سماء بلا نجوم

 

حملت محفظتي، وصفقت الباب وراء ظهري بعنف، وتوجهت نحو المدرسة، فيما لعنات أمي تلاحقني، على رأس الدرب: كان «سكالا» بقامته النحيفة كالعصا، ووجه الذابل وشعره المنفوش، جالسا فوق صخرة يتمايل برأسه يمينا وشمالا كالسنبلة التي تهتز مع الريح، وقد جعل عُكازه بين يديه كالعود يعزف على أوتاره الوهمية أغاني الرويشة الذي سلب لُبه «شْحال من ليلة وليلة، شْحال من ليلة وليلة»، ويُدندن مُغَمْغِما «انجذبت لهذا المشهد الذي استغرقني مدة طويلة من الوقت، نسيت معها جرس المدرسة ولعنات أمي، عبرتني خلالها صورة الرجل وهو كالثور الهائج بطعن ابنه في صدره طعنات متوالية بسكين كان يُفزعني مرآه.

************
ذات مساء ثقيل، غاب فيه ضوء القمر الشاحب، وهَجعَت الأنفس إلى مساكنها بعد عناء يوم شاق، دخل لْحسن متسللا إلى المنزل، كان جائعا، فاتجه إلى المطبخ مشيا على أطراف أصابع قدميه، ظلام دامس يغطي أرجاء البيت، أوقد لحسن عود الثقاب وأخذ يبحث عن الإناء المعدني الذي استقرت به الوجبة التي اقتترتها زوج أبيه ليوم الغد، فجأة سقط غطاء الإناء محدثا دوياَّ، فاستيقظ من بالمنزل، قامت الزوجة مسرعة إلى المطبخ حيث تسمر لحسنْ في مكانه مذهولا من صدمة المفاجأة: فانقضت عليه كالصّاعقة وسحبت الإناء من بين يديه المرتعشتين، أرْغى لحسن وأزبد، فنشب شجار ومُلاسنة حادة، اقترح معها الأب أن يُقامر ابنه حول العشاء، فكان الحل مرضيا، لكن “سكالا” لم يستسغ الخسارة، خَمَّن أن وراء الربح خُدعة، فكان ما كان… إذ فقد “سكالا” الابن وطلق الزوجة وبعد مغادرته السجن عانق الخمرة والصخرة وأغاني رويشة.
انحنى “السْكالا” على القنينة الخضراء المنتصبة بين قدميه مثل برج مائل، وجرع من فمها مباشرة جرعة طويلة، بدا لي معها كأن أنفاسه ستنقطع، ثم سدّها، ومسح بكم ثوبه المهلهل نُثار السائل الأحمر على شفتيه ولحيته، تفتحت عيناي فجأة على الزجاجة فخفق قلبي:
– يا ألله، ها عَشرة جَابْها الله.
حككت كفا بكف من شدة الحبور: سأبيعها لبَّا مسعود الذي تعوَّد أن يشتري من عندي النحاس وبقايا الزجاج المكسر والحديد والجورنال وصناديل «ميكا» .في مرة سابقة حملت لبَّا مسعود خمس قنينات خمر فارغات، التقطتها من البحر، وكم تعبتُ ذلك اليوم في البحث عن أشياء ذات قيمة تصلح للبيع، وعندما يئسْتُ، فكرت في سرقة حامل نقود أمي، مُعَرِّضا نفسي للسعات «السُّفود» الحامي على يدي كما حدث لفمي من قبل.
كلما حل يوم السبت، تتزين بالسواك وتتكحل، ثم تنظر للمرآة كثيرا وتبتسم بحبور بهيج، وتلبس فستانها الشَّفاف الذي أصبح وحده علامة على حلول يوم السبت، حيث يلزمني أن أقضي نصف الليل خارج المنزل…
أنا لم أكن أفهم في هذه الأمور لكن السكالا نَوَّر بالي، قال لي وهو يكشف عن أسنانه الخربة.
– أمك عاهرة؟
كدت أتبَوَّل في سروالي من شدة الضحك، ظننتها إحدى نكاته المسلية، لكنه حَدَجَني بخُبث.
– أقول لك أمك عاهرة وتضحك.
– وما معنى عاهرة؟
بدا عليه التردد أول الأمر، وعندما ألححْت عليه قال بحزم.
– هي التي تعطيه لمن كان..
ولم أحقد على أمي، ولا تغيَّرت مشاعري تُجاهها، لأنه لم يكن لها ما «تُعطيه» ولم يكن لها «من كان» لذلك اعتبرت المسألة جزءا من تخريف السكارى، وما بالك إذا تعلق الأمر بواحد مثل «السكالا»، وحتى عندما عيَّرني يوسف ونعت أمي «بالقـ…»، اكتفيت بجرح خفيف أحدثته على حنكه الأيمن بشفرة مينورا للحلاقة، ظل يحمله كالوشم.
*********
أزف الموعد، فأمرتني أمي بتودد أن أخرج للعب مع الدراري وألهتني بأربعة ريال «في تلك الليلة، لعبت مع الأطفال في رأس الدرب، لعبت كل الألعاب التي نعرفها، لعبت، لهوت، شقوت وتعبت، نام كل الأطفال الدنيا ولم تبق إلا القطط والسكالا الذي يُعرْعر «قرب السقاية» وأنا.
تحرك برد قارس ارتعشت له كل أوصالي، وزاد من حدة وقعه ذلك الجوع الوحشي الذي أخذ يفترس أمعائي، لم يعد إلا الظلام والصمت الذي لا يخرقه سوى ذلك الهدير المرعب لانكسار موج البحر على الصخور، أخذ النوم يغالب أجفاني، فعدت إلى المنزل، أقرع الباب على أمي، أقرع وأقرع ثم أقر.. وأقر.. وأ… وأيأس، فأعود أدراجي: في الطريق لفت انتباهي وجه أمي مريم، كانت تسأل ابنها سعيد ليذهب إلى رأس الدرب ويسأل عن أبيه، فقلت لها:
– زوجك سي محمد.
– نعم أوليدي،
– إنه غير موجود في رأس الدرب،
سكت هُنَيْهة وقلت لها ببراءة وعفوية.
– إنه عند أمي.
شهقت المرأة، ووضعت يدها على صدرها.
– ماذا؟
– إنه في الدار، يأتي عندنا كل سبت.
ولولت المرأة، وصاحت حتى هرع الجيران مذعورين و»فكانت المصيبة، كلمة واحدة جرت كل ذلك العذاب الذي لا يزال رسمه لاصقا بشفتين أحسه الآن حارقا ومؤلما».
طوقت ذراعي وراء ظهري وجثمت بكل ثقلها فوق صدري كأنها تريد أن تقلع روحي من جذورها، فامتنع الهواء أن يخرج أو يدخل إلى رئتي، وحطت «السفود» المحمر على شفتي، كنت أسمع «تش» «تش» «تش» وعندما رفعت «السفود» كانت شظايا من لحم شفتي تتبخر في الهواء، فتعالت صَيحاتي وصُراخي مُجلجلة في أرجاء البيت، لكنها كانت تضيع سدى، إذ لا أحد كان يجرأ على الاقتراب من أمي التي تبدو كالغولة، عندما يحتد غضبها «كان ذلك حدثا مهولا ولأول مرة أحس بجرثومة الحقد تنغل في دمي».
*************
عندما وجدت القنينات الخضراء الخمس، فرحت كما لم أفرح من قبل، فحملتها لبَّا مسعود، لكنه رفض أخذها عني، تعطفت لديه، رجوته، لكن بدون جدوى، ولما أزعجته حمل قنينة خمر من الداخل، وقال لي بحنق:
-»قارن بين هذي وهدوك، هذي فيها النجمة وهاذوك ما فيهومش»!
ثم نهرني، فعدت خالي الوفاض، أحمل القنينات وأسب في سري صانعها الذي لم يضع بها نجوما، لكي يشتريها با مسعود وأقبض أنا الثمن لأشتري «غريبة» من الأحباس، أنا أعرف جيدا، ممكن أن تكون هذه الزجاجات «منحوسات»، دعا فيها «مسخوط» الله يطيح نجمتك، كما كانت تفعل معي أمي، عندما يشتط غضبها، بل من المحتمل أنها كانت بنجمات ثلاث، عندما شربها أصحابها ولأن أنامل النحس – أناملي أنا – ويد الخراب، يدي أنا، ستلمسُها وتحملها لبّا مسعود، سقطت النجيمات ورفض الرجل أخذها عني «تفو».
وطوحت بالزجاجات وسط الطريق بعنف، مختزلا فيها حقدي وغضبي.
دنوت من السْكالا سلمت عليه فأمرني بالجلوس، امتثلت لرغبته، وأنا أتطلع إلى القنينة، قفز قلبي من شدة الفرح، إذ لمست النجمة فوق القنينة: «الحمد لله هذه الزجاجة لن يرفضها با مسعود.
رحت أتأمل القنينة بافتتان، بدت مثل عروس في كامل بهائها الأنثوي، بعصا سحرية ينقلني ألفها إلى أماكن قصية، جغرافية سرية للحلم، وكنت في أعماقي أشتهي أن يختم السكالا سهرته وينسحب إلى منزله «ليس الإشفاق هو ما كان يحرك اشتهائي، بل تلك القنينة ذات النجمة الخضراء، وقد كرهته بسبب البطء الكبير الذي كان خط السائل الأحمر ينزل به نحو قاع الزجاجة، فظللت أحثه في سري أن يشرب أكثر، شكوت للسكالا البرد القارس الذي يأتي من جهة البحر، والذي يمكن أن يسبب له آلاما في الظهر لكنه أجاب بلهجة العارف:
– هذا يسمى الغربي، أنت لا تفهم في هذه الأشياء، عقلك مثل الدجاجة لا يفقه في مثل هذه الأمور، تساءلت له في شبه ذهول:
– كيف؟
– الغربي والشرقي كانا صديقين، لكنهما تخاصما من أجل امرأة، فالغربي كان قد أغرم بمداعبة وجه هذه المرأة، فرجا من الشرقي عدم ملامسة وجه حبيبته لأنه يحدث فيه يبوسة وجفافا.
سكت برهة ليسترد أنفاسه ثم واصل:
– فهما يخرجان من قصبة واحدة تنفخ فيها الملائكة، ويتسابقان، حول من يصل الأول لملامسة وجه المرأة، في الصيف يكون الشرقي نشيطا مثل زنجي وفي الشتاء يفوز الغربي ويكون بطلا، فأنت ترى اليوم هو موعد الغربي مع المرأة.
أذنت الشمس بالمغيب، فسحقني الجوع، وتحطمت أعصابي، ومللت تخريف السكالا وحكاياه التي لم أكن أفقه فيها شيئا، قال لي:
– هل تعرف علاش كتقاقي الدجاجة عندما تضع بيضها، بدت في عيني الدهشة، فأردف:
– لأنها تفرح بابن فلوس سيزداد عندها.. مشروع ابن، لكن الإنسان يأتي ويبتلع البيض كالحنش، ترى كم وأد الإنسان من أرواح الدجاج بغير حق.
ثم قام ليتبول، قست المسافة بين السائل الأحمر والقاع، ثم مددت أناملي لألمس الزجاجة، لا أريد لهذه النجمة أن تسقط ولا أن ترجم شيطانا ما، أحب أن تبقى ثابتة هناك كتاج الملوك وكالثريا تشع بلألائها، أريدها أن تبقى مثل نجمة «شيريف» نجمة زاهية بدت لي أحسن من نجوم السماء كلها، فعلى الأقل هذه أستطيع لمسها وهي مصدر رزق الليلة، مددت بصري نحو السماء حيث النجوم الساهرة وتمنيت في سري لو كانت كل هذه النجوم فوق زجاجات خضر، لي وحدي أنا، أبيعها كلها لبا مسعود، لن يقول لا أبدا، وإذا سوَّلت له نفسه الضحك على ذقني، فسوف أرجمه بها ليغيب نحسه…
استفقت من شرودي على صوت ارتطام مدو .التفتت كانت شظايا الزجاج قد تناثرت بالقرب من الصخرة، وسكالا منبطحا فوق الأرض، كالتمثال، جامدا لا يتحرك، قد سقطت نجمته ونجمة الزجاجة.


الكاتب : عبد العزيز كوكاس

  

بتاريخ : 24/01/2020