قيم المواطنة  الغائبة وارتكاس الفكر القبلي عند العروي

من بين ما نبه اليه عبد الله العروي في محاضرة له الاسبوع الماضي بكلية الآداب بالرباط، هو موت الدولة الاجتماعية والمدنية  كإحالة على فشل المنظور التنموي،  وهو اعتراف ضمني بأن هناك شيئا ما ينقص الجانب الاجتماعي، ومنه  الشعور بانعدام قيم  المواطنة  بالمعنى الذي يرد في الخطاب الفكري  عند أحمد عصيد أيضا، مما يعني الاحساس العام بضعف قيم التجانس بين المكونات  المشكلة للوطن من خلال إشارات  عديدة منها تصاعد العنف المادي عبر القتل والاغتصاب  والاعتداءات اليومية وغيرها،  والرمزي  الذي يحيل على  عودة الفكر القبلي كواجهة للتطرف المجالي الذي أصبح يحكم علاقة المغاربة في ما بينهم …
تنمية الوطن عبر تفعيل الجهوية، يعيد طرح أسئلة غياب الشعور بمفهوم الوطن من خلال آليات تكريس  الانقسامات  والتشرذم الذي يعرفه العالم، ومنه المغرب وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تقريبه عبر مفاهيم جديدة ومنها عودة مفهوم القبيلة ليس كمصطلح ثقافي ذهني محدد،  من أجل فهم الظواهر وتفسيرها باعتباره قاعدة للتأويل الجمعي المرتبط ببناء  مفهوم الوطن، ولكن كمفهوم  يزكي واقع الانفصال بناء على ثنائية (الأنا والآخر)، التي تصف وتصنف وتفرز الأفراد والأشياء والأحداث، على أساس عنصري وفئوي وطبقي في ظل تقاطبات سياسية  أو دينية أو إثنية تعيد تشكلات الأنا الموغلة في الفردانية، والباحثة عن تموقع مصالحها الضيقة مما يضيع مصالح الناس جميعا .
هل يمكن الحديث عن جهوية متقدمة في ظل تآكل الاجتماعي والانساني لفائدة تجمعات طائفية ومذهبية تعكس تراجع الدولة بمفهومها الحداثي لصالح القبيلة ؟ ترى أي قراءة ثقافية وسيمائية  لمطالبة الزفزافي بعودة الاستعمار الاسباني عوض ما أسماه  بالاستعمار العروبي في حراك الريف ؟ وماهي دلالات حمل راية الأمازيغ في حراك يقال إن مطالبه اجتماعية بالدرجة الأولى ؟
إن إعادة استعادة ما يسمى بالهويات المغلقة عبر كائنات مشروخة على مستوى الإنسان والمجال، ساهمت  أيضا فيه الدولة بشكل لا شعوري، وذلك من خلال تسميتها لأقاليم انطلاقا من بعدها القبلي ليس فقط كخصوصية  مجالية ولكن عبر تثبيتها  كشكل من أشكال التمركز على الذات،  يجعلها ترفض إنتاج  آليات التمدن بها لارتباط القبيلة بالمجال القروي أولا، ثم  لأن عمليات التغيير الاجتماعي بها لم تكسبها تدريجيا القيم الحضرية وما يرتبط بها من أنماط للسلوك الحضري القائم على قبول الآخر والتعايش معه ، لأن الحضارة وكما يقول ابن خلدون في كتابه» المقدمة»  تقاس بالعمران الحضري كما تجسد مثلا في المدن التاريخية بالمغرب، والتي ارتبطت في اغلبها بالاستعمار الغربي وبالهجرات الاوربية المنتظمة، وباستقرار المكون الموريسكي أو اليهودي أو الزنجي بها .
التمدن شكل من أشكال الثقافة والمثاقفة أيضا، ولا يمكن أن يساير فكر العصبيات الجماعية في أبعادها القبلية والطائفية التي ارتبطت بالأنا ، والتي كثيرا ما تبقى أسيرة مجالها فقط بمعناه الجغرافي، دون أن تجد لها قبولا لدى الآخر خصوصا وأن الفكر القبلي نفسه هو ترسيخ لمفاهيم التمايز بين أفراد القبيلة الواحدة عبر إعادة صياغة الولاءات من طرف المريدين، وإنتاج لما يسمى بالأعيان. كما أنه يعمل على ترويج أن  الدولة غير قادرة على إعطاء الفرد حقوقه، مما يجعلها في لا شعوره  بلا قيمة، ومن ثم لا حاجة للولاء والانتماء لها بل لا داعي لها، وما مبرر لوجودها أصلا، ما دامت القبيلة هي التي تمنحه الحاجة والمصلحة.
«الرياسة» كمفهوم خلدوني  أو السلطة بمعناها اليوم، لم تعد ترتبط بالقبيلة لأن الحظوة التي تبحث عنها القبيلة اليوم لم تعد مرتبطة بالعصبية التي تاهت مع مفهوم الدولة السياسية، عبر مؤسساتها الدستورية التي تحيل على مفهوم الوطن ، مما يعني أن الفكر القبلي فكر هلامي ارتكاسي لذلك كان التعاطف مع حراك الريف مقبولا من الحق في الاحتجاج المشروع المؤطر بقانون الدولة ، ومرفوضا عند الحديث عن الريف كمجال معزول عن اللاشعور الجمعي للمغاربة لأنه امتداد للذاكرة والوطن. فداخل العصبية  القبلية هناك عصبيات متعددة من جهة، ثم إن سطوتها التاريخية اندثرت أمام ضغوطات الحداثة علما بأن الاستعمار ساهم بدوره في تكريسها لخدمة أجندته وفق سياسة براغماتية هدفها الاحتواء، وقيادة القبائل وفق سياسة براغماتية هدفها الاحتواء الشامل .
إن دور القبيلة كان حاسما في الارتباط  بتوجهات وقرارات سياسية بعيدا عن المعطيات التاريخية المرتبطة بها، والتي تصنفها بكونها ثائرة أو خانعة أو غير ذلك، وهو مالم يعد مقبولا أمام ثقافة المجتمع  المدني لأنه لا يسمح أمام ضعف خياراتها السياسية والمدنية أو أي نكوص في تنميتها،  بأن تكون على حساب المواطنة والوطن والمساواة العامة للأفراد والجماعات امام القانون والعدالة، ونجاعة المؤسسات الدستورية  المؤطرة بدستور 2011 .

* أستاذ وباحث
في ماستر اللغة العربية والتواصل بين الثقافات


الكاتب : محمد دخاي

  

بتاريخ : 18/01/2020