يتم إلقاء القبض على بنتزوط الا بعد شهرين على وقع الجريمة بعد حادث جعبة؟ ولماذا انتتظروا حتى يقع الشجار ويلطخ جعبة قميص بنتزوط بالدم ،فيحمل للمختبر للتحليل مع دم جعبة؟ ويتحول لدليل إدانة.
ولماذا بنتزوط بالضبط الذي حبك له اكثر من سيناريو ؟هل كان على خلاف مع بعض رجال الامن في المدينة، ام كان يعتقد انه يعرف بعض الخبايا والامور ؟
لماذا اختفى تقرير الشرطة العلمية التي تحمل فصيلة دم جعبة ودم القميص؟
يحكى محمد أن هذا الملف يلفه غموض كثير وأن هناك حوادث تم طيها والسكوت عنها ومنها تجاهل شاهد يوم الجريمة، الذي عاين عن قرب سيارة مرسيديس سوداء بداخلها ثلاثة رجال يرتدون بذلات بالابيض والاسود بالاضافة الى السائق ،ولجوا ليلا وبسرعة شديدة الى أحد الاماكن الخالية المظلمة هي عبارة عن مزبلة ورموا فيها كيسا بلاستيكيا ورجعوا بنفس السرعة ليكتشفوا صباحا أن هذا الكيس كان به رأس الضحية ،ثم يجدوا بعدها وعلى بعد 6 أو7 كلمترات الاطراف الاخرى . الرجل أدلى بشهادته وأكد بأن ركاب السيارة لم يكن بينهم بنتزوط لانه يعرفه جيدا. والمسافة كانت قريبة ومازال يردد نفس الشهادة لليوم.
في اليوم الموالي للحادث يحكى بنتزوط ان أستاذا في نفس المدرسة عندما سمع بالحادث صرخ في القسم “أني اعرف من قتل القرشي……” اعتقله البوليس للتو وحكموا عليه بخمس سنوات بعها سيتم الاعلان بأنه مختل عقليا ويطلق سراحه و يعود لعمله كأستاذ !!!! ثم ينتقل لمنطقة أخرى ويترقى في منصبه الى مدير او اكثر. كيف لمختل ان يقوم بعملية التدريس ، ثم لماذا تم نقله وترقيته بهذه السرعة .
لكن لغز “الرسالة” يقول بنتزوط يبقى هو سر القضية. حيث وجد رجال الأمن بعد الحادث مباشرة رسالة في أحد مراكز البريد، يعترف فيها الضحية لصديق له غير معروف ،أن يسلمها للامن إذا تم اغتياله لأنه يشعر بأشخاص يترقبونه، لانه على علم بصفقات بيع الاسلحة مع منظمات او جهات اجنبية كما جاء في الرسالة” وفعلا وضع صديق مجهول هذه الرسالة في البريد ووصلت للاجهزة الامنية الذين حاولوا جاهدين أن ينسبوا كتابة الظرف لبنطازوت في محاولات يائسة .

السطح ..زنزانة
لا تحتاج لرخصة زيارة

عندما تبحث عن منزل بنتازوط اليوم فإنك لا تحتاج لمن يدلك عليه ، يكفي ان تجد نفسك في حي لابيطا حتى يدلك حديث الناس المتحلقين في الازقة عن بيت الاسير الذي يرفض حرية بلا براءة .
تجتاز حديقة صغيرة لتدخل الباب المفتوحة دوما، يطالعك وجه رجل وكأنه عانق الفرح للتو ،مازالت بشائره في محياه الوقور، أب محمد يقول إن هذه الحياة يصعب أن يعيش فيها الطيبون، وأن ابنه طيب ولا يرضى الظلم لغيره قبل نفسه. في الطابق الاول تحمد الأم الله عن نعمة اللقاء، لكنها تبدو وكأنها تريد فقط أن تعانق ابنها، أن تحضنه في صمت، أن ينتهي كل هذا الضجيج الذي يملأ المكان” أنا لم أره، إنه في السطح لا أستطيع الصعود إليه، هناك الكثير من الناس”
السطح يغص بالزوار ،بالشباب على الخصوص، اطفال سمعوا عن الملاكم بنتزوط وكان عمرهم 4 سنوات، هم الآن شباب في 26 سنة من العمر، يعانق محمد بحرارة شديدة من خلال الحديد شابا كان صبيا يشتغل عنده في دكان الدجاج .. بدا الشاب متأثرا ومحمد فرحا، يختلط فجأة صوت الشباب بنسوة من الحي مهنئات، فيتحول السطح »”لبارلوار«” السجن بالفعل، حيث تقع زنزانة محمد الإرادية، مسيجة بالحديد ، بالداخل سرير على الأرض فوق حصير، في الزاوية مرحاض بدون باب فقط ستار ، يحمل الحائط في الوسط كل الشهادات والكؤوس التي حصل عليها محمد داخل السجن وفي الزاوية المقابلة للسرير. تبدو صورة الملاكم المزينة بميدالية وكؤوس وأشياء تعود لفترة ما قبل السجن ،و كأن جدران الغرفة قسمت لأزمنة ثلاثة ما قبل السجن وداخله ثم بعده حيث يجلس اليوم. يقبع محمد خلف القضبان، في حين يجلس شقيقه أمام الباب وقد توحدت روحه مع أخيه وأختهما خديجة .تكاد تشعر بنفس نسبة الغضب والظلم، والإصرار والقوة .
وسط البيت وأناسه تدرك أن الإصرار على اظهار الحق ورفض الظلم هو صنع عائلي بامتياز…
امتلأ السطح بالناس من مختلف الاجيال وأخذ كل دوره في السلام على محمد ،جمعت ما تبقى من أسئلتي العديدة وأفسحت الطريق للزوار. لا يعرف البيت منذ يوم الجمعة الماضي الهدوء حيث تحول حي لابيطا بأكمله لعرس كبير، كل الناس احتفلوا رقصا وغناء بملاكمهم الذين لم يشكوا لحظة في براءته ، كل السكان نساء ورجالا وخصوصا شباب اليوم الذين لم لم يعاصروه، مصرون على تنظيم مسيرة ، من المفروض ان تنطلق في الساعة الرابعة من الحي لتجوب المدينة ،تطالب بإعادة التحقيق وإثبات براءة . محمد بنتزوط و رغم سنوات السجن الطويلة لم يتخل عن حب الملاكمة ،روى لي بعشق كيف طلب من مدير السجن ان يسمح له بتحويل فضاء مهمل الى ساحة للتدريب ،واصبح يدرب النزلاء الملاكمة ،كما انه كان يشارك من داخل السجن في مجموعة من المنافسات ،حيث حصل على 12 ميدالية و ثلاثة كؤوس و7 دبلومات في التكوين والتأهيل كما تابع دراسته وحصل على شهادة نهاية الدروس الاعدادية .
استطاع محمد أن يطوع الالم والاحساس بالظلم ،ولم يتوان في المطالبة بالبراءة،راسل جهات عديدة دون جدوى ورفض العفو الملكي لأنه مؤمن بأنه يستحق البراءة .
هو اليوم يرفض الحياة بتهمة قاتل ،لم يرغب في حمل جريمة لم يقترفها ولم يرغب في حرية كلفته 22 سنة من الضياع ،ضياع شبابه وأحلامه ومساره وحياته، حرية مقيدة بنكهة الاسر.


الكاتب : فاطمة الطويل

  

بتاريخ : 27/02/2020