ضد النسيان

لم يعد بإمكاني أن أفكر. أعترف بأنني عاجز عن تقليب الأمور على وجوهها الكثيرة. أفكر فقط في النسيان الذي لا يجرؤ أي أحد على الاقتراب منه، أو تشويه سمعته، أو إبطال مفعوله القوي.
كثيرون منا يخرجون الأسلحة الثقيلة، ويعلنون علينا الويل والثبور، ويركبون الجياد، ويثيرون الغبار، ويطلقون السهام من علو غضبهم الشاهق، ويظنون أنهم خاضوا الحرب وعادوا سالمين غانمين، وأنهم ذادوا عن أحواضهم وأمنوها من كل خطر قادم، والحال أنهم كانوا يركبون المكانس، ويركضون بها نحو بطولات وهمية لا يراها سواهم، ويستمعون باطمئنان إلى عزف رديء يتناهى من الغرف المجاورة. لا يعرفون من يعزف، ولماذا يستمر العزف إلى ساعات متأخرة من اليقظة. يبتهجون ويعانق بعضهم بعضا في العتمة، لأنهم اعتادوا على الظلمة التي يراها العميان. يتحسس بعضهم بعضا بفرح، ويستعدون لحالات أخرى من الإغماء اللذيذ.. ليركبوا الخيول ويعودوا بالغنائم والأسلاب، ولا يعودون إلا بتلك السعادة المتكررة التي ليست بحاجة إلى أي تمويه.. إلى النسيان.. إلى تلك الضرورة التي يلاحقها عبيد المآتم والمآسي.
إننا ننتقل من مأتم إلى مأتم، لأننا قررنا أن ننسى.. أن نحارب دون أن نضطر للذهاب إلى الحرب.. أن نكون الجزء المعافى في التفاحة المتعفنة، وأن ننظر إلى أنفسنا بامتنان المعتاد. إننا ننسى لأننا لم نشيد حقيقتنا بأظافر الموتى. اكتفينا ببناء صروح عالية للكوارث، ونمنا بغبطة من ينتظر مرور السيل. نفعل ذلك باستمرار ودون انزعاج. نموت بإصرار تام على النسيان. ننجرف ونغرق ونموت. نحترق ونتأكسد ونموت. نتهاوى من الأعالي ونتحطم ونموت. نفعل كل شيء من أجل أن نتكرر في الموت، ونظن أن حقيقتنا محجوبة بضباب إلهي، وبأن النسيان هو الحل. إننا ننسى كمن يتبادل القبل أول مرة. ننسى بتعجل وارتباك، كأننا أحرزنا على بذور السرور. ننسى الكوارث، ونربيها وتخاف أن نفقدها، لأن سر وجودنا في تكررها، وفي يقظتها المباغتة كلما اعتقدنا أن ثمة خللا في الصورة.
إن انتعاش الصوت لا يسبب أي خسارة للنسيان، بل يرشوه ويجعله يزدحم بالقص واللصق والتركيب، وبذلك الإبهار الذي يمتحن قدرتنا على التحمل. نحن ننسى لأن لنا قدرة مذهلة على التعاقد الماكر مع الموت. وننسى لأننا نعرف أن عرق المواجهة مجرد مجاز!


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 11/09/2019