شعرية التأمل القصصي في «هو الذي رأى» للقاص حسن البقالي

يغلب ظني أن القصة القصيرة جدا حقل سردي مفتوح باستمرار على الإضافات و التأسيس المتجدد ، من خلال تحويل وتطوير آليات البناء من تكثيف وإضمار وترميز ، فضلا عن المفارقة المدهشة …لهذا يبدو لي أن هذا المربع الصغير يتطور من الداخل أو تطور من داخل تشابكه الجمالي . النص بهذه الصورة يقتضي قاصا حاذقا وساحرا ينسج الخيط الوامض على حافة تأمل . كأن مبدع هذه الكبسولات يرقب العالم من كوة ضوء بعيدة وعميقة في المكان والزمان .
حضرتني هذه الفكرة المركبة وأنا أفتح وأتداول الإصدار المعنون بـ «هو الذي رأى « ( عن مطبعة بلال بفاس ). طبعا، المؤلف يجسد تطور خطوات الكاتب على أرض القصة القصيرة جدا والتي تابعتها سابقا ، فكنت أبحث هنا عن علاقة الكاتب ضمن هذه المربعات الصغرى ذات الأسئلة الكبرى، قلت أبحث عن علاقة الكاتب بآليات القص الوامض ومنها مساحة القص . في هذا السياق يبدو أن القصر لا يؤخذ بالمعنى العادي والمألوف؛ بل يتخذ أبعادا ، من خلال التأمل والمحاورة لنصوص ومتون شفوية ومكتوبة لشعوب وحضارات إنسانية ككل ، وكلها متون اقتضى حضورها مفارقات العيش والحياة ، إضافة إلى بناء النص في هذه المجموعة ، استنادا على أدراج بالمعنى الرمزي تفضي في الغالب إلى تصعيد ، يوصل لمفارقة صادمة ؛ تقتضي التأمل و المشاركة من القارئ، لكي يملأ الفراغات . إنها مربعات لا تحكي فقط ، في تركيز على المكتوب ؛ بل تتأمل ، ترى ، تشعر ..الشيء الذي حول هذه القصص إلى ورشات، تتخلق أمامك كمشاهد بحمولات بصرية و سمعية …لهذا يبدو لي أن هذا العمل، على تفرعاته الحكائية، منشغل بتشوهات ومفارقات العالم . وبالتالي فالمحتويات أو المنطلقات مجرد تعلات، لتمرير تأمل أو رفض. وقد يتم تقديم ذلك، وفق حلة لغوية شيقة يلفت النظر فيها الكاتب لكل الآليات السردية .
أثارني في هذا البناء مركزية السارد، لكن ليس بالمعنى التقليدي أي السارد العارف المحيط ؛ بل طريقة حكي تسوق الأشياء وبالأخص الشخوص . فالسارد هنا يقدم شخصية تحكي بدورها، إنها ثنائية في السرد، كل سارد يسلم المفتاح للآخر، في تبادل خلاق للأدوار والوظائف،من أجل استغوار القصة وفتحها كنوافذ ورسالات ساهمة . لكأن الأمر يقتضي في استقصائها الدلالي عدم الاكتفاء بالقشور أو التيمات المؤطرة في المكان والزمان ، بل الإمساك بالنواة المحددة للتمظهرات . ويمكن القول إن القصص هذه، تضعك بعد عبور الطبقات، أمام العبث واللا معنى الجاري على قدم وساق في هذا العالم ، نظرا للتشوهات والإعوجاجات التي تفضي إلى تشوهات في التصور أيضا لدى الأفراد ، بمن فيهم الشعراء والكتاب . فالكل يخوض حروبا لا تنتهي، كما تقر المجموعة ،من أجل لا شيء أو قل نزوة آنية . نقرأ من المجموعة قرص « حروب لا تنتهي « ص 80 ـ 81 : « عرفت إحدى المدن الصغرى ظاهرة غريبة :
كل ساكينها صاروا كتابا .. شعراء وقصاصيين وروائيين وسيناريست و مسرحيين وزجالين ونقادا
ولم يعد أحد يقرأ لأحد
انتهى الأمر إلى أن كل واد منهم صار مكتفيا بذاته ، وعدوا لدودا لكل من سواه .
كان طبيعيا أن يلجأوا إلى الأسلحة ، فاستبدلت الأقلام بالمسدسات ، وأوراق الكتابة بالخرائط والاستراتيجيات الحربية والتحالفات وحروب الشوارع والمتاريس والخيانات .
بعد زمن غير يسير .
نسي الجميع الدواعي الأصلية لحروبهم
نسوا الكتابة
وصاروا جنودا ومرتزقة . «
المجموعة ـ قيد التناول ـ التي سماها صاحبها ب « أقراص « قصصية ؛تبرز قلق الكاتب ضمن هذا النوع الشائك والخطر . قد يكون الأمر كذلك باعتبارها مربعات مضغوطة دلاليا و جماليا ؛ تستطيع معه تجرع هذه المربعات، ولكن يقتضي الأمر قارئا حاذقا عارفا بخيوط اللعب بالمعنى العميق للكلمة .كما يمكن التوقف في هذه القصص على تعددها في استعمال اللغة عبر أساليب مقامية خلقت جدلا يتشرب المفارقات ، كأن القصص تنبني على أفعال و أدوات . وبعد ذلك يأتي لحم القص طبعا . في هذا السياق فالكاتب يلفت النظر بالدقة المطلوبة للربط في شكليه بالأداة أو بدونها ، مكسرا بدهية « الواو « التي غدت حمار القصاصيين الجدد حتى فقدت تلك الأداة معناها . لا يمكن بتاتا بناء قصة على « الواو « فقط .استحضار الاستئناف والتراخي والاضراب ..ورد في نفس المجموعة قصة قصيرة جدا بعنوان « حالة مرضية « ص 31 : « لاحظ الطبيب الأعراض التي بدت علي :خفقان في القلب ، سوداوية المزاج ، شحوب وضعف جسدي عارم .
لكنه حار في تشخيص العلة :
ـ هل فقدت عزيزا في الأيام الأخيرة ؟
ـ بل هي القصص .
ـ القصص ؟
ـ القصيرة جدا التي قرأتها مؤخرا ، كانت منتهية الصلاحية . «
لا أخفي أني أعرف هذا الرجل الذي يشتغل في صمت بعيدا عن الأضواء والتكتلات التي لا تفضي لأي قصة . ويظهر ذلك جليا في منجزه الذي يعمقه على مستويا ت اللغة والتخييل والرؤيا ..هذا الجهد يقتضي طبعا إنصافا ،من خلال تداول وقراءة أعماله قراءة تفاعلية ،عوض الاستهلاك الذي طال الأدب أيضا . ولربما هذا أقصى ما يسعى إليه الكاتب الجدير بهذا الاسم : أن يكون مقروءا بعيدا عن منطق الكرسي والمؤسسة .


الكاتب : فوزي عبد الغني

  

بتاريخ : 18/10/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *