لقاء – مناقشة مع عبد الله العروي: الحسن الثاني، الوطنية، الديمقراطية، الدستور، إمارة المؤمنين، انتقال العرش، دور المثقف ووضعية المرأة 2/2 

 

نظرة مؤرخ للمغرب في عهد الحسن الثاني

 

{ محمد العيادي:

أليس لهذا تقول إن الندرة سند للمخزن؟

> عبد الله العروي

إنها فكرة قديمة. لقد جرت العادة أن يقول الناس: «جَوّع كلبك يتبعك» أو «المجاعة هي الكتيبة الخامسة للسلطان». هذا ما نقرأه في جميع كتب السياسة العمومية.

أما فيما يخص وظيفة المثقف، فيجب النظر إليها داخل هذا المحيط. لقد اتهمت لغة الخشب لأنها تسمح للمرء بالتملص من مسؤولياته. نقول ما يلزم أن يقال، لأن ذلك لا يتطلب، أولا، أي مجهود في لغة لا نتقنها، عربية كانت أو فرنسية، وثانيا لأن هذا يمَكّن المتكلم من إخفاء جهله، وهو جهل نلمسه يوميا على كل المستويات.

{ محمد العيادي:

ونحن ننصت إليك، تمتلكنا الرغبة في سؤالك إن لم يكن لديك نزوع ثقافوي شيئا ما. تتحدث عن المغاربة بطريق يمكنها أن تحيل على نوع من الحتمية الثقافوية. من انبي، أفضل مقاربتك السابقة، أي تحميل المسؤولية للنخبة.

> عبد الله العروي

المقاربتان لا تقصيان بعضهما البعض. وحين أتحدث عن التربية، فأنا أشير إلى الذين تتوفر لديهم، أي الذين وسمتَهم بالنخبة. هل هناك استقالة من طرفهم؟ من اللازم علي أن أدقق حكمي حول هذه النقطة.

ليس نفور النخب من السياسة ظاهرة خاصة بالمغرب، بل صرنا نلاحظها في كل مكان بفعل تطور وسائل الإعلام. هناك، عندنا، نخبة جديدة مكونة من مهنيين، خبراء، لا تتوفر على ثقافة النخبة القديمة، أعني السابقة، وهي ذات نزوع إسلاموي لهذا السبب.

خلال مدة طويلة من الزمن، طالبت بإنجاز دراسة سوسيولوجية حول النخب. لكن ندائي لم يجد صدى لأن المثقف، أو من يسم نفسه بهذه الصفة، لا يرغب في رؤية نفسه في المرآة. وفي غياب مثل هذه الدراسة السوسيولوجية، يَبقى لي أن أعبر عن رأيي، بغض النظر عن قيمته، وهنا أصادف مجددا بعد الثقافة السائدة، التربية، الدور الاجتماعي، السكولوجية، التأسلية (العودة إلى طباع الأسلاف التي ابتعدت عنها الأجيال السالفة _ م). كيف تريدون أن أفسر بشكل آخر هذا الكتوم حيال البديهيات. فضلا على أنني لست أعمى، فأنا أبصر كيف يعيش المثقف المغربي يوما بعد يوم، أنا لا أحكم عليه من خلال خطابه، بل من خلال سلوكه.

توظيف التقليد وأوضاع النساء المغربيات

{ ف. العسولي:

إذا فهمت جيدا، فإنه لم يكن باستطاعة المغرب التوفر على مدونة للأحوال الشخصية مثل المدونة التونسية بسبب تقليديته السوسيو-ثقافية العميقة. أتساءل إن لم يكن الأمر يتعلق باختيار سياسي قررته النخبة الحاكمة أكثر مما هو نتيجة لمقاومة ثقافية من طرف المجتمع نفسه.

> عبد الله العروي:

كنت من بين الأوائل الذين تحدثوا عن توظيف التقليد، وموقفي الحالي له هدف بيداغوجي. هل السياسة المتبعة لتلبة مطالب المرأة هي السياسة الجيدة في الأمد البعيد؟ هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي بصدق.

يكمن أول واجب لرئيس دولة في ضمان الأمن الاجتماعي. ولا يمكن أن ننتقده لاستعماله التقليد لدعم نظامه، لأن هذه هي السياسة. وإذا أردناه أن يقوم بإصلاحات يمكنها، نظرا لطبيعتها، تزعزع توازن المجتمع، فمن اللازم أن يخضع لضغوطات كبيرة. وهي ضغوطات تأتي، حاليا، من الخارج، من المنظمات الدولية، وهو ما كان منعدما في المرحلة التي نتحدث عنها. يبقى مواجه السلطة، النخبة السياسية، ماذا عنها؟ إنه السؤال الذي أطرحه، وبشكل مشروع حسب ما يبدو لي. هل كانت النخبة السياسية في تلك المرحلة تمتلك ما يكفي من الثقة في قيم الحداثة لاعتمادها كبرنامج وفرض هذا البرنامج؟ خذوا جميع برامج أحزاب تلك الحقبة، حتى أكثرها تقدمية، وستلاحظون أن إصلاحات المجتمع لم تكن على رأس أولوياتها. كان من واجبي، كمؤرخ، أن أذكر بالسياق. لم يكن الحسن الثاني منفتحا بما فيه الكفاية على مثل هذه الإصلاحات، وهذا ما أكدته، لم يكن كذلك فحسب بفعل معتقدات إيديولوجية أو شخصية أو سياسية بديهية، بل أيضا لأنه لم يجد في مواجهته رجالا مقتنعين بضرورة تطبيق هذه الإصلاحات.

ونحن نسجل، من جهة، ضعف الخندق الذي كان بإمكاننا توقع موقف إصلاحي واضح من قبله، فإننا نجد في المقابل، من جهة أخرى، خندقا مناهضا للإصلاح جد حاضر، وخاصة في مجال مدونة الأسرة التي يجب التذكير بأن السلطات الفرنسية لم تغيرها. التقنين في حد ذاته كان يطرح مشكلة، كان يعتبر بدعة من طرف العلماء. كان علال الفاسي يبرر موقفه المعتدل قائلا إن دفع زملائه لقبول مشروع المدونة يفرض عليه الركون للحلول التقليدية للمذهب المالكي. من المؤكد، إذن، أن مناخ تلك المرحلة لم يكن مواتيا إطلاقا للإصلاح.

هذا ما يدفعني إلى القول إن المشكلة الحقيقية، على هذا المستوى، ليست ذات طبيعة سياسية، بل ثقافية. من الواجب تنظيم حملة توجيهية فعلية هدفها إقناع الناس بأن مسألة المساواة بين الرجل والمرأة شرط ضروري لتحسين الحياة اليومية للجميع. وإذا ما خسر الرجال في المدى القريب، فإنهم سيكونون رابحين في المدى البعيد. ولا يمكن أن يقوم العلماء بهذا العمل التفسيري، إذ ليست لهم مصلحة في ذلك حتى لو افترضنا جدلا توفرهم على قدرة القيام به. المطلوب هو طرح السؤال التالي على الباحثين الاجتماعيين والاقتصاديين، والمربين، الخ: هل وضعية المرأة في مجتمعنا سبب أساسي في التخلف أم لا؟ ويمكنهم طبعا أن يجيبوا سلبيا لأن الكثير من الأنثروبولوجيين يفعلون ذلك.  وفي حالة حصول الأمر، سننتقل إلى قضية أخرمثلما فعل أسلافنا. لكن، وفي حالة الجواب إيجابيا، فسنتوجه إلى رجال القانون ليجدوا لنا الحجج، الحلول القانونية (في قضايا الإرث على سبيل المثال). وفي آخر المطاف فقط، سنطلب من العلماء البحث عن توافق مع الله. لا شيء من كل هذا مستحيل إذا ما قمنا بمجهود على مستوى الخيال، لكن هذا الإعمال للخيال ليس هو نقطة قوتنا.

يتطلب الأمر نقاشا ينكب على التفاصيل، نقاش سيساعد في حد ذاته على تربية الرأي العام. لكن هذه السبيل ليست هي التي تم اعتمادها، إذ تم تفضيل التوجه مباشرة إلى «ممثل الله في الأرض». ومن ثمة، فإنه من الضروري أن يطرح الحل المقترح مشكلا، وبالضبط لأنه منبعث من فوق. لقد أضعنا فرصة تربية الشعب. ولتدارك الأمر، يتم شرح نص تم اعتماده، ألم يكن من الواجب أن يكون الشرح قبليا؟

 

ولا يتمثل الحاجز في توظيف التقليدفحسب، بل في التقليد نفسه. التقليد هو ما يجب محاربته، ولكنه من الضروري، قبل ذلك، معرفته وخاصة التعرف عليه.

 

مفارقة مغربية: الديموقراطية

وحماية الدولة

{ س. المستاري:

أريد، بارتباط مع طقوس وفاة الحسن الثاني التي صدمتك على كثير من المستويات، التوقف أولا عند مفهومي القدر والرؤية إلى العالم المهمين، واللذين بينتهما لدى المغاربة سواء كانوا من سوس، طنجة أو من جهات أخرى من المغرب. يمكننا، على سبيل التندر، أن نسأل المغاربة، بمختلف انتماءاتهم، عن مدى استعدادهم للتبرع بأعضائهم بعد الوفاة لصالح العلم مثلا، أو لإحراق جثتهم. حينها ستكشف الأجوبة عن  مجمل البعد الذهني والفكري للوعي الجماعي، ومن ثمة الوعي اللاهوتي-الميتافيزيقي الذي يجسد، إلى حد بعيد، معطى أساسيا من المتعذر مسه، معطى سيعمر عشريات أخرى بدون شك.

ثمة جانب في كتابك لم يشف غليلي. كنت أنتظر أن أجد، بين دفتي هذا الكتاب، تمديدا، وضع الأحداث في أبعادها، لكنني أظن أن العاهل الراحل قد تمت تبرئته من الكثير من الأشياء. نشعر كأننا، من جهة، أمام لعنة تطال المغربي الذي يتصرف مثل فلاح روسي في العهد القيصري: قدري، صالح للسخرة والاستغلال إلى أبعد الحدود، وهو شيء صحيح إلى حد ما، ومن جهة ثانية في حضرة تطرف ديني لا يمكن غض الطرف عنه. إن التطرف تولد، فضلا عن ذلك، في ظل ظروف أخرى، شروط أخرى وفي دول عربية إسلامية أخرى، وقد ساهم العاهل الراحل في نموه عبر ازدواجية تمثل بدعة في رأيي. الأمر يتعلق بالازدواجية الكامنة في إرادة أن يكون الإنسان عصريا وتقليديا في نفس الحين، وهو  زيغان يمس البناء الذهني والرؤية للعالم. إن الحداثة، تحديدا، مرحلة متسامية تقضم مجموع الجوهر التقليدي الذي تتأسس عليه الروحانيات، الخ. ليس من الممكن إذن أن يكون المرء حداثيا وتقليديا في الوقت نفسه. والحال أن الحداثة أصبحت اليوم شعارا مشتركا، في الآن ذاته، بين الليبراليين واليساريين، والإسلامين أنصار الشرعية والملكية. إذن نحن اليوم، في إطارما يشبه راية الحداثة والتقليد، أمام ازدواجية جديدة، وأعتقد أنه ما لم تحدث قطيعة صدامية على مستوى التربية والثقافة، وفي النهاية على مستوى السياسة، وبالبقاء في هذه الازدواجية، لا يمكن أن ننتظر شيئاً.

> ع. العروي:

إجمالا لخصتم أطروحتي، حاولت أن أكون موضوعياً في كتابي، لأنه كان هناك هدف بيداغوجي تجاه الشباب. الحسن الثاني قال لهم: مارسوا الأعمال، لا تمارسوا السياسة. كان معه الحق في ذلك بالنظر للظروف. لقد اتبعوا النصيحة وحقق الكثير منهم نجاحاً باهراً في داخل وخارج البلاد. لا يمكن لأحد أن يلومهم، ولكن النتيجة كانت هي إخلاء المجال السياسي، ولم يتم تجديده واقتحمه من هم أقل كفاءة. كان بإمكان آخرين تجديده، كانت لهم القدرة على ذلك، لكن تم تضليلهم، وأزِن جيداً كلماتي. فهم يعترفون بذلك اليوم من خلال ممارساتهم إن لم يكن من خلال خطاباتهم. القضية مرة أخرى، قضية تربية، لا يمكن أن نسب الماضي الذاتي. وبما أنه كان هناك الكثير من المسكوت عنه، أحسست أنه من واجبي التذكير بمناخ تلك الفترة.

أخذوا علي أنني أهملت خروقات حقوق الإنسان، تحدث عنها في «خواطر الصباح»، وفي الكتاب عن الحسن الثاني، لم أكن أريد إعادة كتابة التاريخ، ولكن كنت أريد الحديث عن الأحداث، كما عشتها، انطلاقا من 1975، لم يكن لي سوى انشغال واحد، هو الصحراء. لست في حاجة للاعتذار عن ذلك، على العكس. إذا كان البعض قد استعمل المشكل للانتقام من خصومهم، فأنا أقبل ذلك. ويبقى أن المُعَاش يطرح إشكالية، فعندما يكون لديك اقتناع بأن المصلحة الوطنية في خطر، تقومون بالاختيار وتتشبثون به، أعتقد أن هذه كانت وضعية بوعبيد الذي كان ديمقراطيا ووطنياً حتى النخاع.

أريد أن أذهب أبعد من ذلك، وهذا ما يعطي لكتابي نبرة خاصة فهو يعبر عن إحساس بالإحباط، فمنذ بداية القرن 19، لم نعرف كيف نزاوج بين الديمقراطية والدفاع عن الدولة. فالتاريخ والجغرافيا أجبرتنا في كل مرة على القيام باختيار صعب. التاريخ هو فشل الإصلاحات، والجغرافيا هي Insularité. ولا أعتقد أن هذا التناقض سينتهي عما قريب. فعندما يكون مصير الأمة في خطر، فإن اليسار هو المجبر على تقديم تنازلات. والذين اتهموني باستعمال الوطنية كذريعة يحكمون على مقاسهم.

{ حسن رشيق:

أعجبني كثيراً المقطع الذي خصصتموه للخدمة وللسخرة. وكيف ربطتم ذلك بالمسؤولية الفكرية في تحمل المفارقة، وهنا أنقل ما قلتم «المفارقة الإرادية بشكل أو بآخر».

> ع. العروي:

نتحدث اليوم ببساطة عن عبد الرحيم بوعبيد. لا يمكنكم أن تتصوروا الإحباط البسيكولوجي الذي كان يعيشه. أن تفهم وضعية، هو أن تكون قادراً على إعطاء رداء للمعيش. بوعبيد كان رجلا بحساسية كبيرة. لقد عاش الوضعية كمأساة دائمة.

المثقف والسلطة

{ ح. رشيق:

أعود الى سؤالي، هناك سلسلة من العناصر التي تشير الى المواقف أو المبادئ التي يجب على المثقف أو الباحث احترامها. أذكر بعضها مثل عدم القيام بالخطوة الأولى نحو الحاكمين، عدم الارتكاز على الخارج للضغط على النظام القائم مهما كانت هذه السلطة، عدم التقرب من الملك… تشرحون هذا بكثير من التردد. ولاستكمال هذه الصورة، أريد طرح بعض الأسئلة وأتمنى ألا تكون مزعجة: هل قبلتم القيام ببعض المهام من الملك وليس من الزعيم؟ هل كنتم ستقبلون مهام من طرف الملك ـ الزعيم؟ هل كنتم ستقبلون أن تكون مستشاراً لأسباب داخلية وليس لأسباب وطنية؟

> ع. العروي:

أجيبكم بكل صدق. المسألة لم تطرح أبداً، وما كانت لتطرح. فيما يخص السياسة الداخلية، لم يكن الحسن الثاني في حاجة لمستشار، و لم يتوفر على مستشار قط في حقيقة الأمر. كثيرا ما أخطأنا حول التأثير الحقيقي رجل مثل اگديرة. إن سياسة الحسن الثاني كانت، في حقيقة الأمر، من صياغته. كانت له نقاشات مطولة مع رجال كانوا يتقاسمونه نفس حساسيته، رجال مثل هنري كيسينجر، المنظر لسياسة علي منوال ميترنيخ. وثمة من استمر، على ما يبدو، في الترويج لكوني كنت مستشارا له. إنهم يشرفونني كثيرا بهذا،  لكنهم يجهلون أنه لا وجود لمستشار سري. المستشارون يعينون بظهير ينشر في الجريدة الرسمية، وهي الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها الحصول على راتب متواصل.

كان الحسن الثاني يحب أن نتحدث إليه حول المالية، الفلاحة والطب، لكن ليس السوسيولوجبا أو الانثروبولوجيا والعلوم السياسية. وبالنسبة إليه، فابن خلدون سفيه، رجل يميط اللثام عن أسرار الحرفة، بينما السياسة تنبني على المسكوت عنه، وبشكل أقوى على غير المكتوب. والمفكر تحديدا، في نظره، غير أهل للفعل السياسي، وهي وجهة نظر تستحق المناقشة.

لقد التقيته أربع أو خمس مرات. طلب لقائي لسببين. كان يعتقد خطأ، أنه كانت لدي علاقات شخصية بالقدافي، وكان يظن أنني سأجد الخطاب المناسب للتحدث إلى رجال اليسار الأوروبيين. والواقع أن الأمر كان يتعلق  بمسألة أساسية بالنسبة لي، والتي  يمكنني أن أكون مقنعا بشكل طبيعي حولها.

ما لم يتمكن الكثيرون من فهمه في تلك المرحلة (1975)، أو يودون تناسيه اليوم، هو أن اليسار الوطني كان يعتقد أنه استقطب الحسن الثاني لوجهة نظره. وكان هذا رأيي. لم يكن الأمر محسوما مسبقا بالنظر إلى طريقة تفكيره (الحسن الثاني)، وكذا مصالحه، إلخ. وهو ما أدرجه الجزائريون و أصدقاؤهم الأوروبيون في حساباتهم. الكثيرون، في الداخل والخارج، نصحوه باتخاذ الحيطة والحذر. لكن الأمر انتهى به، في آخر دقيقة، إلى اعتماد نفس اختيار الوطنيين،  وإن كان قد فعل ذلك لأسباب مختلفة عن أسبابهم.

بعد ذلك، اتخذ المشكل بعدا آخر تجاوز إمكانيات المغرب بكثير. حينها، لم يعد بإمكان اليسار فعل شئ لصالحه (الحسن الثاني). وكان كل ما بمقدور اليسار القيام به هو أن يظل وفيا للميثاق الضمني الذي يربطه به. من جد المشرف لرجل مثل بوعبيدأنه لم يتنكر لوعده الذي قطعه على نفسه، حتى لما كانت لديه أسباب تدعوه للاعتقاد أن الحسن الثاني لم يلتزم بوعده.

 

التربية عامل حاسم

{ محمد العيادي:

لا نعثر على مفهوم التاريخانية في كتابك، فقد تم استبداله بمفاهيم الاقتصاد السياسي

والليبرالية. هل يتعلق الأمر بمصطلحات ذات نفس الدلالة؟ هل سبيل الحداثة هو الليبرالية؟

> عبد الله العروي:

كنت أود أن يكون لي نقاش معمق مع الاقتصاديين، حول الفصل الذي خصصته للسياسة الاقتصادية. وأعتقد انهم يهملون، في كثير من الأحيان، الجانب النفسي للمغربي كمستهلك، مقاول أو موفر، الخ..

تاريخانيتي تتجلى، هنا، من خلال الأهمية الكبيرة التي آليتها للتربية الاقتصادية. إنها فكرة أدافع عنها منذ سنوات، و قد عثرت عليها ثانية مطورة ضمن كتاب ذكريات ميشيل روكار الذي ألمحت إليه. وحسب الكتاب، فسبب انحسارات المجتمع الفرنسي يكمن في ضعف المعارف الاقتصادية على مستوى التعليم الإعدادي. طالما لا نشرح لتلاميذ هذا المستوى الدراسي مصدر الثراء، وطالما الاقتصاد السياسي ليس جزءا أساسيا ضمن منظومة التربية المدنية، لن يحصل هناك تحول في عقلية الأشخاص. فهم ما يزالون يؤمنون بالهبة السماوية. أتصفح كتابا تربويا موجها لتلاميذ يتراوح عمرهم بين 13 و14 سنة، فماذا أقرأ في الصفحة الأولى من الفصل الأول: ما هو الغيب؟ (السؤال الفلسفي المتعذر تمييزه)… وهو نفس الطفل الذي سيقول له أستاذ الكمياء إن الماء يتكون، بالضرورة، حينما نمزج كميات محددة من الأوكسيجين والهيدروجين، والطفل ذاته سيسمع في المساء، من خلال التلفاز، أن جو الغد سيكون صحوا أو ممطرا، الخ. ففي أي عالم يتم إعداد هذا الطفل للعيش فيه؟ في عالم اللامتوقع أو عالم السببية؟ كيف يمكن لمثل هذا الطفل أن يكون واثقا من نفسه وحاسما؟ ومع ذلك، فخلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة، كان وزراء التربية جميعا من رجالات اليسار. ألم تتح لهم الفرصة ليلقوا نظرة على الكتب المدرسية؟ (الحاضرون يشيرون إلى أن المسألة تم تداولها إعلاميا). إننا نعد رجالا بدهنية مجزأة.

لقد شكل نوع من الإهمال على المستوى الثقافي سببا في انتشار المد الإسلاموي، وذلك ليس في المغرب بمفرده، وحالة مصر عبد الناصر من بين العوامل التي دفعتني إلى كتابة «الإيديولوجيا العربية المعاصرة». وبعد أربعين سنة، ها نحن نجد أنفسنا في ذات الوضعية. هناك رجال ما يزالون ينادون بالاصطفائية، وينادون بإمكانية المزاوجة ما بين الحداثة والتقليد كما لو أن هذا ممكن. إن الحداثة، حينما لا يتم التشبع بها بشكل كامل، لا يمكنها إلا أن تعمق التقليد. نحن نشاهد هذا يوميا على شاشات التلفزيون. إن نوعا من الاستقطاب الجدي والواضح، هو بدون شكل ضروري.

 

ننشر، ضمن هذا العدد، ترجمة الجزء الثاني والأخير من الحوار/ النقاش المطول الذي أجراه باحثون من هيئة تحرير مجلة «مقدمات» والذي تضمنه عدد المجلة الصار في صيف 2006 (انظر عدد أول أمس الأربعاء من التحاد الاشتراكي)

وقد تمحور الحوار حول مرحلة الحسن الثاني، الوطنية، الديموقراطية، الدستور، إمارة المؤمنين، دور المثقف وعلاقته بالسلطة، توظيف التقليد، أوضاع النساء المغربيات والتربية.

وقد صدرت المجلة الحوار/ المناقشة هذا بافتتاحية مما جاء فيها:

«عبد الله العروي هو، وفق التعبير الجاري، مفكر غني عن التعريف، كما تدل على ذلك غزارة وتنوع إنتاجه، واتساق و عمق أطروحاته الفكرية، وكثرة ما كتب عنه (…).

«لقد اغتنمنا فرصة صدور كتابه الأخير «المغرب والحسن الثاني»، وإتمام عملية نشر مذكراته «خواطر الصباح» لنسعى إلى ملاقاته في حوار ـ مناقشة أردناه منصبا على الجوانب العملية. إذ حاولنا من خلال أسئلتنا أن نعرف بعض عناصر قراءة عبد الله العروي للتاريخ المغربي الراهن (1956 – 1999)، وكيف تلمس شخصيا، كمفكر وكمثقف وفاعل سياسي ملتزم، طريقه في متاهات زمن سياسي طبعته من بين ما طبعه المواجهات الدرامية والفرص الضائعة.

«قراءة عبد الله العروي لعهد الحسن الثاني وللتجربة السياسية المغربية المعاصرة بصفة عامة، تتميز، على غرار إنتاجه النظري، باستحضار متواصل للوقائع في تعقدها وتداخلها، مما يجعلها في قطيعة تامة مع النظرة المانوية والدوغمائية الإيديولوجية. فقد شدت انتباهنا في حديث العروي عن التاريخ والسياسة وموقعه الذاتي كـ «متفرج ملتزم» (عبارة وصف بها آنفا المفكر الفرنسي ريمون آرون)، عناصر ثلاثة:

«- قراءة إرادوية للتاريخ كمسار منفتح يتحدد بأفكار واختيارات وأفعال البشر، وذلك بعيدا عن كل قدرية عمياء أو تأويل كلياني للتاريخ.

«- إصرار على إعمال العقل في وصف ومقارنة وتأويل الوقائع والأحداث، باعتباره الأداة المتوفرة للبشر لتنظيم وتأويل معيشهم. وهذه العقلانية النشطة باستمرار تجعل قراءة العروي للسياسة ـ عكس السائد في الحقل العربي ـ أبعد ما تكون عن المقولات الأخفاقية (الخير والشر).

«- ويتمخض عن العنصر السابق انحياز عميق للواقعية في الفكر والفعل السياسيين، وذلك ضد الطوباوية والرومانسية التي تؤثث الخطاب السياسي في المجال العربي ».

 


بتاريخ : 15/10/2010