عبد الرحمان اليوسفي: «الإجماع» حين يكون استثناء

حين علمت بصدور مذكرات »عبد الرحمان اليوسفي« رئيس الوزراء المغربي (الأسبق) والذي يسمى في الأدب السياسي المغاربي الوزير الأول، بادرت بالسؤال عنها لاقتنائها، لما يمثله اليوسفي من رمزية وطنية وعروبية وحقوقية وإنسانية كبيرة، تكاد تكون نادرة في هذه الأيام، كي أطلع على تفاصيل أخرى من حياته ومحطات مهمة كنت أجهل الكثير عنها، وهو الأمر الذي تأكدت منه بعد قراءتي نصوص المذكرات التي صدرت في ثلاثة أجزاء وهي بعنوان »أحاديث في ما جرى« عكست ما جاء في الجزء الأول »شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة كما قال اليوسفي نفسه، والمقصود ببودرقة امبارك بودرقة (عباس) الذي يقول في مقدمته الموسومة محاولاتي مع بوح سي عبد الرحمان اليوسفي.

عندما قررت سنة 2016 نشر رسالة باريس للمرحوم محمد باهي حرمة ،وشرعت مع صديقي أحمد شوقي بنيوب في تجميع موادها من أرشيف صحافتنا، ووثائقنا، برزت لنا مواد أخرى ذات أهمية، كانت بدورها تتطلع للنشر، وتتمثل في مداخلات في الثقافة السياسية والذاكرة النضالية للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي.
ويشير بودرقة إلى أن ذلك حلم راوده لفترة قاربت عقدين من الزمن، وكثيرا ما حاول إقناع اليوسفي بتدوين سيرته، خصوصا أدواره ومواقفه في الحركة الوطنية وفي المقاومة وجيش التحرير في ما شهده المغرب من أحداث جسام بعد استقلاله، لكنه كان يقابل الإلحاح بالصمت أو بابتسامة عريضة تلك التي لا تفارقه، والحاملة لكل المعاني والتأويلات التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن.
ويبدو أن المذكرات ما إن صدرت حتى نفدَت، لأن كثيرين كانوا ينتظرونها بشوق مثلي وعلى أحر من الجمر كما يقال، وكنت قد سمعت عن عبد الرحمان اليوسفي وشاهدته لأول مرة حين حضر إلى بغداد في ربيع عام 1968 للمشاركة في الحفل التأبيني للشخصية الديمقراطية الكبيرة كامل الجادرجي، الذي أقيم في قاعة الخلد ببغداد، والذي كتبت عنه في جريدة المستقبل اللبنانية يوم 13 مارس 2008 مايلي:
أتذكر ذلك المساء الربيعي، يوم الجمعة 12 أبريل عام 1968 حين بدأ الحفل في قاعة الخلد ببغداد وامتد إلى حدائقها لتأبين وتكريم كامل الجادرجي المفكر الديمقراطي – الليبرالي، ولعل المفارقة التاريخية يوم اقترب التأبين من يوم مولده المصادف 4 أبريل 1897، حيث اجتمع عند تكريمه رجال فكر وقادة من المشرق والمغرب، إضافة إلى كوكبة لامعة من الشخصيات الوطنية العراقية، الأمر الذي يثير سؤالا حارا هو كيف يصبح الاستثناء قاعدة وتلتقي عندها التيارات المتصارعة بما فيها الشمولية أيضا؟ افتتح الحفل بكلمة لرفيق عمره و نائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي محمد حديد.
كان مصطفى البارزاني، الزعيم الكردي العراقي حاضرا بشخص صالح اليوسفي، رئيس تحرير جريدة التآخي، واعتلى المنصة الزعيم اللبناني كمال جنبلاط، لينقل تحية الأرز إلى النخيل، ثم ألقى يوسف السباعي تحية شعوب آسيا وإفريقيا، وأعقبه العلامة آغا بزرك الطهراني من الحوزة العلمية في النجف، ووصلت برقية الكنانة والأهرام إلى بلاد سومر وبابل وأرض الرافدين وكانت باسم خالد محي الدين وألقيت كلمات للفريق عفيف البزري وبرقية شفيق رشيدات ورسالة من أحمد بهاء الدين، كما تحدث في الافتتاح الدكتور صفاء الحافظ، باسم أساتذة الجامعة، والأديب والمفكر اللبناني حسين مروة وكان عبد الرحمان اليوسفي الشخصية المغربية البارزة، قد وصل لتوه، ومن الطائرة إلى الاحتفال (ليلقي كلمته المؤثرة) واختتم الحفل بكلمة عائلة الفقيد ألقاها نجله رفعت الجادرجي.
وبالعودة إلى مذكرات اليوسفي، فقد جربت السؤال عنها في طنجة فلم أجدها، وفي الدار البيضاء في سفرة اخرى> فقيل لي ستجدها في الرباط، وخابت جميع محاولاتي وآمالي في الحصول عليها في جميع المكتبات التي سألت عنها، وكان صديقي الأكاديمي والروائي والكاتب الدكتور محمد المعزوز قد وعدني بتأمين نسخة منها، ولكن الدكتور خير الدين حسيب حين عرف برغبتي بالاطلاع عليها، بادر بتقديمها لي مشكورا ،وهي مهداة له من المؤلف ذاته وبخطه وبتوقيعه. وبالمناسبة، فإن اليوسفي يرتبط بعلاقات صداقة حميمة مع عدد من الشخصيات العراقية في مقدمتهم أديب الجادر وقد تزاملا في عملهما في جنيف وفي إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان.

II

لعل من خصال اليوسفي وشخصيته الأثرية كما تقول مقدمة بودرقة وما تكشفه نصوص المذكرات ذاتها، وما عرفناه عنه، انه كثير التأني والتأمل وقليل البوح وبقدر صبره وطول نفسه وتحمله للشدائد، فقد كان أيضا دقيقا في اختيارات جمله ومفردات خطابه التي يحرص على تدوينها وتوثيقها لاأه لا يريد الارتجال أو لردود الفعل الآنية أن تأخذ مكانها عكس ما يرغب به المرء أحيانا. ومع كل التردد والانتظار، وافق أخيرا. وبعد نأي على محاولات بودرقة المتكررة ومخاطباته المتعددة لتدوين سيرته أو لنقل بعضا منها، وهكذا شرع الأخير بتجميع وتوقيق واستكمال نتاجات ونشاطات اليوسفي المتنوعة التي غطت مرحلة تاريخية كاملة، سواء على صعيد الفكر أم السياسة أم حقوق الإنسان أم القانون أم الإدارة أم الصحافة. وقد خصص الجزء الثاني والثالث من مذكراته لرؤيته الاستراتيجية على مستوى الفكر والمواقف والتحليلات السياسية خصوصا وهو من الموقع الأول في الدولة.
ومن عمق الذاكرة الحية والمتوقدة لرجل تجاوز التسعين (مواليد 8 مارس 1924)، أمكن رفد المكتبة المغاربية بشكل خاص والعربية بشكل عام، بمادة حية وزاخرة لمفكر رؤيوي وسياسي استراتيجي وصاحب رأي ووجهة نظر في التحول الديمقراطي، ومناضل مشهود له في ميدان حقوق الإنسان، وهذه المادة ليست سوى ذخيرة أولية يمكن قراءتها بعناوينها الأساسية والاستناد إليها بالتوسع والتعمق لفضاء أرحب للمغرب بشكل خاص والعالم العربي بشكل عام، بل على مستوى السياسة والفكر العالميين، بما فيها ملابسات المنظمات الدولية الكبرى.
ولعل أهمية قراءة هذه المذكرات أنها تعطي القارئ فكرة تكاد تكون مدهشة عن عملية ديناميكية متواصلة، طرفاها: السلطة والمعارضة، بما فيها من تداخل وتخارج واتفاق وتعارض وتواصل وتباعد، لكنها عملية متفاعلة تنطلق بالأساس من روح الشعور بالمسؤولية الوطنية والواجب الإنساني والاعتبارات الأخلاقية في إطار اجتهادات خاصة لكل منهما، دون نسيان المشتركات التي تجمعهما تحت »الخيمة الوطنية« ولذلك كان كل طرف على الرغم من الجفاء أحيانا يسعى لمد جسور من الثقة مع الطرف الآخر الشريك في الوطن حتى وإن بدت الضفتان متباعدتين.
وبالفعل، تم بناء هذه الجسور بعمل مضن في ظروف قاسية، لكن تحقيقه وإن كان صعبا وبدا في فترة ما مستحيلا، إلا أن روح الشعور العالي بالمسؤولية والحرص على تطور البلاد باتجاه التحول الديمقراطي، هو الذي ساد في نهاية المطاف. وهذا ما حصل. وهكذا انتقل اليوسفي من المعارضة إلى المشاركة، ومن الرفض إلى النقد، ومن المطالبة بتغيير النظام إلى تحمل المسؤولية للمشاركة في إدارته والمساهمة في إصلاحه، والعمل من أعلى موقع في الدولة لتقديم رؤية جديدة تتعلق بالتطور السلمي استجابة لمتغيرات داخلية وعالمية.
وقد أسهم هذا التطور في ثلاث جهات اساسية:
أولها – توفر إرادة ملكية سامية بالانتقال السلمي للديمقراطية والعمل على تطويرها بخطوات تدرجية وتراكمية.
وثانيها – مجتمع مدني ناشط وأجواء حقوقية مساعدة راصدة وناقدة وتسعى لتكون »قوة اقتراح« وليس »قوة احتجاج«، فحسب، بل تبذل ما في وسعها لكي تكون شريكا في اتخاذ القرار وفي تنفيذه لتحقيق التنمية المنشودة.
وثالثها – حركة سياسية وطنية التقت رؤيتها مع الإرادة الملكية العليا ومع تطلعات المجتمع المدني، ويضاف إلى كل ذلك شجاعة من جميع الأطراف بمواجهة الصعوبات ومجابهة التحديات للوصول إلى المشترك الذي يخدم البلاد والعباد ويطمح للحاق بركب البلدان الديمقراطية تأسيسا علىِ قيم إنسانية مشتركة، وفقا لثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الاول – تجاوز مآسي الماضي وفتح صفحة جديدة من العلاقات بين الأطراف المعنية في إطار مسار طويل الأمد ونضال متعدد الجهات والوجوه والأشكال.
والاعتبار الثاني – تطبيق معايير العدالة الانتقالية وفقا للظروف المغربية، سواء بكشف الحقيقة أم بالمساءلة أم بجبر الضرر أم بالتعويضات للوصول إلى إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني ووضع آليات لمنع تكرار ما حصل، والهدف هو تحقيق المصالحة الوطنية، في إطار الاعتراف والتسامح بعيدا عن الانتقام والثأر والكراهية. وتعتبر التجربة المغربية بسياقها التاريخي أولى تجارب العدالة الانتقالية في العالم العربي، علما بأن بعض من تولى مسؤولية قيادة مثل هذا التحول الحقوقي المهم هم من ضحايا العسف سابقا الذين شاركوا بفاعلية في عملية التحول الديمقراطي، أذكر منهم الصديق ادريس بن زكري الذي قضى 17عاما في السجن، وكنت قد أهديت له كتابي “الشعب يريد.. تأملات فكرية في الربيع العربي” (2012) وكان قد غادرنا قبل هذا التاريخ.
أما الاعتبار الثالث – فهو التطلع للمستقبل، خصوصا باحترام معايير حقوق الإنسان والشرعية الدولية، والانضمام إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وإطلاق حرية التعبير والحريات الديمقراطية، بما فيها الحق في التنظيم الحزبي والنقابي والاجتماعي والحق في الشراكة والمشاركة وعدم التمييز. وقد كانت للتغيرات الدستورية في المغرب التي حصلت بعد فترة ما سمي بالربيع العربي أن أرست قواعد دستورية جديدة لأفق تطور لاحق للانتقال الديمقراطي توجت بدستور عام 2011 .
وكانت فترة إدارة اليوسفي قد أسست لمثل هذا التطور، وكنت شاهدا وراصدا عليها، وداعما لها بالمقترحات والمشاورات، خصوصا من خلال وزير حقوق الإنسان الصديق محمد أوجار، الذي أسهم بحيوية واقتدار في تحمل مسؤولياته ما أهله اليوم ليكون وزيرا للعدل. وخلال رئاستي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن كنت قد استضفته (أواخر التسعينات) في محاضرة بجامعة سواس في لقاءات مع الجالية العربية ومع جهات رسمية ودولية عديدة لشرح آفاق التجربة المغربية، مثلما التقيت بالوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي أكثر من مرة خلال رئاسته للوزارة، وهو ما سيرد ذكره في هذه المداخلة.

III

ولد عبد الرحمان اليوسفي يوم 8 مارس 1924 في مدينة طنجة، وتلقى تعليمه الأولى بها، وكانت طنجة حينها تخضع لنظام دولي بعد ثورة الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي. خلال عمله النضالي، تعرض للسجن والتعذيب، واضطر للعيش في المنفى 15 عاما . وعاد إلى المغرب عام 1980 بعد لقاء والدته مع جلالة الملك الحسن الثاني بطلب من الأخير، سألها في آخر اللقاء عن أي طلب لها، فقالت له أريد عودة “ولدي”، وهذا ما حصل حيث كان قد صدر عفو عنه.
وكان عبد الرحمان اليوسفي على علاقة وطيدة مع المهدي بن بركة، الذي اختطف من باريس عام 1965 واختفى قسريا منذ ذلك الحين، ويتحدث في مذكراته بإعجاب عنه منذ أن تعرف عليه عام 1943 فيذكر قدراته التنظيمية والحوارية وديناميكية وطاقته العالية وفكره المتنور، وكان في ذلك التاريخ قد انخرط معه في حزب الاستقلال.
ومن الطرائف التي يذكرها اليوسفي في مذكراته أنه ظل متمسكا بالطربوش والجلباب التقليدي في مراكش والرباط، لكنه تخلى عنهما بعد حادثة عرضية منذ عام 1944، وعاد لارتدائهما في مناسبات بروتوكولية عام 1998 بعد تعيينه وزيرا أولَ من طرف الملك الحسن الثاني.
ويستذكر اليوسفي عمله في الحركة الوطنية، وفي تنظيم الخلايا النقابية العمالية التي شكلت بذورا للمقاومة في الحي المحمدي، وكانت تنشط في إطار »الاتحاد العام للنقابات المغربية« التي يشرف عليها كما يقول، مناضلون من الحزب الشيوعي الفرنسي (في الأربعينات).
ويروي اليوسفي عن لقائه الأول بعبد الرحيم بوعبيد (1949/1950) في باريس، وكان بوعبيد قد اعتقل عام 1944 وقضى سنتين في السجن، ثم ذهب هو الآخر إلى باريس لإتمام دراسته، وكان مسؤولا عن حزب الاستقلال فيها، ويستذكر انعقاد دورة للجمعية عامة للأمم المتحدة في باريس (1951) ولقاءه بعبد الرحمن عزام، “امين عام جامعة الدول العربية”، الذي ساعده في طرح القضية المغربية على العديد من الوفود العربية، لكن السلطات الفرنسية شعرت بعدم الرضا وقامت بطرده، وكان يومها مسؤولا عن الطلبة.
ولكن الملك محمد الخامس احتج على قرار الطرد والاحتجاز لدى السلطات الفرنسية، ثم تم تنسيبه إلى قياد مكتب القاهرة، وسعيه للحصول على جواز سفر مصري، لكن نجاح ثورة 23 يوليوز 1952 حال دون ذلك. واضطر اليوسفي للعودة إلى طنجة (1952) ويستذكر الإضراب الذي تم تنظيمه في المغرب تضامنا مع تونس بعد اغتيال مجموعات متطرفة فرنسية القائد النقابي التونسي فرحات حشاد (1952)، وتعرض التظاهرات الحاشدة لقمع قوات الاحتلال الفرنسي، وخصوصا في الدار البيضاء.
وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد محتلة من الفرنسيين، كان الشمال المغربي محتلا من طرف اسبانيا. وكانت المقاومة المغربية تتركز في الشمال، وحين انطلقت الثورة الجزائرية عام 1954، استفادت من هذا الفضاء الذي وفرته المقاومة المغربية، ويستذكر اليوسفي عودة الملك محمد الخامس إلى المغرب 1955، ويشير إلى التنسيق بين قادة المقاومة في المغرب والجزائر، والبحث عن أسلحة ومعدات لدعم جيش التحرير المغربي والجزائري وبمساعدة الأجهزة المصرية في ذلك عبر أحمد بن بلة الذي كان يمثل الثورة الجزائرية ومعه محمد بوضياف ومحمد العربي بالمهيدي.
ونقلت الأسلحة من الإسكندرية بباخرة تدعى دينا وصلت إلى مدينة الناظور المغربية (28 فبراير 1955) وكان على ظهرها محمد بوخروبه وهو الإسم الحقيقي ل »هواري بومدين« الذي كان يتابع دراسته بالأزهر الشريف.
وكان ربان السفينة شاب يوغسلافي اسمه ميلان، عاش في الإسكندرية هو وزوجته وابنته. وحين حصل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، تطوع للدفاع عنها، فاستشهد في بورسعيد، حين انخرط مع المقاومة المصرية أثناء قيامه بإحدى العمليات. وكان الأمير مولاي الحسن قد زار مصر بعد تأميم قناة السويس وتفقد عائلة ميلان الذي غامر بحياته لقيادة الباخرة التي نقلت الأسلحة إلى المقاومة المغربية والجزائرية، وقدم لها هدايا رمزية، كما يذكر اليوسفي، وقد تزوج الأخضر الابراهيمي الشخصية الجزائرية الوطنية والدبلوماسية من ابنة ميلان واسمها مليكا.
ويشير اليوسفي إلى أن المجلس الوطني للمقاومة كان يترأس اجتماعاته علال الفاسي، وبغيابه يتولى المهمة عبد اللطيف بنجلون. ويذكر أن الفقيه محمد البصري كان من أنشط عناصر هذا المجلس، وهو ما أهله ليكون رئيسا له، وأعلن عن »ثورة الملك والشعب«، وفي الذكرى الثانية لها (1957) انتقد البصري انزلاق البلاد نحو الاستعمار الجديد بسبب سياسة الاستيطان الفرنسية، و يشير إلى الخلافات داخل حزب الاستقلال التي قادت إلى تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ( 1959) وذلك اعتمادا على العناصر الشابة ذات التوجه التجديدي.
ويروي عبد الرحمان اليوسفي قصة اختطاف القادة الجزائريين الخمسة يوم 22 اكتوبر 1956، حين أقلعت طائراتهم من المغرب إلى تونس، حيث اعترضتها المقاتلات الحربية الفرنسية، والقادة الخمسة هم أحمد بن بلة وحسين آية احمد ومحمد خيضر ومحمد بوضياف ومصطفى الأشرف. وقد توجهوا إلى تونس لحضور الندوة المغاربية التي شارك فيها الملك محمد الخامس والحبيب بورقيبة، وكان اليوسفي، كما ينقل، قد رافقهم خلال وجودهم في المغرب، كما دافع عنهم لاحقا كمحامي انتدبته الحكومة الثورية المؤقتة للثورة الجزائرية، وبالتضامن من جانب قادة المقاومة المغربية.
وبالطبع قضى القادة الخمسة نحو ست سنوات في السجون الفرنسية، وأطلق سراحهم في 19 مارس 1962 عشية محادثات ايفان وقبيل استقلال الجزائر بنحو 3 أشهر.

IV

في عام 1959 حجزت السلطات المغربية جريدة »التحرير« التي كان رئيس تحريرها عبد الرحمان اليوسفي واعتقلته، كما اعتقلت الفقيه محمد البصري بالدار البيضاء، إثر افتتاحية للجريدة، ونقل إلى »سجن لعلو« وقد أضرب عن الطعام مما اضطر إدارة السجن إلى استدعاء طبيبين لعلاجه، وقررا نقله إلى مستشفى ابن سيناء بالرباط، وتم إطلاق سراحه بعد أسبوعين، وبقي البصري نحو ستة أشهر.
بعد خروجه من المعتقل، التقى بالملك محمد الخامس في ديسمبر، 1959 في جنيف، وكان هذا آخر لقاء، حيث توفي الملك بعد ذلك كما يذكر اليوسفي في 26 فبراير 1961 وتولى الأمير الحسن الذي أصبح الملك الحسن الثاني مقاليد العرش في مارس 1961.
ويذكر اليوسفي الصراعات التي أعقبت تولي الحسن الثاني إدارة البلاد، ابتداء من الاستفتاء على دستور عام 1962 ومروا بإشكالات المجلس الدستوري والانتخابات التشريعية، تلك التي يتناولها بمرارة حيث تمت الإطاحة به فيها، وكان الحزب قد رشحه عن طنجة، بينما نجح جميع اعضاء الأمانة العامة للاتحاد الوطني للقوى الشعبية، وقد شهدت تلك المرحلة حملة ضد الصحافة وحرية التعبير، إضافة إلى حملة من الاعتقالات تعرض لها العديد من المناضلين (حوالي 100 ) بإشراف الجنرال محمد أوفقير (مدير الأمن الوطني آنذاك) والرائد احمد الدليمي. وقد تم تقديمهم للمحاكمة، وصدرت الأحكام بإدانتهم (1964) لاتهامهم بمؤامرة مزعومة،. بينهم من حكم عليه بالإعدام (11 من المتهمين)، وجاهيا وغيابيا، والقسم الآخر بأحكام غليظة. وحكم على اليوسفي بسنتين مع وقف التنفيذ.
ويقول اليوسفي إن هناك محاولة أولى للتناوب ابتدأت في ذكرى 20 غشت 1964، حيث أصدر الملك الحسن الثاني عفوا بتحويل بعض الأحكام من الإعدام إلى السجن المؤبد، ثم إطلاق سراح 65 معتقلا بمن فيهم الفقيه البصري وعمر بنجلون ومؤمن الديوري.واستقبل الملك عبد الرحيم بوعبيد وأبلغه بالتفكير بتكوين حكومة وحدة وطنية. وأرسل ابن عمه مولاي علي لإقناع المهدي بن بركة بالعودة إلى المغرب. وتم اللقاء في فرانكفورت، وابدى بن بركة تحفظاته حول الجنرال أوفقير وعصابة الإجرام كما يسميها اليوسفي، لكن اختطاف المهدي بن بركة يوم 29 أكتوبر 1965 بدد تلك المحاولات، وأدخل البلاد في دوامة جديدة من الصراع، وشغل الرأي العام الوطني والدولي.ولايزال مصير بن بركة مجهولا حتى الآن. وكان الرئيس ديغول قد اتهم أوفقير بالضلوع في العملية حسب ما يذكر اليوسفي.

V

يروي اليوسفي جانبا آخر من حركته في المنفى، وهو متابعة دراسته واهتمامه بحقوق الإنسان وعمله في إطار اتحاد المحامين العرب (الأمين العام المساعد) ويشير إلى مشاركته بتأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليماسول (قبرص) 1983 والدفاع عن المناضلين الفلسطينيين أمام المحاكم الأوروبية وكذلك ضد الجرائم التي ترتكب في الفيتنام، كما عمل في إطار منظمة التضامن الافرو آسيوي (الابسو).
وبعد صدور عفو عنه عام 1980 عاد إلى الوطن، وكان قد تعرف على زوجته كما يقول »هيلين« في عام 1947 بمدينة الدار البيضاء كما يذكر، وهي من أصل يوناني، وسكن والدها الخياط في المغرب. بعد أن عاشت العائلة في فرنسا، وقد تزوج منها بعد 21 عاما من التعرف الأول عليها، حيث انتقلت العائلة إلى مدينة »كان« الفرنسية.
يتناول اليوسفي قيادة عمر بن جلون ثم عبد الرحيم بوعبيد للاتحاد الوطني للقوى الشعبية، ومن بعد قيادته، وتعيينه وزيرا أول بعد استقباله الملك الحسن الثاني بالقصر الملكي بالرباط الأربعاء بتاريخ 4 فبراير 1998 وخاطبه الملك قائلا: إنني أقدر فيك كفاءتك وإخلاصك وأعرف جيدا منذ الاستقلال أنك لا تركض وراء المناصب، بل تنفر منها باستمرار، ولكننا مقبلون جميعا على مرحلة تتطلب بذل الكثير من الجهد والعطاء من أجل الدفع ببلادنا إلى الأمام حتى نكون مستعدين لولوج القرن الحادي والعشرين.
ويشير اليوسفي إلى الثقة الكبيرة والواعدة من جانب الملك الذي قرر أن يجعل التناوب لا مجرد تناوب أشخاص أو أحزاب، بل بداية مسيرة جديدة خصها جلالته بقسم خاص.
وقد فتحت تلك الخطوة ديناميكية جديدة في المسار السياسي للمغرب، وأغلقت الصفحات السابقة بما فيها من صراع ومآس، وهو الأمر الذي شهد تطورات لاحقة لتعزيز التوجه الديمقراطي، خصوصا ببناء أعراف جديدة وتفعيل ثقة المواطن بالدولة ومصالحة الشعب مع الحكومة. وعلى الرغم من أن الحكومة كانت مدعومة بثقة الملك، لكنها تعرضت لتحديات عديدة وواجهتها صعوبات داخلية وخارجية، بما فيها بعض التوجهات من داخل الحزب الذي يقوده اليوسفي الذي أصر على أنها تجربة علينا أن نخوضها كاجتهاد، وهو ما حاولت ان أحاوره فيه.
وكانت وفاة الملك الحسن الثاني في 23 يوليوز 1999. وأتذكر ذلك اليوم جيدا، حيث كنا باجتماع خبراء حقوقيين وعددنا 19 خبيرا في أثينا. وكان الأخ عبد العزيز البناني بيننا، و إذا بتلفون يأتيه فيتجه إلى زاوية من المكان الذي كنا نجتمع فيه والحزن والألم ظاهران عليه، ومن الحاضرين: بهي الدين حسن (مصر) هيثم مناع (سوريا) محمد السيد سعيد (مصر) امين مكي مدني (السودان) خضر شقيرات وراجي الصوراني (فلسطين) وكاتب السطور (العراق)، وأبرقنا إلى اليوسفي نعزيه.
واستمر اليوسفي حتى تم إجراء الانتخابات في 27 شتنبر 2002 بعد مبايعة الملك محمد السادس وكانت تلك الانتخابات الأكثر نزاهة وهي بإشراف حكومة التناوب التوافقي، أو يمكن القول الأقل تزويرا حسب تأكيدات الصحافة العالمية بما فيها لوموند الفرنسية ومنظمات دولية معتمدة.
وكان اليوسفي قد قرر الاعتزال بعد ذلك بنحو عام في اكتوبر 2003، فكتب استقالته من الحزب وسلمها إلى الصديق المحامي (رئيس نقابة محامي الرباط) محمد الصديقي (عضو المكتب السياسي) كما أبلغ عبد الواحد الراضي بنقل رسالة استقالته إلى أعضاء المكتب السياسي، مقدما تجربة رائدة على مستوى تحمل المسؤولية بنزاهة منقطعة النظير ونكران ذات وشعور وطني صادق.
ويشير الجزء الأول من المذكرات إلى بعض المعالجات التي أقدمت عليها حكومة اليوسفي مثل الضمان الصحي وتشغيل الشباب من حاملي الشهادات العليا وترسيخ الانتقال الديمقراطي، والأهم من ذلك مسار العدالة الانتقالية الذي تميزت به التجربة المغربية، كما احتوت على عدد من الملاحق المهمة التي هي تحتاج إلى قراءة خاصة.

VI

وكنت قد جئت على لقاء خاص جمعني باليوسفي (ابريل 1999) في منزل المحامي عبد العزيز البناني) وقد نشرته في كتابي الموسوم (سعد صالح: الضوء والظل – الوسطية والفرصة الضائعة، والمنشور في بيروت عام 2009 والمطبوع ثانية في بغداد 2012، و أحاول أن أنقل بعض الفقرات الخاصة منه والتي جاءت بعنوان »استعادة تاريخية« حيث ورد فيه:
في حديث جمعني في كازابلانكا »الدار البيضاء عام 1999« مع عبد الرحمان اليوسفي وكان حينها قد تولى رئاسة الوزراء »الوزير الأول« كما سمي في المغرب العربي بعد أن كنت قد تعرفت عليه عندما كان رئيسا لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو من الشخصيات الحقوقية المؤثرة، حيث عمل في المنظمة العربية لحقوق الإنسان وفي اتحاد الحقوقيين العرب، ثم قبل تكليفا ملكيا بتولي رئاسة الوزراء. وكان اليوسفي قد طلب اللقاء مع نخبة من زملائه العاملين في الإطارين ذاتهما، على دعوة عشاء نظمها الاستاذ عبد العزيز البناني في بيته، يومها تحرك فيّ الهاجس الصحفي لسببين: الأول هو كيف يمكن لمعارض وطني قضى أكثر من ثلاثة عقود في المنفى أن يتبوأ رئاسة وزارة في عهد مازال مستمرا، وكان من أشد المعارضين له، بل داعيا لإلغائه؟ والثاني كيف يفهم السياسي الوطني معارضته من خلال هيكل الدولة وكيف يمكن التعامل معها؟
بادرت حينها إلى اثارة النقاش بسؤال الوزير الأول: ألا تشعر أحيانا بالغربة أو الاغتراب، يا »دولة« سي عبد الرحمان، وأنت في هذا الموقع؟ وكان جوابه،نعم وإلى حدود غير قليلة، لكن شفيعي أن جزءا من خطابي مازال معارضا، وهو ما كنت ألمسه في أحاديثه وخطبه التي تابعتها لأكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، بما فيها عندما استقبل عددا محدودا من الذين يرتبطون بعلاقة أو معرفة معه في منزله وكنت بينهم، الذي رفض البقاء فيه رغم طلب الملك نفسه، لكنه عاد إلى شقته التي كان يسكنها قبل توليه الوزارة، وبعدها أردف اليوسفي قائلا: لقد كنا نعارض الدولة من خارجها وربما بعض معارضتنا الآن من داخلها ، وهي تجربة اخترناها بالأغلبية رغم تحفظ بعض الأصوات، وعلينا اجتيازها، نأمل أن تكون مفيدة وناجحة، وهي تجربة مفتوحة للزمن للمناقشة والتقييم.
وقال اليوسفي كنا نعتقد أن بعض الملفات يمكن ان نفتحها بيسر وسهولة وإذا بها مغلقة أمامنا، وبعضها اعتقدنا بصعوبة فتحها وإذا بها مفتوحة أمامنا، بل إننا استطعنا المضي فيها إلى حدود كبيرة، بما فيها ملفات التعذيب والمساءلة وجبر الضرر والتعويض، فضلا عن إعادة النظر في بعض القوانين وتشريع قوانين جديدة.
استذكرت أثناء حديثه سعد صالح، وأنا أعد كتابا عنه، فسعد صالح عندما انتقل إلى المعارضة، جاء إليها من موقع الدولة، والمعرفة بشبكة علاقاتها المركبة والمعقدة ولا سيما مواطن الخلل والضعف فيها، لا معارضة بالشعارات حسب، ولعل المعارضة ليست وظيفة دائمة، كما أن الحكم ليس هدفا بحد ذاته أو وظيفة مستمرة، وعلى السلطة والمعارضة، فيما إذا توفرت فرصة التناوب والتداول والانتخاب، انتظار رأي الناس ببرامجهم و مشاريعهم السياسية، فذلكم هو ما ندعوه ب »التجربة الديمقراطية« في الدول العصرية المتقدمة. التجربة إذن معيار أساس في المعرفة ولفحص وتدقيق النظرية، والتأكد من صواب وصحة ومدى انطباق الممارسة وسيرها بخط متواز مع النظرية.
وإذا كان سعد صالح قد انتقل من موقع المسؤولية في الحكم إلى موقع المعارضة،فقد ترك بصماته وختمه على الحياة السياسية، فمن كان يتصور أن بإمكان مسؤول ما أن يبادر إلى اتخاذ إجراءات تتعلق بإجازة أحزاب معارضة راديكالية وإلغاء السجون وإطلاق سراح المعتقلين، وإطلاق حرية الصحافة، لكن سعد صالح كان قد قرأ الوضع الدولي جيدا لاسيما بعد هزيمة الفاشية واتساع نطاق الأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان وبخاصة بعد إبرام ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 وبالتساوق مع بعض إرهاصات الوضع الداخلي (ومثل هذا الأمر قام به عبد الرحمان اليوسفي حين قرأ اللحظة التاريخية وقرر بشجاعة خوض التجربة) وهو ما يدخل في إطار علم السياسة التنبئي حيث يضع الجميع أمام مسؤولياتهم.
في الختام أقول إن اليوسفي جمع في شخصه الاستقامة الشخصية والنزاهة والأخلاقية، إضافة إلى قوة المبادئ وصلابة الرأي، فضلا عن قدرته على التقاط الجوهري من الأشياء، لاسيما اللحظة التاريخية. و تعكس مذكراته الإيمان الحقيقي بقيم الحرية وحقوق الإنسان واحترام الرأي والرأي الآخر في وقت كانت فيه الأفكار الشمولية هي السائدة، مثلما تظهر الغنى الروحي والثراء المعنوي.

(*) باحث ومفكر عربي


الكاتب : عبد الحسين شعبان (*)

  

بتاريخ : 20/04/2019