عن الهايكو المغربي

بداية، لا بد من التذكير بيابانية منشأ الهايكو أواخر القرن السابع عشر، وتجذره كفن راسخ لا يزال يمثل إلى اليوم الشكل الشعري المميز للنبوغ الياباني الذي جعل من هذا «القزم العملاق»، الذي لا يفتأ يدهش العالم بمنجزه التكنولوجي الباهر بدقة أحجامه وقوة فعاليته، قادرا أيضا على سحره بقدرته الهائلة على فنية الاختزال وبلاغة التأمل في الكينونة الإنسانية في أدق تفاصيلها الوجودية والطبيعية. وهذا المعطى هو ما يؤكد حضور الهايكو في الأرخبيل الياباني كنمط حياة وتفكير تبعا لمقتضيات ثقافية وحضارية خاصة، قد يستهوينا معها كأسلوب كتابة بمظاهره الشكلية المتسمة ببساطتها الخادعة، ويغيب عنا الكثير من حيثياته المتمنعة المشدودة لخلفياتها الفلسفية العميقة.
بهذا التصور، يبدو من الصعب على المهتمين التداول في القيمة النوعية لتجربة الهايكو المغربية تحديدا والعربية عموما، في ظل ما نلمسه حاليا، خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، من إقبال كاسح على هذا الضرب من التعبير المستجد في معتركنا «الشعري» بكل تجاذباته والتباساته. وإن كنا هنا، حتى في غياب المصاحبة النقدية، لا نخفي حقيقة كون هذا التدفق الكمي لشعراء وممارسي الهايكو بالمغرب يجعلنا أمام منجز لا يستهان به. فلم يعد من المستساغ الحديث عن تجارب فردية معزولة، ذلك أن الأمر صار يتعلق بحركية متنامية تثير يوما بعد يوم مزيدا من الاهتمام الإعلامي في منابر ورقية وإلكترونية ومحطات إذاعية وتلفزية، في الداخل والخارج، حتى صار المغرب يطلق عليه «مملكة الهايكو» بتوصيف جريدة النهار اللبنانية في ملف خاص بالموضوع.
هذا التوصيف نجد له في واقعنا الهايكوي أكثر من مبرر واعتبار:
– السبق عربيا لعمل أنطولوجي يشمل أكثر من أربعين شاعرا من كبار أعلام الهايكو الياباني، قمتُ شخصيا بإنجازه ونشره لأول مرة في ركن يومي ثابت صيف 2007 على أعمدة الصفحة الثقافية لجريدة الاتحاد الاشتراكي.
– عقد مجموعة من الملتقيات الرسمية مثل الملتقى الدولي للهايكو بوجدة من تنظيم الموكب الأدبي ودعم وكالة التنمية للأقاليم الشرقية في 2016، والملتقى المغربي الياباني بالرباط من تنظيم مركز تواصل الثقافات ودعم السفارة اليابانية بالمغرب 2016، والملتقى الوطني بإفران 2018 والمحمدية 2019 من تنظيم بيت الشعر ودعم وزارة الثقافة.
– التفاف شعراء الهايكو المغاربة في إطار تنظيمي تم تأسيسه مطلع السنة الجارية تزامنا مع فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء تحت اسم «نادي هايكو موروكو»، وذلك من أجل إشاعة ثقافة الهايكو بتوسيع الاهتمام به لدى الدوائر المؤسساتية والأوساط الأدبية، فضلا عن دوره في العمل على توحيد الجهود وإبرام الشراكات، ورسم الآفاق المتاحة لترسيخ هذه الحركية وتطوير إمكاناتها الإبداعية والإشعاعية. كما أنه من المأمول أن يطلق قريبا مشروع مجلة في الهايكو، وتنبثق ضمن هياكله أول دار نشر عربية تهتم حصرا بالإصدارات ذات الصلة بفن الهايكو شعرا ونقدا..
– ظهور عمل أنطولوجي يشمل باقات من النصوص لأكثر من ثلاثين شاعرا مغربيا، وعينة من ترجمات الهايكو العالمي. ويعتبر هذا العمل الأول من نوعه عربيا، وأول إصدار تدشيني من منشورات «نادي هايكو موروكو»..
هذا دون احتساب العديد من الأمسيات والندوات والأضمومات الشعرية، إلى جانب تنظيم ورشات مدرسية وجمعوية كان لي شرف تأطيرها شخصيا، ومنها ما ستظهر حصيلة أشغالها التطبيقية في أضمومات إبداعية مرتقبة في غضون الموسم الثقافي الجاري. وتجدر الإشارة في هذا السياق أيضا إلى أنه من المنتظر أن يستضيف «نادي هايكو موروكو» الدورة الحادية عشرة لندوة هايكو العالم كما تقرر بالإجماع في ختام أشغال الدورة العاشرة التي انعقدت بطوكيو قبل أسابيع معدودة. وستكون هذه الاستضافة بمثابة حدث ثقافي كبير غير مسبوق عربيا وإفريقيا، من شأنه أن يفتح أكثر من واجهة للتصادي مع تجارب مماثلة أو محايثة، ويجعل بالتالي من أرض المغرب محطة بارزة في خريطة الهايكو العالمي.
وباستحضار مثل هذه المعطيات، تترسخ قناعتنا بقوة هذه الحركية الهايكوية المتنامية بشكل لافت، ويتقوى إيماننا بقدرتها على تحقيق المزيد من المنجزات التي من المفترض أن تمكن من استشراف آفاق جديدة لإنعاش حساسيتنا الشعرية وإعطاء نفس جديد للقصيدة المغربية الحديثة.
وباستقرائنا المتأني للمنجز الهايكوي المغربي في حدود المتن الموثق منه، مع تتبعنا اليقظ لبعض ما ينشر منه في الفضاء الأزرق سواء على الصفحات الخاصة أو المنتديات الحاشدة حتى لا مزيد. ولا يخفى نزوع الكثيرين من ممارسي الهايكو وهواته إلى تجريده من مسحته الشعرية، أحيانا بذريعة البساطة إلى حد التسطيح والسقوط في التقريرية الفجّة، علما بأن المقصود بها هي ما يمكن أن نسميه بساطة التناول أو البساطة المتمنعة، أي السهل الممتنع كما درج عليه الاصطلاح النقدي القديم. وأحيانا أخرى تغيب عنه المسحة الشعرية بدعوى التجرد من المساحيق البلاغية، حدَّ الافتقار الكلي لخاصيّة الترميز التي هي من جوهر الشعر عامة والهايكو خاصة.
كما لا بد أن يسترعي انتباهنا في غمرة تصفحنا لمنجزنا الهايكوي هذا الكم الهائل من المنشورات المتلاحقة والأسماء المتناسلة، مما يشي بدينامية متواصلة تزيد من قوة هذه الحركية الشعرية وترفع من صبيبها الإبداعي. هذا وإن كنا في نفس الوقت نلتزم التحفظ الحذر إزاء الكثير من النصوص المتناسخة بسبب الضحالة الناجمة عن انحسار الرؤى ومحدودية المرجعيات، والميليشيات المتناحرة وسط فوضاها العارمة التي تفسد علينا في غمرة ضجيجها، متعة الإنصات لتلك القلة الهائلة.


الكاتب : نور الدين ضرار

  

بتاريخ : 08/11/2019