كنت في تونس الجديدة غادرت تونس على إيقاع تفجيرات إرهابية 10

غادرت تونس في صباح بارد، على إيقاع تفجيرات إرهابية بشارع بورقيبة، كنا في السيارة متوجهين إلى المطار، وفجأة وجدنا الشارع المحاذي لمكان الانفجار مكتظا، تساءل رفاقي عن سبب الاكتظاظ، في الوقت الذي قفز إلى عيني خبر الانفجار مع إدانات شديدة  لمجموعة من أصدقائي على صفحات التواصل الاجتماعي لهذا الفعل الجبان.

 

غادرت تونس في صباح بارد، على إيقاع تفجيرات إرهابية بشارع بورقيبة، كنا في السيارة متوجهين إلى المطار، وفجأة وجدنا الشارع المحاذي لمكان الانفجار مكتظا، تساءل رفاقي عن سبب الاكتظاظ، في الوقت الذي قفز إلى عيني خبر الانفجار مع إدانات شديدة لمجموعة من أصدقائي على صفحات التواصل الاجتماعي لهذا الفعل الجبان.
رن هاتف مرافقنا الذي كان يقود سيارته الخاصة ليخبر، أن انفجارا وقع في شارع بورقيبة نتيجة عمل إرهابي قريب من سيارات الشرطة، أقدمت عليه إحدى الشابات التونسيات بحزام ناسف، ذهب ضحيته مجموعة من رجال الأمن.
وفي نفس اليوم سجلت الأخبار أن هناك شابة أخرى كانت مصاحبة لها، فضلت الهرب بعدما رأت أحشاء المنتحرة تتوزع على جزء من الشارع العام، وتأخذ بفعلها الإرهابي الشنيع أرواح أبرياء، كما أقدمت بعملها الجبان على التسبب في عاهات لآخرين من المارة في شارع، زين لاستقبال فعاليات مهرجان قرطاج الدولي، كما عاينت ذلك ليلة واحدة قبل الانفجار.
لا أخفيكم أصدقائي أني كنت لحظة سماع خبر الانفجار أعيد ترتيب المواقف التي علقت في ذاكرتي خلال تواجدي في مدة قصيرة بتونس لم تتجاوز أربعة أيام، عشت زمنها كاملا وحتى ساعات النوم لم تختطف مني إلا القليل ، عملت خلال الباقي منها على التجول بالمدينة العتيقة، واقفة عند الكثير من المشاهد، سواء تلك التي تأخذك إلى تاريخ أسوارها وأبوابها وأقواسها، أو تلك التي تستوقفك عند واقعها في مجتمع تونسي لا يستحق كل ذلك التراجع الذي مس مشروعا مجتمعيا دفع التونسيين إلى الدفاع عنه والتسريع به في سنوات مرت حد التصادم، أو الوقوع في سوء الفهم الكبير.
ظلت الصور عالقة بذهني، وترددت أمي زهور في مشاهد منها، هي التونسية التي تزوجت مغربيا وفتحت بيتها بالمدينة العتيقة كي يكون بيتا للجالية المغربية. زوجها المغربي الذي توفى منذ ثلاثين سنة وشم في ذاكرتها كما ذاكرة جيرانها، وعملت زهور على حفظ إسمه في قلبها، وفي قلب أبنائها كما تركت إسمه يافطة في الباب التقليدي الذي زاده شكله المقوس ولونه الأصفر جمالا وشعاعا.
ولا أنسى يوم ذهبت إلى بيت أمي زهور كي أقدم دعوة لها ولأبنائها وأصدقائها من المغاربة، من أجل حضور مسرحية «الحكرة»، التي ستقدم ضمن مشروع استراتيجي مدعم للأعمال المسرحية الموجهة إلى جاليتنا في الخارج، أقدمت الوزارة المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة على إنجاز تعاقدات بخصوصه ليقدم باللغتين العربية والأمازيغية.
استقبلتنا المرأة العجوز بترحاب كبير، وأصرت أمي زهور أن تصاحبنا للمتحف، حيث توجد إحدى التونسيات زوجة أحد المغاربة المقيمين في هذا البلد الشقيق، والتي تعمل كمسؤولة في إدارة بهذا المتحف التونسي الجميل، قاطعة بذلك مسافة ليست بالهينة على رجليها، بعدما وضعت رداء أبيض غطى كامل جسدها ذكرني بنساء مدينة الصويرة.
كانت أمي زهور جد سعيدة وهي تقودنا إلى المتحف، وحكت لنا في الطريق عن زوجها وأبنائها وعن حبها للمغرب وتعلقها به، كان حكيها مصحوبا بدموع تسربت إلى عيون عجوز، يبدو أن زمنا خانها كي يظل البيت الذي يحمل اسم زوجها، لا يقوم بنفس وظائفه لاعتبارت قالت العجوز عنها، أن موت زوجها كان موت حلم كبير، في جمع شتات المغاربة في تونس، وأن لا أحد استطاع أن يحمل المشعل بعده بما في ذلك أبناءه.
حملنا نفس الهم إلى مسؤولة المتحف، امرأة في منتصف عمرها، اختارت أن تحكي باعتزاز كبير عن المغرب، قالت لنا إن جنسيتها التونسية لا تمنعها من أن تلقب بأم المغاربة،هي التي خلفت أبناء من زوجها المغربي، مدافعة بذلك عن كل التقاليد المغربية في اللباس والأكل وطرق العيش التي يبدو أن مشتركا كبيرا بينها وبين عادات تونس الشقيقة.
لم تأت أمي زهور لمشاهدة العرض المسرحي «الحكرة» مساء اليوم الموالي لزيارتنا لها، لأن الظلام منعها من ذلك، هي العجوز التي لا تتضح لها الرؤية مع بداية غروب الشمس، فما بالك بحلول الظلام، وجدنا العذر لأمي زهور، لكن من عرفتنا عليهم من المغاربة جاؤوا في الموعد، وأحسوا بالفخر عندما وجدوا قنصل المغرب في تونس قد سبقهم إلى سوق الشواشين بالمدينة العتيقة، جالسا إلى جانب الفنانين والمثقفين التونسيين والمغاربة يحتسي الشاي والقهوة في ضيافة المركز الدولي للمسرح / ربط.
مشاهد أخرى علقت في ذهني وهي كثيرة، سجلتها للتاريخ في المقالات السابقة التي أختتمها اليوم، بجريدة الاتحاد الاشتراكي تحت عنوان»كنت في تونس الجديدة»، وهو العنوان الذي يحمل أكثر من دلالة، أترك للقارئ أن يحللها، ولدي في ذلك الثقة الكبيرة في ذكاء من يتابعون كتاباتي.
ومشاهد كاد ذهني أن يختزلها في العمل المسرحي الذي عرض بقاعة مركز ربط، والمتعلق بمنودراما قدمها الشاب التونسي الواعد نصر الدين عبيدي تحت عنوان: «بيتي الشارع»، جسد فيه تمزق في دواخل مواطن تونسي، كان يعلق آماله على حلم قتل بعد اغتياله، ليصبح ذلك الشاب في الشارع، بعدما كان يتمنى أن يحقق بلده مشروعا مجتمعيا، عنوانه الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. كان التشخيص الصامت الذي قدمه الممثل الشاب، يحمل دلالات كبرى أكبر من صوت الشاعر الذي يصل إلى مسامع الممثل والمتلقي معا. يقول الشاعر: «العمر يمضي مسرِعاً، وأنت عليك اللحاق به أو تركه يجري أمامك دون أن تكترث به.. ستنظر إلى وجهك في المرآة وتلاحظ ذلك الشيب الأبيض يغزو شعر رأسك، وستلاحظ أيضا السواد يمتد تحت عينيك. لا،  ستلاحظ أن عينيك أصبحتا أصغر ونظرتك أصبحت أقل لمعاناً وأقل شغفاً، لا تكترث، إنه العمر يمضي مسرعاً
لكن عندما تصل إلى قلبك، توقف قليلاً وقل له شكراً لأنه مازال كما هو طفلاً يلهو حافياً.. قل له شكراً لأنّه مازال صامداً ينبض بنفس الرتابه..
لأنه تحمّل الكثير والكثير من الفقد، الغياب، الحنين، الوجع، والقهر..
تا لِّله بقليلٍ من الحب وقليلٍ من الفرح، فهو يستحق..»
(انتهى)


الكاتب : بديعة الراضي

  

بتاريخ : 16/11/2018