كيف يعيش الناقد والروائي أحمد المديني عزلته الاضطرارية بباريس

العزلة حرفتي، والوحدة موطني

يربكني الحديث عن مثل هذه المسائل، لأنها في ما يخصني توجد في مستوى البداهة، عندي لا حاجة أن يكون لي فيها رأي، ما دمت أعتبرها من صميم وجودي ومعيشي. هكذا، مثلا، لا أحار جوابا حين أُسأل، متى تقرأ؟ متى تكتب؟ ماذا تقرأ في فصل الصيف، وأبحلق في الورقة أو سائلي ببلاهة وعدم فهم طفوليين. لذلك، لا أكابر إن قلت في هذا المقام بأن الوضع الذي يسمى أو يوصف في ظروف الوباء المقلقة بالعزلة يقع خارج دائرة تفكيري وإحساسي، كليا، بينما على العكس منه، نقيضه، يمكن أن يفطنني لوجوده، وغيابُه يثير في نفسي اللهفة والأشواق لاحتضانه كحبيب. وما ذلك إلا لأن (العزلة)، (الوحدة) ما نشاء، هي في مذهبي نظامُ عيش وإيقاعُ حياة، هي مسكنٌ وطقسٌ للعمل، ومن أوجب شروطِه، فأنا لا أكتب في المقاهي والأسواق وأثناء الترحّل حيث الهرج والزحام، أكتفي بالرصد والتجميع والتدوين في رأسي، وفي الوقت والمكان المناسبين يصحّ لي بوقار وجمال أن أضع حملي. لا علاقة للأمر بتلك الخلوات التي تغنىّ بها الرومانسيون، وطبعت في مرحلة بعض أعمالهم حتى غلبت عليهم وسما شططا، بينما الرومانسية روحها ثورية ونداؤها جامح، وليست أسيانة كما يتصور السُّذَّج. كذلك، خلوة الكتابة والقراءة هي غير الانصراف عن الدنيا وهموم الناس، بل ضرب من التعبد والخشوع تحتاجان إلى الصمت والوحدة والرهبة.
وهي (عزلة) لو لزم دائما استخدام الكلمة، حُرةٌ، شخصية، ما بالك لوقلنا تحتاج أحيانا إلى بعض الرفاه؛ لا هذه التي تفرضها ظروف استثنائية، كالتي نعيش حاليا مع الوباء، وتحت طائلتها يرزح أزيد من مليار من البشر ملزمين بالبقاء في بيوتهم، ممنوعين من الوجود في الخارج. على النقيض، وجدتُني أكتشف مع هذه النازلة أن الخارج هو مسرح العزلة، فالشوارع والحدائق والأماكن العامة إجمالا تنفلت فيها هذه الأيام، وأخرج للمشي بعض الوقت بما يسمح به القانون، وليس إلا الخلاء ممتد أمامي وحولي يحاصرني ، باريس المتحف المفتوح والبهاء المتبرج وكل أيقونات الحضارة والمدنية فيها ميتةٌ وخرساءُ بدون الإنسان، حتى البلابل التي تصدح عادة في مطلع الربيع أصابها البكم، والغربان تحلق تعبى تفتقد القوت، والبراعم لا تجد أنفاسا ترافق مخاضها وعيونا تراها تتفتح، ثم أشجار تستأنف الاخضرار بينما الكون إلى بوار؛ هي وحشة مطلقة، وهذه هي العزلة الخرقاء، ترعبني حقا، فأعود بخُفَّيْ حُنين إلى بيتي الذي أعُدّه دائما عالم الامتلاء، لأواصل الوحدة الخلاّقة، والسكينة الولاّدة، نعم أفتقد قهوتي وزيارة مكتبتي ومجالسة أصفيائي، وإلى طائرات تنقلني كما أحب إلى كل مكان، وأهواء نزقة ونافلة. سوى هذا، وفي انتظار رفع الحجر كي أفي بالتزامات دراسية وبحثية، تسير حياتي على ما يرام، في قلبها ساعات عملي، وأنس ليلي، “وحنيني لك يكوي أضلعي/ والثواني جمرات في دمي”..
فجأة، وأنا سأدخل إلى هلوسة الليل، حضر طيفاً بابتسامته الحفيّة والماكرة صديقي الكاتب عبد القادر الشاوي، فشعرت حقا بالخجل، وجرَحني السؤال، كيف أمضى فارس” الساحة الشرفية” أربعة عشر عاما من زهرة شبابه وراء القضبان في تلك العزلة المرعبة، بينما كنا نحن نعيش زعما أحرارا في تلك الفرجة الفاجرة .. واليوم، بضعة أسابيع من الحجر في بيوت مضيئة ومتخمة أو بلا خصاص، ماذا تساوي أمام أربعة عشر عاما من ال… ماذا؟! معذرة يا قطبحف


الكاتب : أحمد المديني

  

بتاريخ : 27/03/2020