عبد الرحمن اليوسفي: أول لقاء لي مع عبد الرحيم بوعبيد

استمر نشاطي الحزبي والجمعوي في مدينة الدار البيضاء، من شهر يوليوز 1944 إلى غاية نهاية السنة الدراسية 1949. وإلى جانب هذا العمل التطوعي، كنت أمارس مهنة التعليم في المدارس الحرة لسد الحاجات الضرورية اليومية، وفي نفس الوقت، كنت أثابر على متابعة دراستي، حيث اجتزت امتحاني الباكالوريا الأولى والثانية بنجاح، وتسجلت بكلية الحقوق وتمكنت من اجتياز امتحانات السنة الأولى والثانية بها بنجاح أيضا. طيلة هذه الفترة كنت أشتغل كأستاذ أناضل بالنهار، وفي المساء كنت أحضر الدروس الليلية، وبفضلها استطعت الحصول على شهادتي الباكالوريا وبلوغ السنة الثانية في كلية الحقوق. لأن إدارة ثانوية مولاي يوسف بالرباط رفضت تحويل ملفي المدرسي لأي ثانوية بمدينة الدارالبيضاء، وتشبثت بهذا الرفض دون إعطاء أي مبرر.
وعندما كنت أستعد سنة 1949، للتسجيل في السنة الثالثة والأخيرة بالكلية، ألح علي الإخوان في الحزب، أن أتوجه إلى فرنسا، لإنهاء دراستي الجامعية وكان أكثرهم إلحاحا، المرحوم الحوس الباز. وهذا ما قمت به فعلا، ولايزال تاريخ السفر لباريس لمتابعة السنة الجامعية الأخيرة في كلية الحقوق عالقا بذهني، لأنه يصادف اليوم الذي سقطت فيه الطائرة الفرنسية بجزر «الأصور» التابعة للبرتغال بالمحيط الأطلسي في رحلتها بين باريس ونيويورك وكان من ضمن ضحايا الحادث، بطل الملاكمة الفرنسي ابن الدار البيضاء «مارسيل سيردان» Marcel Cerdan.
هناك التقيت لأول مرة، عبد الرحيم بوعبيد سنة 1949-1950، عندما وصلت إلى فرنسا لإتمام دراستي هناك، وكنت على علم أن هذا الأخير مع المهدي بنبركة، من الجيل الجديد والحديث من قياديي الحزب. كان عبد الرحيم، قد اعتقل سنة 1944 حيث قضى سنتين في السجن، ثم عاد بعدها إلى باريس لإتمام دراسته، وكان أيضا بالإضافة إلى ذلك، المسؤول الأساسي كممثل  لحزب الاستقلال ويرأس فريق المناضلين الذين كانوا على اتصال دائم مع القادة السياسيين الفرنسيين والصحافيين.
كان من ضمن هذه المجموعة التي يشرف عليها عبد الرحيم بوعبيد، كل من عبد اللطيف بنجلون، بومهدي، مولاي أحمد العلوي، وغيرهم. وكانت من مهامهم الأساسية، أولا الاتصال بالجالية المغربية الموجودة بفرنسا والقيام بمحاربة الأمية في وسط العمال المغاربيين، والعمل على تكوينهم الوطني والسياسي، ومساعدتهم على حل مشاكلهم والاتصال بالعديد من الصحف والمجلات الفرنسية لتحسيسهم بنضالات الشعب المغربي وطموحاته إلى الاستقلال. ومن بين هذه الجرائد في تلك المرحلة «Franc-tireur»، حيث كان من ضمن طاقمها صديقنا Jean Rous، وجريدة «Combat» التي عوضت فيما بعد ب «France Observateur»، التي كان يشرف عليها  Albert Camus وصديقنا Bourdet. وكان هناك أيضا Claude Estier، الذي يعمل بجريدة «laube»، التي كانت جريدة الديمقراطيين المسيحيين والتي كان يديرها موريس شومان Maurice Schuman. وكانت هناك جريدة «le Populaire» التي يشرف عليها SFIO (المجموعة الفرنسية ضمن الأممية الإشتراكية).
كان من ضمن مهام عبد الرحيم بوعبيد، الاتصال بالقادة السياسيين والبرلمانيين وممثلي الأحزاب التقدمية لوضعهم بشكل دائم في صورة آخر تطورات الأحداث التي يشهدها المغرب تحت الاحتلال الفرنسي، وتشجيعهم على القيام بمبادرات تجاه السلطات الفرنسية، لوضع حد لعهد الحماية والاستعمار، والتنديد بالممارسات القمعية التي تمارسها تجاه مناضلي الحركة الوطنية في المغرب.
كانت باريس في تلك الفترة عاصمة دولية، حيث كانت تنعقد بها الجمعيات العامة للأمم المتحدة. ففي سنة 1948، عقدت الأمم المتحدة جمعها السنوي من أجل اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكم كانت هذه المناسبة فرصة للمناضلين المغاربة، الذين حضروا وفي مقدمتهم المهدي بنبركة، للقيام بالاتصال بوفود الدول المشاركة للتعريف بالقضية الوطنية ونضالات الشعب المغربي، وفضح الانتهاكات التي تقوم بها السلطات الاستعمارية ،ضد مطالب الشعب المغربي في الحصول على حقوقه المشروعة، واستمرار هذه السلطات في انتهاك حقوق الإنسان في المغرب.
عقدت الأمم المتحدة ،مرة أخرى، الدورة السنوية العادية لجمعية العامة بباريس، وكنت حاضرا في تلك الفترة بالعاصمة الفرنسية. فكانت تلك الجمعية، بالنسبة لنا، مناسبة للتعريف بمطالب الشعب المغربي وشرح مواقفنا، بل ذهبنا إلى درجة أننا طالبنا بأن تدرج بجدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة نقطة خاصة بوضعية المغرب، وقد ساعدنا في هذا الطرح، الأمين العام لجامعة الدول العربية آنذاك السيد عبد الرحمان عزام، وكنت أنا المكلف بالتنسيق معه في هذا المجال، وقد رحب بنا، وقدم لنا العديد من المساعدات. كنت أسكن في فندق صغير في الحي اللاتيني، وكان الجمع منعقدا في قصر فخم هو قصر شارلو Palais de Charlloux وقد ارتأى السيد عبد الرحمان عزام أن يستضيفني في الفندق الفخم جورج الخامس (Georges v )، الذي يقيم فيه حتى تكون لي الفرصة باستمرار للاتصال بالوفود وطرح القضية المغربية. ورغم أننا لم نتوفق في تسجيل قضية المغرب ضمن جدول الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أننا استطعنا بفضل تواجدي الشخصي بالفندق، إيصال مطالب الشعب المغربي إلى العديد من الوفود والشخصيات والصحفيين. ويرجع الفضل في الحقيقة الى السيد عبد الرحمان عزام باشا، اول امين عام للجامعة العربية.
من مذكرات عبدالرحمن اليوسفي


بتاريخ : 08/01/2019