عبد الله إبراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب 8 : من السجن إلى الحكومة

عبد الله إبراهيم : تاريخ الفرص الضائعة
دخل المعترك السياسي من جهة اليسار، وخرج منه من الجهة نفسها؛ عبد الله ابراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب، المسؤول السياسي النظيف الذي أخلص لمواقفه، والمثقف الذي جالس كبار مثقفي العالم، وساهم من موقعه كأحد رجال الحركة الوطنية في تدبير الشأن العام.
قليل من المغاربة اليوم، من يعرف هذا الرجل السياسي المحنك، الذي رحل عنا في شتنبر 2005، وقليلون يعرفون أنه كان يقود أول تجربة للأمل، وأول حكومة كانت منشغلة، حقا وصدقا، بدسترة ودمقرطة وتحديث الدولة المغربية، لكن إسقاط الحكومة على ذلك النحو المخطط له من قبل «الطابور الخامس» أجهض أمل المغاربة.
وقد ظل عبد الله ابراهيم أيقونة قيادية ذات سلطة أخلاقية وضمير سياسي واضح، غير منغمس في المساومات والدسائس وترتيبات الظل.
وقد جنحت زكية داوود، عبر مؤلفها الحديث « عبد الله إبراهيم: تاريخ الفرص الضائعة»، نحو استعراض السيرة الذاتية لواحد من إيقونات النضال السياسي بالمغرب، شخصية اجتمعت فيها صفات الثقافة الذكاء والحنكة السياسية، عبر تجميع مجموعة من أبرز الصور والبورتريهات، فضلا عن شهادات لأشخاص عاصروا عبد الله ابراهيم وتاريخه السياسي.
وجد عبد الله ابراهيم، مدينة مراكش عند عودته، مقيدة بحكم «الباشا الكلاوي»، الذي كان يؤسس لثروته رفقة «الجنرال جوان» و «بونيفاس» و «جيوم»، عبر فرض إتاوات على بائعات الهوى، يدفعنها من عائداتهن اليومية، ونظرا لهذا الوضع لم يكن بوسع أحد الشكوى من الأمر، في حين ان الرغبة في حمل السلاح قد تقوت، خاصة مع عودة مختار السوسي من منفى «إيليغ»، ليعيد افتتاح المدرسة التي أنشأها في 1929، ليلتحق بمدينة طنجة التي زارها عبد الله بها.
فبحسب صديقه عبد السلام الجبلي، فإن عبد الله ابراهيم كان دائم التنقل ما بن الرباط و مراكش،من الرباط حيث يقطن، إلى «دوار العكاري» مكان دراسة ابنه، مرورا بمدينة مراكش. تقلد عبد الله ابراهيم في فترة من الفترات، قسم التحرير بيومية «العلم»، إلا أنه شعر بالتأخر مقارنة بباقي الملتحقين بحزب الاستقلال، الدارسين في مدارس عصرية وغربية الطراز، لكنه لم يستحب العمل معهم، باستثناء العمل النضالي الاستقلالي.
اشتدت الخلافات والنقاشات حول توجه الحزب المستقبلي، فمن جهة هناك من رأى في ضرورة العمل على المدى الطويل، باحثا عن تشويه الأساس البنيوي للحزب، في حين رأى البعض ضرورة العمل على الجانب النضالي، والتأسيس لبنية حزبية قوية. اعتبر عبد الله ابراهيم، الذي اعتقد بأن الجميع يطالب بالماركسية و لا يطبقها، بأن الرأس الحربة النضالية يتمثل في التنسيقيات المغربية، لكونها قوة سياسية لهذه الحركة، مستعينا بفكر «برودون» أكثر منه «ماركس».
استعان عبد الله ابراهيم، على التخبطات التي يعرفها حزب الاستقلال، بالرحيل عن منصبه. وصف أبوبكر القاديري تلك الفترة بالقول «لقد تحرك عبد الله ابراهيم، بحسب ما أملاه وعيه عليه، لا من خلال ما لاحظه من الواقع الملموس. ومع ذلك، فقد استمر على نهجه النضالي والقومي الصريح، فيما يرتبط بعلاقاته مع الآخر»، متجها نحو مدينة مراكش ليتابع تدريسه بها، كما أنه رفض الانشغال بحزب الاستقلال شمال المغرب.
ذكر محمد بن سعيد ايت إيدير، وهو أحد المتتلمذين على يد عبد الله ابراهيم، بكلية «مولاي يوسف» بالقول «لقد ساهم عبد الله في فتح أعيننا وأرواحنا، نحن تلامذة التعليم الأصيل على آفاق فكرية وسياسية جديدة، لكوننا اعتبرنا تلاميذ بالكلية وأعضاء بحزب الاستقلال، في حين مل ذلك الرجل، بانتماءاته السياسية و التدريسية خارج المغرب و داخله، دور الأستاذ و الملقن بجانب شخصيات أخرى كالمهدي بن بركة، مدرسا الحركة الحرة العربية وحركة «سيكارنو» باندونيسيا ضد المستعمر الهولندي، والنهضة التقنية والعلمية اليابانية، داعيا إلى التحرر من التقاليد، وإلى استغلال هذه الأمثلة في نهضة الوطن».
امتلك عبد الله ابراهيم من المقومات، سواء الفكرية العلمية و الروحية، ما مكنه من أن يصبح قدوة لجميع تلاميذه، الذين أحبوا ذلك الشخص المتواضع، المصغي لهموم الناس ومشاكلهم، والصراحة الدقيقة والمخلصة، زيادة على عمله بمدرسة تابعة لل»زاوية الدرقاوية» و مدرسة «الفضالة»، حيث كان يشرف على بعض المحاضرات، هناك حيث التقى «فاطمة السنتيسي» ذات سبعة عشر ربيعا، ابنة عمر السنتيسي التاجر القومي، والتي سيتزوجها فيما بعد، قبل أحداث 21 من ديسمبر 1950.
في سنة 1951، احتشد تلاميذ «مولاي يوسف» تحت قيادة ومراقبة عبد الله ابراهيم، متضامنين مع زملائهم من «القرويين»، كما استعد لهم أعوان الكلاوي، الذين مالبثوا ان استخدموا الهراوات والعصي، بغية إيقاف هذه الحركة الاحتجاجية، حيث يذكر بعضهم أن معظم الأشخاص قد تلقوا أكثر من مئتي جلدة، وان البعض الآخر كان يوضع على أفواههم الفلفل الحار، كما تم تضمين أوامر بإسقاط التلاميذ في الامتحانات، ما عجل بتدخل عبد الله ابراهيم لدى السلطان، مطالبا بإعادة اجتياز الامتحانات.
شهدت العلاقة ما بين عبد الله ابراهيم، والباشا الكلاوي نوعا من الارتخاء لم يستسغه الباشا إطلاقا، في نفس الوقت الذي شعر فيه بانفلات السلطة من بين يديه، ومع انتفاضة القبائل في جميع أنحاء مراكش ضد حكمه، خاصة بعد دراسة الأمم المتحدة لملف المغرب، مرسلة لجنة تفتيش للتأكد من الحقائق، في حين أن عبد الله ابراهيم رفقة تلاميذه، سيسعون للالتقاء في «فندق المغرب»، مقدمين تقريرا للجنة الأممية، ما ساهم في اعتقالهم بتهمة زعزعة الاستقرار، ليقضي عبد الله عقوبة الإقامة الجبرية ب»تازناخت»، في حين أمضى آخرون نفس العقوبة بكل من «دمنات» و «شتوكة».
شهد شهر ديسمبر من سنة 1952، اغتيال النقابي التونسي «فرحات حشاد»، ما حرك حزب الاستقلال الذي استفزه هذا الاغتيال، منظما مجموعة من الاحتجاجات، التي تبعها اجتماع لأعضاء الحزب خلال نفس اليوم، موكلين لعبد الله مهمة تنظيم إضراب لمدة أربع وعشرين ساعة، بغية التضامن مع الوضع. عرفت مدينة الدار البيضاء، وتحديدا «كاريان سنترال» زنقة «لاصال»، مركز التقاء معظم القادة النقابيين والسياسيين، حيث تم اعتقال معظم المشاركين بالاجتماعات، ما نتج عنه احتجاجات أسفرت عن ما بين تسعة و ستين إلى أربعمئة قتيل، في حين أن مصادر أخرى أشارت لأكثر من ألف قتيل، ما بين يومي 7 و 8 ديسمبر 1952.
التحق حزب الاستقلال بركب الأحزاب الممنوعة، فقد أرسل ما يقرب من ألف و خمسمئة شخص، منهم ما يقرب من إثني عشر نحو الجنوب ومن بينهم ايت إيدير، الذي استمر حبسه إلى غاية شهر فبراير 1953، ومختار السوسي على مدى سنتين في تافيلالت، في حين ان ما يقرب من أربعة و أربعين فرنسيا، تم ترحيلهم لفرنسا بشبهة الانتماء للنقابة. تتبع عبد الله ابراهيم، جميع أخبار النضال انطلاقا من حبسه الإجباري، متصلا بزوجته عبر رسائله باللغة الفرنسية.
عاش كل من عبد الله ابراهيم، و أبو بكر القاديري نفس المرحلة السجينة، منتقلين من القنيطرة نحو مدينة الدار البيضاء، لقد كانت زمالة رائعة، أسست لصداقة قوية ستدوم طويلا، بالرغم من الاختلافات المزاجية بينهما، واصفا أبو بكر القادري زميله عبد الله ابراهيم، بالشخص قليل الكلام و دائم المطالعة، ممازحا زملاءه فيما يرتبط بعاداتها، منها تلك العادة في تنظيف يديه عبر مسحهما معا، بالرغم من طبعه الانطوائي وحبه للعزلة، ومرددا الشعارات الفرنسية المترجمة للغة العربية.

(يتبع)


الكاتب : ترجمة : المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 15/05/2019

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *