فوز مرشح اليمين المتطرف برئاسيات البرازيل … أمريكا اللاتينية تنعطف نحو المجهول

دخلت أمريكا اللاتينية كلها انعطافة سياسية جديدة، مع الإعلان الرسمي عن فوز مرشح اليمين المتطرف جيير بولسونارو برئاسة البرازيل الأحد الماضي 28 أكتوبر 2018. انعطافة تفتح الباب لتحول ارتكاسي غير مسبوق، يوازي ذات التحول الذي سجل بدول تلك القارة الوازنة عالميا، في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن 20، حين انطلقت الأنظمة الديكتاتورية العسكرية من البرازيل سنة 1964، واختتمت بالشيلي سنة 1973، مرورا بالأرجنتين والبيرو والأروغواي وكولومبيا وبوليفيا.

 

الجنوب يغزو الشمال
بقيم جديدة

الأخطر اليوم، هناك بالبرازيل، هو التحالف الجديد بين الكنيسة (في أكثر أشكالها تطرفا: «الإنجيلية») مع المؤسسة العسكرية والأمنية ورجال المال والأعمال، الذي جعل برازيليا تصبح أول دولة ديمقراطية بالعالم، يرأسها اليمين المتطرف في أشد أشكاله ظلامية. ويخشى أن تكون له تبعات ارتدادية في كل ديمقراطيات أمريكا الجنوبية، خاصة وأن البنية السوسيولوجية تكاد تكون متطابقة في كل بلدانها. بل، أكثر من ذلك، أن أسباب الأزمات الإجتماعية والتدبيرية، تكاد تتشابه في البرازيل والأرجنتين والشيلي، التي تشكل أقوى اقتصاديات المنطقة.
إن ما تقدمه تلك التجربة المجتمعية، من نموذج، يقدم مادة خصبة للكثير من التجمعات البشرية عبر العالم، نعتبر نحن في فضاءنا العربي والمتوسطي والإسلامي، من أكثر المعنيين بتمثل دروسها وخلاصاتها. لأنها عنوان لمعنى ما تفرزه الأزمة الهوياتية من مخاطر حين تتعاضد مع الأزمة الإقتصادية التنموية الخدماتية. وتكاد تكون تلك التجربة أن تكون المثال الساطع، على التحول الذي بدأت تنعطف صوبه البشرية، المتمثل في اعتبار التطرف سبيلا للحل. هنا باب جهنم غير مسبوقة (انغلاقية وإقصائية) ستفتح في واقع العلاقات الدولية، تقدم الدليل الواضح على أزمة في السياسة بالعالم. أزمة، تكاد تقدم الدليل الملموس، على أن القيم السياسية التي بلورتها البشرية على مدى القرن 20، كنتائج لصيرورة الفعل السياسي (الإستعماري) في نهايات القرن 19، المتمثلة في التيارين السياسيين البارزين: الرأسمالي الليبرالي و الإشتراكي، قد استنفدت وجودها، أمام بروز جواب سياسي، يمتلك كل ترسانته التأطيرية والإيديولوجية التبريرية، التفسيرية، مركب من تعاضد الآلية التأطيرية ذات المرجعية الدينية مع الآلية الأمنية والعسكرية. وتقدم الإنتخابات البرازيلية المثال الحي عنه، كنوع من التدشين لذلك التحول عالميا.
بهذا المعنى، فإن تلك الإنتخابات ونتائجها، لا تعني البرازيل وحدها، بل إنها تعني كل دول العالم. لأنها، ترجمان واضح، لمعنى التحول الذي تعيشه البشرية في القرن 21، حيث الجنوب يفرض أسلوبه التنظيمي، المذهبي، السياسي، لأول مرة في التاريخ، خارج منطق ما ظل ينتج من قيم من داخل المركزية الغربية (الأروبية – الأمريكية) منذ الثورة البورجوازية في القرن 15، والثورة الصناعية في القرن 19. وهي الثورات التي أنتجت قيم الفردانية وحقوق الإنسان، وقيم الليبرالية الإقتصادية ونقيضها من القيم الإشتراكية، والتوزع الطبقي سوسيولوجيا بين الرأسمال والبروليتاريا العمالية.
إن نتائج الإنتخابات البرازيلية، بهذا المعنى، هي أول الجواب السياسي للجنوب في تاريخ البشرية، عنوانا على بروز أقطاب عالمية جديدة، من خارج المركزية الغربية. وأنها جواب يتكامل مع جواب آخر، من ذات الجنوب، تقدم ملامحه البارزة التجربة الصينية والتجربة الهندية (والجواب الإفريقي لا يزال يعتمل في أحشاء القارة). هذا، هو ما يجعل المرء، يكاد يجزم، كقراءة من بين قراءات أخرى، لا تدعي الكمال ولا ترتكن إلى أي نزوع للأحكام الإطلاقية، إلى أن البشرية كما لو أنها تعود إلى بلورة جواب سياسي جديد، في القلب منه العلاقة الجدلية بين التفسير الديني والآلية التأطيرية الدينية وبين الإقتصاد والآلية الأمنية. بذات الشكل الذي سجل في القرنين 18 و 19، بالمجتمعات الصناعية بأروبا، لكنه هذه المرة صاعد من الجنوب. وهذا يقتضي إعادة قراءة جديدة، لمعنى القيم التي تنتجها البشرية في ممارستها للحياة كونيا (موضوعة الهجرة، مثلا، ليس سوى تجليا من تجليات تلك القيم). بمعنى آخر، إنه الجنوب يغزو العالم، بقيمه وصرخته وتقنيات تدبيره للسياسة.

الأستاذة لمياء ولعلو
وقصة الإنجيلية البرازيلية

بالعودة، إلى أرشيف كبريات المؤسسات الإعلامية الرصينة بأروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وكذا العديد من مراكز الدراسات المتخصصة في السؤال السياسي والتدبير الإقتصادي بأمريكا اللاتينية (وهو ما عكسته العديد من أعداد «لوموند ديبلوماتيك» كمثال فقط)، نجد أن رصد التحولات المعتملة في تلك الجغرافية الخاصة من العالم، حقق تراكما معلوماتيا وتحليليا جد هام. وهو التراكم الذي يقدم الجواب، حول حقيقة ما يجري في تلك المجتمعات من تحولات، تعني كثيرا التجربة الغربية، من باب أن التجربة الإجتماعية لدول أمريكا اللاتينية، التي تشترك معها في الهوية الدينية المسيحية، تقدم المادة الخصبة حول التقاطع الهوياتي بين الشمال والجنوب، رغم الإختلاف التأطيري بينهما سياسيا واقتصاديا وتنمويا.
لكنه، واقع تحولات، قليلا ما انتبهنا إليه في عالمنا العربي والمغاربي والمغربي. لأنه في مكان ما، فنحن نعتبر في فضاءنا العربي والإسلامي، أن أمريكا اللاتينية، وخاصة البرازيل، بعيدة عن جغرافية اهتماماتنا، وأنها تكاد تحتل، مساحة «اللامبالاة» ضمن أولويات ما نعتبره شغفا منا بالعالم. لأننا، بتأثير ربما من صيرورة تاريخية تفاعلية منذ 150 سنة، قد بقينا نعتبر أن الجغرافيات التي تستوجب منها الإهتمام، هي جغرافيات الشمال (الغربية.. الأروبية والأمريكية والروسية). لهذا السبب نجد أن المكتبة العربية جد فقيرة في مجال إنتاج رؤية تحليلة، علمية ومدققة حول واقع التحولات في تلك الجغرافية من العالم، رغم ما نشترك معها فيه من علاقات اجتماعية بفعل نتائج الهجرات الشامية المسيحية في غالبيتها (واليهودية المغربية)، إلى دول أمريكا اللاتينية.
ويشاء حظنا المغربي، أن تكون اليوم من بين أهم المراجع المعتمدة في فهم وتحليل واقع أمريكا اللاتينية، كتابات الباحثة المغربية لمياء ولعلو (نجلة الدكتور فتح الله ولعلو)، التي تعيش بدول أمريكا اللاتينية منذ أكثر من 15 سنة، بين البرازيل والمكسيك. وأكثر من ذلك، أن يكون آخر كتاب صدر لها سنة 2018، متعلقا بالبرازيل تحديدا، وأن يكون ضمن فصوله باب مخصص للرئيس البرازيلي الفائز، الذي قدمت تحليليا ما يكفي من البراهين على أنه قوة سياسية قادمة.
لأنه حين تقرأ كتاب: «j’ésus t’aime – la déferlante évangelique»، وتغوص في تفاصيله، تجد نفسك في مكان ما أشبه بمن يكتشف، بغبطة، قارة بكر، مجهولة تماما ضمن ما نعتقد أننا نعرفه عن أنفسنا وعن العالم. لأنه يقدم لنا درسا، هاما، حول مدى ما نحتاجه من جهد حقيقي، كي نتمثل التجارب البشرية عالميا، من موقع الإختلاف وأساسا من موقع التعدد. وأننا في عالمنا العربي، نحتاج فعليا، إعادة نظر شمولية في مرجعياتنا التحليلية، تلك التي بقينا نجترها منذ أسئلة النهضة العربية في نهاية القرن 19، من موقع صدورنا عن خلفية ترى إلى العلاقة مع العالم، علاقة «صدامية». وهي الخلفية التي تجد تفسيرها الطبيعي، أكيد، في ما خلفته فينا جميعا في جغرافياتنا المتعددة، ما أسميه دوما «صدمة الإستعمار»، التي كانت محفزا مستفزا، لاستنهاض أسئلة الهوية، في كامل أبعادها اللغوية والدينية والحضارية، في وعينا العربي والإسلامي (سواء في النخبة أو في المجتمع). وأن هذا هو الذي جعلنا، نبقى أسرى، تحليل لا يرى من قيمة للمعرفة والفهم، سوى من خلال تمثل شكل العلاقة مع الآخر (الغرب)، إما من موقع التبعية، أو من موقع الإنبهار والتقليد، أو من موقع المواجهة والقطيعة. والحال، أن التجارب البشرية، عبر قارات العالم، على امتداد القرن العشرين، أقله منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وتأسيس هيئة الأمم، قد أنضجت تجارب إنسانية وحضارية، مختلفة، سمحت بإعادة تمثل لدور تلك المجتمعات ضمن منظومة العلاقات الدولية، من خلال انخراطها ضمن دورة الإنتاج العالمية من موقع المساهمة (لا الإستهلاك والتبعية). وهي التجارب التي أنضجت اليوم واقعا كونيا مختلفا، غير مسبوق، برزت فيه أقطاب جديدة، مثل الصين والهند والبرازيل، أنهت مع واقع القطبية الغربية، ومنطق المركزية الأروبية، الذي ساد العالم، بقيمه، منذ القرن 18.
هنا، تكمن الأهمية البالغة، لكتاب الأستاذة لمياء ولعلو، الذي لا يقدم لنا فقط مادة غنية، مكثفة، علمية ورصينة عن واقع البرازيل اليوم. بل، إنه يقدم لنا مفاتيح حاسمة لفهم معنى من معاني التحولات في العالم، يلعب فيها الدين دورا مؤثرا وحاسما. ونفهم من خلال بحثها الدقيق، المعتمد على أصول البحث الاجتماعي، وأساسيات المباحث السوسيو – سياسية، كيف أن المنزع الأصولي (المتطرف)، ليس قدرا مخصوصا بعالمنا العربي والإسلامي. إذ، من خلال فصول كتابها القيم هذا، نتتبع خريطة ما يعتمل من تحولات خطيرة، جد مقلقة، ضمن الجسم المسيحي، وكيف أن الكاثوليكية كمذهب، والبروتستانتية كمذهب منافس ومختلف، أصبحا متجاوزين تماما أمام تصاعد «التيار الإنجيلي» الأصولي المتشدد. وأن المثال الحي على ذلك، هو واقع ما يحدث بالبرازيل، وبالإستتباع في كامل أمريكا اللاتينية.
إن التوقف عند التجربة البرازيلية في هذا الباب، تكمن أهميته، ليس فقط في أنها مشتل مثالي لتلك التحولات القيمية والهوياتية، ضمن الفضاء المسيحي. بل، لأنها تعتبر أهم تجمع بشري مسيحي كاثوليكي في العالم، ظلت تعتبره البابوية، من ضمن جغرافياتها الحاسمة لتعزيز مكانة الكاثوليكية عبر العالم. وأنها (وهنا المفارقة)، المجال الجغرافي الإستراتيجي، الذي أطلقت فيه البابوية على عهد البابا جون بول الثاني، البولوني الأصل، بدعم من رئيس مجمع الكرادلة ورئيس «مجمع العقيدة والإيمان» بروما، الألماني الأصل، جوزيف ترازنغر (الذي أصبح في ما بعد البابا بينيديكت 16)، أطلقت فيه البابوية رصاصة الرحمة على ما وصف ب «التيار التقدمي» ضمن الكنيسة الكاثوليكية، الذي كان له دور حاسم في جعل الكنيسة بأمريكا اللاتينية تصالح الأتباع مع الكاثوليكية (هي التي كانت تجتر وراءها إرث التجربة المريرة للإحتلال البرتغالي لقرون، بكل المآسي المصاحبة لذلك الاحتلال). وذلك بفضل الدور الذي لعبه قساوستها في مواجهة الديكتاتوريات العسكرية بأمريكا اللاتينية والدفاع عن الحريات وحقوق كل ضحايا الإستبداد السياسي أو القهر الاجتماعي. فكانت النتيجة، هي فتح الباب واسعا، للأصولية المسيحية، الإنجيلية، المنتمية لتيار «العنصرة الخمسيني»، المتشدد. مما خلق اليوم واقعا، جديدا، تماما بالبرازيل وبأمريكا اللاتينية، يشكل انعطافة هوياتية غير مسبوقة تاريخيا بذات القوة والحجم، لها آثارها الحاسمة على المشهد السياسي والتربوي والقيمي بكل المجال المسيحي. عبر استغلال اآليات حاسمة اشتغلت عليها تلك الأصولية الدينية المسيحية هناك، وهي : «استغلال أسباب الفقر واللاأمن والجريمة والمخدرات والتفكك الأسري»/ «الإستثمار الهائل في الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، خاصة مجال الصوت والصورة»/ «التحكم في دواليب الإنتاج الصناعي»/ «التحكم في الآلية القانونية الدستورية التي يمثلها البرلمان والمجالس المحلية والولايات».
لقد كتبت تقول حول الرئيس الحالي للبرازيل:
«يعتبر جيير بولسونارو، المرشح المنتظر أن يخلق المفاجئة في الإنتخابات القادمة (2018)، إذ إنه يسعى للترشح باسم «الوحدة الإنجيلية». علما أن هذا الضابط في سلاح الجو من المظليين الإحتياطيين، مناهض للمثلية، عنصري، يكره النساء ويحتقرهن، مناصر لحمل السلاح من قبل الجميع وبسجن المنحرفين مهما كان سنهم ولو كانوا من الأحداث. كان كاثوليكيا، لكن تم تعميده بمياه نهر الأردن من قبل القس إفيرالدو، علامة على التحاقه بالتيار الخمسيني (*). يعتمد هذا المرشح، على ضعف المعارضة الشعبية ضده، ويركب على الأزمة الإقتصادية والأخلاقية التي تجتازها البرازيل، كي يبرز كرجل المرحلة. ومما تسجله كريستينا فيتال أن «الجديد، هو أن الزعماء الإنجيليين من مختلف الكنائس قد توافقوا على وضع حد للتنافس المؤسساتي باسم مصلحة الرب، بغاية خلق مرشح مثالي للعلامة الإنجيلية».
كان القس مارسيلو كريفيلا، بعد انتخابه في أكتوبر 2016 عمدة لمدينة ريو ديجانيرو (وهو منصب جد هام وغير مسبوق بالنسبة لهم)، يبشر بترشيحه من أجل المنصب الأعلى في هرم الدولة، حين قال: «لا أعلم إن كان سيتحقق ذلك في جيلنا نحن، أم لا، لكن الإنجيليين سينتخبون ذات يوم رئيسهم للجمهورية، الذي سيعمل باسمنا جميعا من أجلنا ومن أجل كنائسنا، وسننجز المهمة التي تعتبر منذ ألفي سنة التحدي الأكبر للكنيسة، المتمثل في حمل الإنجيل إلى كل شعوب الأرض».».
منتبهة كيف أن التحولات السوسيولوجية بالبرازيل حاسمة، حين تؤكد قائلة:
«ثم إنه، في برازيل جديدة، غيرتها تماما الهجرة القروية، وأزمات هوامش المدن، والركود الإقتصادي، وأزمة الكنيسة الكاثوليكية، ستظهر الموجة الثالثة، التي ترتبط ببول فريستون. إذ، بالنسبة لهذا الجيل الذي تمثله «الكنيسة العالمية لمملكة الرب» (التي تأسست سنة 1977)، فإن «الروح القدس» مركزية، وأيضا تحرير الذات من الشر عبر «العلاج الإلهي». مثلما أنها تركز على تحقيق «معجزات» أمام شهود، من خلال طقوس جذبة سحرية. وتستعمل كثيرا كل وسائل الإتصال العامة الجديدة (صحافة، راديو، تلفزة وأنترنيت)، وأخيرا الدور المركزي لسلطة المال والسياسة. إنه النصر المبين ل «ازدهار اللاهوت»، الذي من خلاله يحق للمسيحي أن يفرح وأن يكون بصحة جيدة وأن يحقق الثروة فوق الأرض. مثلما أن العقل السليم، يحرر الأفراد من الفقر ومن القهر الشيطاني، وهي عقيدة تفضي إلى حرب روحية مفتوحة أيضا، ضد الديانات الأفرو- برازيلية».

تحول القيم
وسؤال الهوية بالبرازيل

هذا التحول السوسيولوجي، هو الذي يقف وراء الصعود الكبير للتيارات السياسية اليمينية المتطرفة بالبرازيل وبأمريكا اللاتينية. وأن الأمر لم يعد مجرد تقاطب بين اليسار واليمين، بل هو تقاطب جديد، في القلب منه سؤال الهوية الدينية وقيم العائلة. ولايمكن تمثل قوة تلك التحولات بدون استحضار الآلية التنظيمية والتأطيرية الهائلة التي يتحكم فيها ذلك التيار الديني الإنجيلي الجديد بأمريكا اللاتينية (الذي ابتدأ أمريكيا في بداية القرن 20، وتعزز أكثر في الأربعينات من ذات القرن). ولعل توقف الأستاذة لمياء ولعلو، عند نموذج «الكنيسة العالمية لمملكة الرب»، يقدم الكثير من الجواب حول تلك التحولات العميقة المعتملة ليس فقط بالفضاء الأمريكو لاتيني، بل في كل الفضاء المسيحي عبر العالم. حيث نجدها تقدم خطاطة مدققة، تؤكد من خلالها أنه:
«في حالة الكنيسة العالمية، فإن مجلسا للأساقفة مقرب من الزعيم إيدير ماسيدو، هو الذي يختار المرشحين [للإنتخابات]، الذين هم في غالبيتهم رجال دين معروفون إعلاميا، عبر آلية «عمودية تماما، بدون أي تدخل للجماعة». وللدفع بمرشحيها، فإنها توظف قناتها التلفزيونية «لاريدي روكورد»، الثانية من حيث الأهمية بالبلد، وأيضا قناتها الدينية «التلفزة العالمية» وأكثر من 20 قناة تلفزية محلية أخرى. فيما توظف أيضا شبكة آليلويا، التي تغطي 75 % من التراب البرازيلي عبر 80 محطة إذاعية (على الشبكتين أ. م. و إف. إم.)، في ذلك الدعم، إلى جانب صحيفة «فولها العالمية» المجانية، دون نسيان عدد من المجلات والموقع الإلكتروني «universal.org».».
هكذا، فكل مرشحي الكنيسة العالمية، ينتمون للتيار السياسي الداعم للمرشح جيير بولسونارو، الذي فاز بالرئاسيات يوم 28 أكتوبر 2018 بنسب عالية. إذ خلفه كان يقف أكثر من 12 ألف قس ومطران، اشتغلوا في أكثر من 7 آلاف معبد، ولهم يرجع الفضل في رفع نسبة المنتخبين الناجحين في المحليات بنسبة 33 %، والنجاح في الفوز بعمادة مدينة ريو ديجانيرو، التي تعتبر الفضاء الذي يصنع فيه الطقس السياسي لكامل البرازيل. وهم من يحدد الإطار العام للنقاش السياسي، عبر ما يمتلكونه من شبكة تواصلية جد قوية. ومما تخلص إليه هنا، الأستاذة لمياء ولعلو:
«هكذا، لم يعد ممكنا أبدا، بالبرازيل، حين تكون مرشحا لمنصب مهم، أن تعلن أنك مع زواج المثليين أو الإجهاض. المثال على ذلك، انتخابات 2010 و 2014. لقد واجهت المرشحة ديلما روسيف، وهي سيدة مطلقة ومناضلة سابقة بالجناح العسكري التي انخرطت في مقاومة الديكتاتورية العسكرية في الستينات، عددا من الإتهامات التي وجهها لها قساوسة إنجيليون، و الأساقفة الكاثوليك، حين أعلنت ترشيحها للإنتخابات الرئاسية سنة 2010، لتخلف لولا داسيلفا. لقد اتهمها رجال الدين بتشجيع الإجهاض من خلال تقديم حوار صحفي أجري معها منذ 3 سنوات خلت. كانت حينها ديلما، تعتبر أن للأمر مخاطر على الصحة العامة، مذكرة أن امرأة تموت كل يومين بسبب تبعات الإجهاض السري بالبرازيل. فما كان من تلك المرشحة، سوى أن تنشر، مضطرة، بين الدورتين الإنتخابيتين «رسالة مفتوحة إلى شعب الرب»، أكدت فيها إدراكها لأهمية عمل الكنائس الإنجيلية. وأنها تلتزم «بأن لا تقدم أية تعديلات على قانون الإجهاض ونصوص أخرى تخص قانون العائلة»، في إحالة طبعا على مسألة زواج المثليين. فيما منافسها الرئيسي، المحافظ، خوصي سيرا، الذين كان معروفا بمواقفه الليبرالية حين كان وزيرا للصحة، منذ عشر سنوات خلت، قد مجد «القيم المسيحية»، في كل خطبه. هكذا، كنا نشاهده في وصلات إشهارية يقبل الصليب محاطا بنساء حوامل وبقساوسة إنجيليين».
إن الواقع السياسي للبرازيل الجديدة اليوم، مع وصول مرشح يميني متطرف إلى سدة الرئاسة، إنما يقدم الدليل على أن تحولات هائلة قد دخلتها كل أمريكا اللاتينية، من باب الهوية الدينية المسيحية، وأن ذلك ستكون لها نتائج على كل العالم المسيحي عبر العالم.

(*) التيار الخمسيني، هو تيار مسيحي، متطرف، يعتبر أنه يمثل الأصولية المسيحية، تلك المرتبطة بفكرة نزول التعاليم السماوية على الحواريين في الليلة الخمسين بعد صلب السيد المسيح، وأنهم أهل الثقة السماوية الذين نزلت عليهم التعاليم الصحيحة للمسيحية.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 31/10/2018