رواية أفول الليل للطاهر المحفوظي

 سيرة معتقل سياسي من زمن الجمر  بين سطوة القمع وسحر النضال  1/2

مقدمة

*فلما أفل الليل كانت الكتابة.
في تلك السبعينات الصاخبة والملتهبة من القرن الماضي، لا صوت كان يعلو على صوت التمرد والتحرر والتغيير، الذي قد يصير ثورة أو لا يصير.ولا صوت كان يعلو فوق صوت التصدي للرأسمالية الاحتكارية والاستعمار الجديد وللإمبريالية وحليفتيها في المنطقة الناطقة بالعربية، الصهيونية والأنظمة الرجعية، كان التصدي بالشعار والأفكار وبالفعل المنظم للاستبداد هو النقطة الأولى في جدول أعمال كل الحركات. وكان الفكر الاشتراكي بكل تلاوينه، لينيني أو تروتسكي أو ماوي أو عروبي، يغذي العقل والوجدان. وكانت انتصارات الحركات الثورية تشحذ الهمم والنفوس وتقوي العزائم، وعلى أنقاض الخيبات و الهزائم التي راكمتها المستعمرات القديمة كانت الأحلام بالانتصار على الاستعمار الجديد تتوهج في الصدور. انتفاضة 1968 الطلابية في فرنسا لم تكن بعيدة عن هذا الجيل، واغتيال الاستكبار العالمي للزعيم الأممي جيفارا (9 اكتوبر 67) لم يكن بعيدا، وهزيمة (67) المدوية لم تكن بعيدة هي أيضا عن زلزلة اليقينيات والاطمئنان الزائف إلى عدالة القضية وحتمية النصر.
فقد أحدثت النكسة رجة كبرى في الواقع والفكر العربيين، ربيع الأوروغواي كان هناك هو الآخر1968، والثورة الثقافية الصينية 1966كانت هناك، ونشأة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم تكن بعيدة 1967. وكذا نشأة الجبهة الديموقراطية 1969، ولم تكن بعيدة عن كل هذا بشكل خاص، الانقلابات التي حمل كل واحد منها مشروعه الخاص ضمن مشروع عام لعالم عربي يبحث عن نفسه أو يبحث زعماؤه عن تحقيق طموحاتهم تحت راية إيديولوجيات وتحالفات بدت في حينها ملآى بالوعود، لم يكن بعيدا انقلاب 1970 الذي قاده حافظ الأسد ورئيس الأركان مصطفى طلاس، ولم يكن بعيدا انقلاب يونيو 1968 وصعود حزب البعث الاشتراكي العربي إلى السلطة، لم يكن بعيدا انقلاب 1969 في ليبيا وثورة الفاتح من شتنبر، ولا انقلاب جعفر النميري في السودان ولا انقلاب الهواري بومدين في الجزائر، لم تكن بعيدة أسماء الزعامات الأممية الحمراء ولا زعامات القومية الرمادية ولا زعامات الفكر التحرري.
كانت فعلا سبعينيات زاخرة بالتحولات والفوران والغليان والطموح والأطماع على حد سواء. وحتى التاريخ الوطني بوقائعه ورموزه وفاعليه الأساسيين لم يكن بعيدا، ولم تكن بعيدة عن ذلك أيضا أيدي الرأسمال ولا مخالب الإمبريالية في ضبط بعض من التوازنات الجهوية أو خلخلتها إلى حين. وكان المغرب وفاعلوه والمنفعلون بهذه المؤثرات في صلب هذا الصراع الدولي، وفي قلب هذا التدافع الجهوي والوطني،لم يكن صراعا ولا تدافعا بين فرقاء ــ كيفما اعتبر الواحد منهم الآخر: خصما أو عدوا أو صديقا و حليفا ــــ في الوطن الواحد، بل كان صراعا وتدافعا يتغذى من روافد جهوية ودولية ويخضع لتأثيراتها، بقدر ما كان يخضع لتأثيرات الأوضاع الداخلية لعموم الكادحين والمستضعفين والفلاحين الصغار والعمال المزارعين والطلبة والتلاميذ والمثقفين الذين اصطفوا في الخطوط الأمامية للدفاع عن الحق في الكرامة وفي المجتمع البديل، بفضل تنامي الوعي وتجذره طرادا مع تنامي الفقر وازدياد القهر واستشراء الفساد وتجبر السلطة والمال.
فتيل النار كان قريبا من جعبة البارود في انتظار من يقدح الزناد،والساعات كانت مضبوطة تماما على توقيت التغيير من خلال ثورة أو انقلاب، والبوصلة كانت تشير إلى اليسار أو العسكر، بل كانت تشير إليهما معا، وقد حاولا فعلا وفشلا. وحصل الذي حصل أثناء ذلك وبعده، وقد حصل الذي سمي سنوات الجمر والرصاص. سنوات تركت جراحا مفتوحة على الصدر وندوبا عميقة على الظهر وثقوبا كثيرة في الذاكرة الوطنية. استقبلت المنافي العشرات واختفى البعض أو أخفي واختطف من اختطف، وعذب من عذب وعوقب الأفراد وعوقبت الجماعات والجهات وامتلأت المخافر والسجون والمعتقلات العلنية والسرية واقتيد إلى « الشواية» من قادوا أو شاركوا أو حرضوا أو كانت لهم شبهة تعاطف، أو شبهة من قرابة أو علاقة بحدث أو واقعة أو فقط دارت عليهم رحى تصفية الحسابات.
بعد عقدين عن الذي حصل، يزيد قليلا أو ينقص قليلا،سيشرع المعنيون بهذه الأحداث، وخاصة المعتقلين، في تسجيل مآسيهم، ربما من جهة لفهم ما كان، وقد كان كثيرا وثقيلا ومكلفا، وربما من جهة أخرى لحفظ الذاكرة للأجيال المقبلة، وربما ثالثا لتدوين سيرتهم بين الخلق، ومساهمتهم في تشكيل جزء من تاريخ بلدهم، سير ذاتية وروايات أو دواوين ورسائل ستحمل اسم «أدب السجون» على غرار ما سمي أدبَ سجونٍ في أقطار أخرى، فالظاهرة لم تكن مغربية خالصة، وحتى مغربيا فقد كانت لها سابقة، معتقل» أغبالونكردوس مثلا. بعد عقدين إذن من تلك السبعينات من القرن الماضي تزيد أو تنقص قليلا، سترى النور أعمال اللعبي والشاوي وبويسف الركاب وهم بعد في السجن، ثم بعد عقد آخر ينقص قليلا أو يزيد، ستتوالى الأعمال التي تحكي المحنة وتعري الجراح وتصف المعاناة التي ثم الاعتراف رسميا بأن ضحاياها، أفرادا وجماعات، طالتهم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، سيكتب الرايس والمرزوقي والدردابي والرحوي وغيرهم من صميم الواقع،وسيكتب أيضا من خارج التجربة من تخيل المحنة وسعى ليعكسها في الأدب أو في السينما.
لقد كانت تجربة مرة بكل المقاييس، سوداء بكل المقاييس، عنيفة بكل المقاييس،ثم إنه وكما يحصل عادة بعد نهاية كل تجربة تاريخية، يكون للتاريخ أيتامه، وجنده المجهولون الذين يُنسون ويهملون، كما يكون له أعلامه، الذين يمجدون ويبجلون، يكون البناة الذين يغرسون البذور ويرجعون إلى الصفوف الخلفية، والجناة الذين يقطفون الثمار ويتقدمون إلى الأمام، فلم توضع كل التجارب تحت الأضواء، وعرف عن بعضها الكثير ولم يعرف عن بعضها شيء، وحفظت أسماء بعض ونسيت أسماء بعض آخر، «نسوا فكأنهم لم يكونوا»،لأن ذاكرة التاريخ أيضا بها ثقوب.
واحدة من هذه المجموعات التي لم يسلط عليها ما يكفي من الضوء، ولم تأخذ حقها من التعريف والشهرة بالمعنى الإيجابي للكلمة، بل وغًمطت حقها كاملا بسبب من ظروف خاصة غطت على اعتقال أفرادها وحولت الأنظار عن سجن غبيلة، وعن النقابة الوطنية للتلاميذ إلى درب مولاي الشريف ومولاي بوعزة وحركة 3 مارس. تلك هي مجموعة ( بوغابة ومن معه) أي مجموعة 36 أو 42 ، المعروفة بمجموعة النقابة الوطنية للتلاميذ، وهي المجموعة التي خصها الكاتب الطاهر المحفوظي بمؤلفه « أفول الليل» يوميات من سنوات الرصاص، ليس باعتباره شاهدا فقط، بل باعتباره فاعلا وشريكا في شرف النضال وفي محنة الاعتقال.
غير أن الكاتب وهو يقوم بواجب التعريف بهذه المجموعة وبمساهمة أفرادها في جزء حيوي وفترة حرجة من تاريخنا المعاصر لا يكتفي بالتوثيق أو التأريخ ولا يتوقف عند سرد الأحداث والوقائع، بل يتحفنا بعمل أدبي متكامل العناصر مثير لشهية القراءة والمعرفة، جامعا في عمل واحد وبشكل متناغم السياسة والأدب ، بل وجاعلا من الأدب وسيلة للتعبير عن السياسة النبيلة كما يراها وكما رآها جيله ورفاقه.

أفول الليل : بين رهان الكاتب وتفاصيل الكتابة.

2 ـــ 1: معالم على الطريق
أفول الليل إذن، هو العمل الذي نذره صاحبه المعتقل السياسي السابق والمناضل والكاتب المبدع الطاهر المحفوظي للتعريف بأعلام ورموز واحدة من المجموعات الفاعلة حينها في الصراع من موقعها الخاص، هذا أولا، والتعريف بمساهمتها في النضال العام الذي خاضته إلى جانب مجموعات أخرى للدفاع عن الطموحات المشروعة للجماهير الكادحة وحقها في الأمل والحلم بغد أفضل، كمجموعة وصلت الليل بالنهار، ساهرة على حضور الاجتماعات وتهييئها، وعلى طبع المناشير وتوزيعها وعلى عقد اللقاءات تلو اللقاءات وعلى العمل تحت أسماء مستعارة في كل الأوقات لتزهر شجرة الأمل، هذا ثانيا، وللتعريف ثالثا بالانتهاكات التي طالتها وما كان نصيبها فيها من القمع والتعذيب، دون أن يكون لها منها نصيب من مجد الاعتراف بهذا الدور لظروف كما قلنا حالت دون أن تأخذ المجموعة مكانتها المعتبرة من تاريخ التجربة.
لقد غًمطت حقها المشروع في أن يدون اسمها عاليا في اللائحة التي تحصى فيها للعباد أفضالهم، فطالتها الانتهاكات الجسيمة، وطالها العنف الجارح، كما طال تجربتها نوع من التجاوز والتقصير، يقول بصدده الكاتب:
«لقد ناضلنا في سرية تامة، واعتقلنا في سرية وأطلق سراحنا في سرية! … لم نحظ بحملة صحفية ولا تلفزية ولم تظهر صورنا في الجرائد، وحتى أسماؤنا كانت نكرة…»كما يقول أيضا في مقدمة الكتاب:» لقد خلفت هذه الفترة جراحا لن تندمل، وشهادات قليلة وتوثيقا لا يذكر، وهذه محاولة متواضعة لرفع بعض الغموض عن العشرات من المناضلين الذين ناضلوا في صمت ونكران ذات واعتقلوا، لأنهم كانوا في الصفوف الأمامية للدفاع عن الشعب ومن أجل التغيير، ولم تملأ صورهم الصحف، وأطلق سراحهم في ظروف خاصة جدا ولم يسمع بهم أحد، في الوقت الذي ملأ بعض «المناضلين» شاشات التلفزة!…
وقد أجاد الكاتب حين وفَّى بالرهان، فعرَّف بالمجموعة وبأفرادها وبتجربتهم النضالية، ثم رفع سقف الرهان ليغطي فترة هامة وطويلة من تاريخ المغرب المعاصر،جاعلا من أطوار حياته الشخصية مادة للتاريخ وللأدب في الآن نفسه، مستغلا سيرته الذاتية لإضاءة الجوانب المعتمة في ما سبق منعرج الاعتقال وما جاء بعده، وإذا كان للتاريخ مكره، فإن للأدب مكره أيضا، وإذا كان التاريخ أحيانا يُهمل أو ينسى أو يَحذف أو يُسقط من حسابه،ناسا وتجاربَ، فإن الأدب يعيد الناس والتجاربَ إلى الحياة ويعطيهم مكانتهم المعتبرة، فليس التاريخ هو الذي يخلد الأمجاد، وإنما الأدب هو من يفعل. والتاريخ لا يمكنه أن يمحو ما ثَبَّته الأدب. بل وللأدب أيضا مزبلته التي يرمي إليها من لا يستحقون الاعتبار، فالأدب لا يحتفي سوى بالأخيار.
2 ــ 2 : توصيف الكتاب: «الكتاب» الذي خصصه الأستاذ الطاهر المحفوظي لهذه التجربة، من الحجم المتوسط، صادر عن دار القرويين، طبعة الثانية سنة2006، عدد صفحاته 337 صفحة، على وجه الغلاف لوحة للفنان بشار المحفوظي توحي بقضبان وأسلاك شائكة ومخلوقات بملامح بشرية تنسل من بين سواد بَيِّن وزرقة مبهمة لتختلط و تذوب أجسامها في ألوان المكان. وعلى ظهره صورة تعريف صغيرة للمؤلف ونسخة من رسالة «المسجون» إلى أقاربه، يعلوها تنويه بالكتاب من شيخ القصاصين المغاربة قاطبة، الحكيم بلا منازع، الأستاذ أحمد بوزفور.
وتغطي صفحات أفول الليل وعلى التوالي الأقسام التالية:
1) الصفحة (5) :إهداء من المؤلف إلى الذين عانقوا لهيب النضال بشكل عام، وإلى الشقيق الذي لا ينسى جميله.
2) الصفحات من(7 ـــ 8 ): تقديم يعلن فيه المؤلف بأن الكتاب شهادة على سنوات الرصاص وتعريف بقضية المجموعة 36 ثم42 المعروفة بمجموعة بوغابة ومن معه، أوقضية النقابة الوطنية للتلاميذ.
3) الصفحات من 9 إلى176: خصصت كلها لفترة السجن، وتبدأ باعتقال السارد وتنتهي بمحضر النطق بالحكم في حقه وحق المجموعة. وبين البداية والنهاية ، تستعرض ما عاناه المناضلون المعتقلون في المخافر وفي الزنازن ومع المحققين والقضاة والسجانين.
4) من الصفحة 177 إلى الصفحة 263:أي، من وصف ربوع الصبا رغم الفقر واليتم وشظف العيش، حتى الموال الحزين الذي يفيض اعترافا بالجميل للأخ الشقيق الذي تكفل بالقوت والدراسة وأعباء السجن وقهر السنين طوال هذه الفترة من كفاح السارد وانشغاله بالنضال. ويزاوج فيها الكاتب بين وصف ثلاث مراحل من سيرته:
ــــ الطفولة الأولى والوسط الاجتماعي والدراسة.
ــــ الانخراط في النضال السري والانتساب إلى منظمة 23 مارس والنشاط في الوسط التلاميذي رغم ترقيه في المركز التنظيمي وانتقاله إلى الدراسة في الجامعة.
ـــــ سيرة ما بعد السراح، فترة الإحساس بالضياع ثم تدبر العمل،فالانتقال من القطاع الخاص إلى القطاع العام، ثم المغادرة الطوعية، مع ثابت لا يتغير بتغير المراحل، وهو الانحياز الدائم للمستضعفين، والوفاء للرفاق ومواصلة النضال دفاعا عن القيم النبيلة للتقدم والحرية والعدالة، مهما خابت الأحلام، أو غابت البوصلة ، أو قطف الجناة ثمار البناة، فلكل تجربة بناة يعانون، وجناة يقطفون الثمار.
5) من الصفحة : 265 إل الصفحة309: وضع الكاتب المعتقل هذا الجزء تحت عنوان جامع « رسائل اغبيلة»، وخصصه لما نجا من رسائله إلى بعض أهله ورفاقه، وفيها طبعا تعبير عن مشاغل السجين الخاصة والعامة، وتبدأ بإشارة لبيبة إلى حجز إدارة السجن لما يرد من رسائل على المعتقلين، فهي إذن رسائل في اتجاه واحد، رسائل من الداخل إلى الخارج، وتنتهي صفحات هذا القسم بجرد للائحة الممنوعات في السجن، لأن السجن فضاء ذو اتجاه واحد فقط. هو الفقدان.
6) من الصفحة 310 إلى الصفحة 329:يصف الكاتب في هذا القسم الوصمة التي تتعقب السجين خاصة في الإدارات ــ الحرمان من جواز السفر/ المنع من مغادرة الوطن ــ ويصف بعض الضياع الذي خلفه انكسار الأحلام، وكفاحه من أجل لقمة العيش، وثباته على خط النضال الذي لا ينتهي بمصالحة الجلاد، بل ينتهي بإدانته.
7) من الصفحة 331 ألى332: فصل فريد من مقطع واحد، على شرف الأم التي تسكن ربوة القلب، على شرف الأم وحدها،ولروحها وذكراها الطيبة. فقد ذاق السارد مرارة اليتم المبكر، فكيف له أن لا يستشعر ثقل الغياب وفداحته وهو على مشارف إنهاء سيرته.
8) الصفحات من333 إلى 337: وضع بها الكاتب جردا لمحتويات العمل « الفهرسة»، وهي 136 عنوانا، أي 136 نصا، بعد إلى الإهداء والمقدمة .
الملاحظة الأولى، هي أن هذا العمل الإبداعي المتميز يخضع لخطة ومنهجية وله خيط داخلي ناظم وبنية للربط بين أقسامه ومقاطعه واضحة وساطعة، وليس مجرد تقميش وتجميع لنصوص متباينة ومتنافرة تحصلت للكاتب من تجربته النضالية، كما قد يتبادر إلى ذهن قارئ متعجل أو يخطر على بال قارئ تستبد به ذاكرة قرائية تقليدية، تمنعه من الخروج عن المألوف، فالذاكرة القرائية التقليدية لا ترى بديلا في الكتابة عن اعتماد النوع الواحد والأسلوب الواحد مع وضع علامات «التشوير» والتنبيه إلى كل منعرج أو تغيير للسرعة و الإيقاع، حتى يضغط ــ ذاك القارئ ــ أو يرفع رجله عن دواسة الفهم.
فالواضح أن لهذا العمل فصولا متميزة الواحد منها عن الآخر، بل وتبلغ في تميزها قمة الإتقان، فنجد كما بينت سابقا أن لكل فصل مفتاحا وقفلا خاصا به، ينسجم مع محتواه،
ــــ ففصل الاعتقال، يُفتح بلحظة القبض على السارد ويقفل بمحضر الحكم.
ــــ وفصل « الطفولة الأولى والانخراط في النضال ثم ما بعد الاعتقال» يُفتح على سهول البادية وروابيها وعلىندرة مائها وقلة ذات يد أهلها ويُقفل بالاعتراف بالجميل للأخ الشقيق الذي كان أصدق رفيق في كل هذه الرحلة الشاقة بعد أن غيب الموت الوالدين.
ــــ ورسائل السجن مستقلة بنفسها وإن كانت تجاور الفصول الأخرى فهي أيضا تحاورها.
ـــ أما النهاية فقد خصها الكاتب نظرا لأهميتها، بفصل مزدوج ، الأول من ثلاثة مقاطع يصف فيه الانكسار، وانحسار المد النضالي والوضع الجديد للمعتقل السياسي في مجتمع خفتت فيه الهمم وغضت الحناجر من شعاراتها، ويتوقف عند تأبين واحد من رموز المجموعة، ذاكرا خصاله ونضاله ومناقبه ثم يختم بخطاب في صميم النضال متوجها بسخرية جارحة سوداء إلى الجلاد الذي جمعته به رفقة البلاد:
«أنا على استعداد تام للمصالحة والمسامحة وما بينهما من متشابهات إذا أحضرت كل الشهداء وتنازلوا عن آلامهم ودمهم وعفوا عنك،
ـــ ومن لي بالشهداء فهم أموات!؟
ـــ ويحك، ابحث عنهم فإنهم أحياء، فتش عنهم في كل مكان كما كنت تفعل ككلب مسعور حتى إذا وجدتهم عذبتهم حتى الشهادة، أحضرهم إذن، فإن تنازلوا تنازلت وصفحت عنك وسامحتك فيما تقدم من ذنوبك وما تأخر منها.
لكنني في المقابل أرفض أن تسامحني أو تعفو عني أو تنصفني، فأنت يا جلادي أحقر وأنا أكبر من أن نتساوى.»
إنها الكلمة الفصل لكل هذه الرحلة، لا تنازل عن دم الشهداء. إنها النهاية الحقة، روح تريدا جدار يقف بين الجلاد وبين الضحية، السارد شاهد والميت/ الشهيد يقف بينه وبين الجلاد، وربما يحول بين المصافحة وبين المصالحة، إنهاالنهاية، تكون بالموت لتكون الحياة بداية جديدة، ويكون الليل، ويكون أفوله، لتطلع شمس النهارولتسطع شمس الحقيقة، ولعله لهذا السبب سمى الكاتب مؤلفه أفول الليل، والمضمر في ذلك الأفول هو سطوع شمس الحقيقة، حقيقة من ناضلوا واكتووا بشواظ الجحيم، وكاد يلتهمهم غول النسيان، وهاهم يعودون، يشقون جلد الليل ويخرجون من بين طياته إلى النهار، كل واحد يحمل روحه ومحنته بين يديه، كل واحد يحمل اسمه مرسوما على جبينه، ويحمل جرحه موشوما على جلده. وتاريخه مسطورا على صفحات الليل.
تلك هي النهاية العامة التي وضعها الكاتب لعمله، أما النهاية الخاصة، فكانت نصا واحدا منفردا خص به الكاتب المناضل والمعتقل السياسي السابق طَيِّبة الذكر والدته، الأم العظيمة التي ترقد هناك في أعلى الربوة بمسقط الرأس والقلب.
والنهايتان معا كانتا أجمل ما يمكن أن تنتهي به سيرة المناضل، جامعا بين الخاص والعام، وبين الذاتي والموضوعي والسياسي والأدبي في لحظة واحدة قوية ومؤثرة ورامزة بشدة، لقوة إيمان الكاتب بمساره ووفائه لجذوره ولأفكاره ومبادئه وخط سيره، دون أن يفوتنا الانتباه إلى أنه كما بدأ السرد أنهاه، متوجها في الحالتين معا إلى رفاقه في النضال ومعترفا بفضل الشقيق في البداية والوالد في الوسط والوالدة في النهاية. والثلاثة رَحِمُه ورفاق دمه إلى جانب رفاق الطريق والفكر والمحن.
للكتاب إذن خيط ناظم لفصوله، ومنطق ذاتي لاشتغاله، واتساق وانسجام بين مكوناته، يكفي لاكتشافه عدم الركون إلى سلطة الذاكرة القرائية التقليدية، ولو شاء الكاتب لقال ساخرا كعادته، وهل كنت أرضخ للسلطة السياسية التقليدية، حتى أرضخ لسلطة الأدب؟
أما الملاحظة الثانية،فإضافة إلى تحفيز الكتاب للذاكرة القرائية على الخروج عن عادتها ومألوفها، فهو يذكرنا بأن مهمة النقد ليست هي أن يُدخل العمل الإبداعي في قوالب النظريات وأقفاص المفاهيم الجاهزة، بل مهمته الأساس هي أن يكتشف نظام اشتغال كل نص بمفرده، ويستخرج من كل عمل على حدة قوالب ومفاهيم جديدة تغني التجربة الأدبية العامة.

أفول الليل وتعدد الأجناس الأدبية. « من اليوميات إلى السيرة الذاتية»

3 ــ 1: التنوع داخل الوحدة
أول ما يشد انتباهك في هذا العمل المتميز ـ بعد المقدمة التي يحدد فيها المؤلف دواعي الكتابة ورهانها الخاص ــ أن صاحبه قد شاء له أن يخرج على شكل مقاطع تكاد تكون متساوية، مابين الصفحة والصفحة والنصف حتى الصفحتين في الغالب. هي بالتمام(136) قطعة أدبية.بل أقول شخصيا 136 لوحة فنية، تستحق كل واحدة منها وقفة متأنية.
يقدم الكاتب عمله على أنه يوميات، أي يوميات من سنوات الرصاص، والقارئ لهذا العمل سيجد فيه بعضا من خصائص اليوميات فعلا، كما سيجده يتجاوز اليوميات ويختلف عنها، لقد حدد الكاتب لعمله زمنا كليا يمتد من فترة الاعتقال إلى السراح، وشيئا مما قبل الاعتقال ومما بعد السراح، والزمن ذاك كله ينتسب لسنوات الرصاص، ولم يكن له بد من غض الطرف عن الزمن الجزئي، فلا توقيت ولا أقلام ولا تدوين ولا تسجيل في الزنازين وتحت رقابة الحراس. وجاءت اليوميات سلسة واضحة ينتهي كل مقطع منها برأي أو تعليق أو فائدة، وعكست فعلا الجانب الذاتي الحميم من الوقائع التي عاشها الكاتب، وتلك بعض خاصيات اليومية، ففيها الكثير من الحميمية الجذابة المثيرة، وهي بعيدة عن التخييل حتى وإن كانت واقعيتها السوداء أحيانا والساخرة على الدوام تتفوق على كل ما يمكن أن ينتجه الخيال الجامح الحر المنطلق من صور وأحداث وشخوص، ولكنها أيضا استرجعت أحداث الماضي في تسلسلها بموضوعية وأحيانا كثيرة بحياد تام، إن سرد الأحداث كان هو الغاية ولم تكن الذات إلا حاملا للفكرة بجانب ذوات أخرى كثيرة وتلك بعض خاصيات المذكرات، والقارئ سيخلص حتما إلى أن العمل يجمع بين ذاتية اليوميات وموضوعية المذكرات في تناغم تام كما هو التناغم الحاصل في جمعه بين الأدب والسياسة.
وأكثر من ذلك، فقد عمل الكاتب على إخراج هذه اليوميات/ المذكرات في أشكال تعبيرية متنوعية، سأحصرها في:
1) القصة
2) التقرير الإخباري
3) الشهادة
4) الوثيقة
5) القصيدة
6) الرسالة
وكل واحد من هذه الأشكال هو جنس أدبي مستقل بذاته أو يكاد.
وإذا كان الكاتب قد جعل رهان عمله هو التعريف بمأساة مجموعته وإعادة الاعتبار إلى تجربتها بين التجارب الأخرى التي سلطت عليها الأضواء بعد أفول ليل الاعتقال والخروج إلى ضوء النهار، فسيكتشف القارئ بأنه قد قطع مع الكاتب كل أشواط حياته من النشأة الأولى حتى حاضره اليوم، مرورا بمحنة السرية والاعتقال، مما سيجعله يميل «وأميل معه» بكل ثقة إلى تسمية العمل سيرة ذاتية تامة كاملة ومستوفية لكل عناصرها. بل وسيرة جماعية تتخذ ذات الكاتب محورا لها، لا ينفصل فيها الشخصي عن العام ولا الأناعن النحن. وحسنا فعل الكاتب عندما خصص الجزء الأول من أفول الليل لسيرة الجماعة قبل أن يزواج بين سيرة الذات وسيرة الجماعة في القسم الثاني، ففي ذاك نصيب من نكران الذات الذي يتصف به النزهاء.
وإذن فاليوميات/ المذكرات، هي سيرة ذاتية وجماعية تعبر عن نفسها في صيغة قصص ووثائق وشهادات وتقارير وقصائد ورسائل، وبلغة أخرى فإن «أفول الليل» للمبدع الطاهر المحفوظي سيرة ذاتية تجعل من أجناس أدبية مختلفة وحدات صغرى في بنائها العام، تماما كما يجعل الصانع الحرفي من أحجار صغيرة ومختلفة الأحجام والأشكال والألوان لوحة فنية غاية في الإحكام والإتقان.
وسواء كان هذا البناء الفني للسيرة مفكرا فيه، أو فرضته ضرورة خاصة أو واحدة من مضمرات الكتابة التي يعرفها المؤلف وحده، أو حصل ذلك بمناسبة صدفة سعيدة، فلا يمكن إلا أن نسعد لهذا التوليف الجميل بين الأجناس، والذي سيثير بل وسيستفز ولا شك الذاكرة القرائية العادية. إننا أمام عمل إبداعي مختلف ومتميز. في بنائه وتركيبه وأسلوبه.

 


الكاتب : جمال الدين حريفي

  

بتاريخ : 11/01/2019