لماذا تهتم الدول الاستعمارية بملابس النساء؟

 

في عام 1820 بمدينة بيناريس الهندية، تمكن راهب معمداني انجليزي يدعى سميث من إنقاذ إحدى النساء الهندوسيات من طقس «الساتي» الهندوسي الشهير، طقس إحراق الأرامل.
وقد دون الراهب سميث في سجلات بعثته التبشيرية إلى الهند، وصفًا للمشهد الرهيب :
)وبمجرد أن مست النيران جسدها، انتفضت المرأة من بين ركام الحطب المشتعل صارخة، فسارع الرجال بإمساكها توطئة لإلقائها مرة أخرى إلى ألسنة اللهب، فطفقت تصرخ: لا تقتلوني، لا أريد أن أحترق).
وبالفعل لم تمت المرأة، ولم تلتهمها النيران كما كان معدًا لها، وإنما عادت سالمة إلى منزلها، فقد كان من بين الحضور في المشهد الرهيب عدد من رجال «شركة الهند الشرقية» البريطانية، الذين قاموا بإنقاذها من مصيرها المروع وإعادتها إلى بيتها في أمان؛ والتقطت إحدى الصحف اللندنية تلك الواقعة، وتحت عنوان « تحرير امرأة هندية» قامت الصحيفة بإبراز الحدث مسلطة الضوء على بطولة وشجاعة رجال شركة الهند الشرقية وجهودهم العظيمة في إنقاذ المرأة الهندية المسكينة من الموت حرقًا بموجب «الساتي»…. ذلك الذي إن كان ثمة شيء يعرفه أوروبيو القرن التاسع عشر عن الهند فإنه لن يكون سوى ذلك الطقس.
كانت شركة الهند الشرقية في ذلك الوقت تمثل السلطة الحاكمة الفاعلة لانجلترا في الهند؛ ونظرًا لطبيعتها ككيان تجاري بالأساس فإنها لم تكن تعير التفاتاً للنواحي الثقافية، أما بصفتها كيان حاكم فقد أخذت تعمل على «إصلاح» العادات المحلية الهمجية التي سادت الهند آنذاك ومكافحتها بكل السبل.
وبعد قرنين من الزمن جاءت «الإمبراطورية الأمريكية» لتحل محل الإمبراطورية البريطانية، وجاءت أفغانستان لتحل محل الهند على طريق ما يمكن أن يطلق عليه ” إنقاذ النساء من العادات الهمجية في بلادهن”!، ففي الزمن المعاصر خرجت العديد من الأصوات تستصرخ الولايات المتحدة الأمريكية لإنقاذ النساء في أفغانستان وتحريرهن… في عام 2002 قامت مجموعة من المنظمات النسوية الغربية بإرسال خطاب مفتوح إلى الرئيس الأمريكي جورج. دبليو، بوش، يستحثثنه فيه على التحرك العاجل لإنقاذ أرواح ومستقبل النساء الأفغانيات، وكان من بين الموقعين على الخطاب السيدة إليانور سميل رئيس مؤسسة الأغلبية النسوية في فرجينيا، وعدد آخر من الشخصيات النسائية البارزة مثل : جلوريا شتاينم، إيف إينسلر، ميريل ستريب، وسوزان ساراندون؛ وقد أشرن في خطابهن إلى أن نساء الولايات المتحدة الأمريكية إنما يؤيدن بقوة الحرب على أفغانستان، لأن تلك الحرب: (ستحرر النساء الأفغانيات من الاستغلال والقمع).
وفي يوليو 2004، أي بعد ثلاث سنوات من الغزو الأميركي لأفغانستان، أعلن بوش الانتصار قائلًا: (قبل ثلاث سنوات، كانت أقل وابسط مظاهر الفرح محظورة… كانت النساء يتعرضن للضرب والأذى لمجرد ارتدائهن لأحذية ملونة. أما اليوم فإننا نشهد نهضة ثقافة أفغانية نابضة بالحياة).
وفي مارس من عام 2015، كتبت المراسلة الصحفية إليسا روبين في مجلة النيويورك تايمز تحقيق صحفي تحت عنوان «الخط الرفيع للدفاع عن النساء في مواجهة جرائم الشرف»، عن قصة « فهيمة»، المرأة الأفغانية التي استطاعت الفرار واللجوء إلى إحدى مراكز إيواء النساء في أفغانستان، وهي المراكز/ الملاجئ التي تمت إقامتها أثناء الحرب الأمريكية في أفغانستان، وتم تمويلها بالكامل من تبرعات بعض الشخصيات الغربية. تقول روبين في تحقيقها الصحفي: (تلك الملاجئ… إنها واحدة من أكثر نتائج الوجود الغربي في أفغانستان نجاحًا – واستفزازًا أيضًا – والتي تدل بوضوح على مدى حاجة النساء الأفغانيات لحمايتهن من بطش أسرهن وتمكينهن من اتخاذ قراراتهن بأنفسهن).
ومابين إنهاء طقس حرق الأرامل الهنديات في القرن التاسع عشر، وإقامة ملاجئ لحماية النساء الأفغانيات في القرن الحادي والعشرين، حوالي ما يزيد عن مائتي عام، حافلة بقصص ” الأنجلو- أمريكيين” الذين وقفوا في وجه العادات المحلية المروعة، وسعوا لحماية النساء الضعيفات من التقاليد الهمجية الوحشية… قصص عجت بها سجلات البعثات التبشيرية الإنجليزية، والتقارير الصحفية الأمريكية لمجلة النيويورك تايمز وغيرها.
ولكن، في واقع الأمر، وبعد مرور أكثر من عقد من الزمن على احتفاء الرئيس بوش بتحرير النسوة الأفغانيات، ومطالبات النسويات الأمريكيات بمواصلة الحملة العسكرية على أفغانستان، لم تتحرر نساء أفغانستان!
بل على العكس، ازداد العنف ضد الأفغانيات مابين عامي 2012 و 2013 بنسبة 25% ، ولم تتمكن الوكالات الأمريكية، التي تم تمويلها بملايين الدولارات لمساعدة الأفغانيات، من توضيح كيفية استخدامها لتلك الأموال الطائلة في حمايتهن ولا ما حققوه على أرض الواقع في هذا الشأن.
لقد تغيرت الكثير من الأمور منذ زمن شركة الهند الشرقية البريطانية وحتى زمن التحالف بين بوش والجماعات النسوية، ولكن بقيت النظرة القديمة للغزو الأنجلو- أمريكي كعمل يتسم بالخيرية، كما هي لم تتغير!
*التركيز بشكل خاص على النساء وإنقاذهن، لماذا؟
لماذا يتم دوما التركيز على إنقاذ النساء كقضية محورية وتبرير أساس للغزو والإحتلالات ؟، هل حقًا تمثل حياة النساء وحريتهن وملبسهن وزواجهن مسوغًا قويًا لتبرير الهيمنة الأجنبية وغزو البلدان، وتصوير ذلك كفعل خيري؟… لقد جرى اتهام النساء في جنوب آسيا وأفغانستان بالتواطؤ مع الإمبريالية والاستعمار، ومن ثم فإننا في هذا المقال الاستقصائي إنما نحاول رفع ذلك الاتهام بالتواطؤ مع المستعمر عن كاهل أولئك النساء من خلال كشف النقاب عن كيفية استغلال أصحاب النزعات الاستعمارية لقضايا مثل حرية المرأة وملبسها لخدمة مطامعهم، وكيف أن النساء على أرض الواقع لم يكن لهن علاقة بتلك المطامع والمشاريع الإمبريالية…
في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، سافرت امرأة بريطانية تدعى آنيت اكرويد إلى كالكوتا مع والدها لتأسيس مدرسة هناك لتعليم الفتيات الهندوسيات، وكان الجميع في تلك الفترة على علم تام – من خلال الصحافة البريطانية – بالوضع المزري الذي تحيى فيه النساء هناك.
وبمجرد وصولها إلى الهند، كانت صدمة أكرويد هائلة إزاء مظاهر العنصرية البريطانية ضد الهنود، إلا أنها أيضًا قد شعرت بصدمة أخرى بصدد ملابس النساء المحليات هناك : الساري الهندي، حيث ارتأت أن ذلك الزي المحلي إنما يجعل من النساء شبه عاريات، وهو ما لم تتقبله أكرويد أبدًا ورأت فيه ابتذالًا وافتقارًا للحشمة، وكتبت معبرة عن أفكارها ومشاعرها: (لابد من إحداث تغيير في ذلك الزي، لا يمكن لأولئك النساء أن يظهرن هكذا بتلك الملابس).
وبالنسبة للمبشرين المسيحيين الذين انتشروا عبر أرجاء الهند خلال القرن التاسع عشر، صارت ملابس النساء هناك بمثابة الشغل الشاغل لهم؛ ففي كيرالا الهندية، لم يتقبل هؤلاء المبشرون ولا الإدارة الاستعمارية للمنطقة حقيقة أن النساء هناك لا يقمن بتغطية أثدائهن، حتى أن أحد هؤلاء المبشرين قد اتهم أولئك النسوة بالفجور والخيانة لأزواجهن؛ ومن هنا أخذت البعثات التبشيرية في الهند، بمساعدة الإدارة الاستعمارية الإنجليزية، على عاتقها مهمة إقناع النساء بتغطية أجسادهن وارتداء ملابس أكثر ” حشمة”، وقد اهتموا بصورة خاصة بضرورة جعل الهنديات اللائي اعتنقن المسيحية يغطين صدورهن.
لطالما كانت ملابس النساء بمثابة مؤشر للانتماءات الثقافية والدينية لهن؛ ففي عام 1813 أصدر رئيس الوزراء البريطاني العقيد جون مونرو قرارا بإلغاء ما تقوم به النساء من طبقة النادار الهندية من تغطية صدورهن بالأوشحة، وارتداء السترات المحتشمة التي شرعت نساء البعثات التبشيرية في حياكتها لهن بدلًا من تلك الأوشحة. إلا أن تلك السترات لم تلق أي شعبية في أوساط النادار، وأصرت نساء النادار على الاستمرار في ارتداء الأوشحة ولكن من نوع معين. هنا ظهر نوع آخر من الصراع حول الملبس، ليس مع البعثات التبشيرية هذه المرة، وإنما مع النساء من الطبقات العليا اللائي كن يرتدين نفس نوع الأوشحة التي قررت نسوة النادار التوشح بها.
هنا قامت السلطات الاستعمارية بإصدار أمر آخر يطالب نساء النادار بضرورة الالتزام بارتداء السترات ذات الأكمام التي لم يكن يفضلنها، ومنعهن من استخدام الأوشحة التي كانت السلطات البريطانية فيما مضى قد شجعتهن على إخفاء صدورهن بها في بادئ الأمر.
وبحلول زمن استقلال الهند عام 1947، كان البريطانيون قد نجحوا بالفعل في إدخال تغييرات على ملابس النساء الهنديات، خاصة لأولئك النساء اللائي كن يتطلعن للظهور بمظهر أكثر تحضرًا يماثل مظهر النساء الإنجليزيات، وتراجع الساري الهندي المثير أمام السترات ذات الأكمام والتنورات النسائية.
والحق أن ذلك التحول في ملبس الهنديات قد جاء ليمثل اعترافًا صريحًا واضحًا بالسلطة الاستعمارية الإنجليزية على الهنود.
بالعودة إلى زمننا الحاضر، أولت الحرب الأمريكية على أفغانستان اهتمامًا خاصًا بالملابس النسائية في جنوب آسيا. في يوم 16 أكتوبر من عام 2001 قامت النائبة الديمقراطية كارولين مالوني بارتداء البرقع الأزرق الأفغاني الشهير في قلب الكونجرس الأمريكي، ووقفت تقول: إنه لمن العسير علي أن أتنفس أو ار شيئا في هذا الزي… إنه لأمر مهين للغاية..
لقد ارتدت مالوني الزي النسائي الأفغاني هذا داخل الكونجرس نفسه لإيصال رسالة معينة مفادها : أن الحرب الأمريكية على أفغانستان هي حرب عادلة وان الأمريكيين ليس لديهم خيار سوى شنها.
منذ أكثر من عقد من الزمن، كان البرقع الأزرق يمثل رمزًا لقمع المرأة في أفغانستان، ولطالما احتفت وسائل الإعلام الأمريكية بنماذج للمقاومة النسائية لذلك البرقع، مسبغة عليهم آيات البطولة والشجاعة؛ ففي مايو من عام 2015 سلطت مجلة النيويورك تايمز الأمريكية الضوء على رسامة الجرافيتي الأفغانية مالينا سليمان، محتفية بها حيث وصفتها في العناوين الرئيسية التي تصدرت المقالة بأنها : المرأة التي تخاطر بحياتها لتتحدى البرقع- رمز القمع- في مواجهة طالبان.
وبعد نشر تلك المقالة بيومين قام البرلمان الهولندي بحظر البرقع في المناطق العامة بهولندا، وأصدر رئيس الوزراء الهولندي حينها مارك روت بيانًا قال فيه : أن ذلك الحظر قد صدر لحماية الأمن القومي للبلاد.
قبل ذلك بعام واحد، تحديدًا في يوليو 2014 أيدت محكمة حقوق الإنسان بالإتحاد الأوروبي الحظر الذي كانت فرنسا قد أصدرته على البرقع، ورفضت المحكمة الحجج التي ساقتها إحدى النساء المسلمات المعارضات لحظر البرقع والتي قالت إن منع ارتداء البرقع إنما يمثل انتهاكًا لحريتها في اختيار الملبس الذي ترتديه.
وقد سعت النسويات الغربيات دومًا لإعطاء أبعاد أكثر عمقًا لمسألة رفض البرقع، فها هي المراسلة الصحفية إليسا روبين مرة أخرى تتحدث عن البرقع وتصف لقرائها كيف يبدو إحساس المرأة التي يفرض عليها ارتداء هذا الزي، وذلك في مقال لها بالنيويورك تايمز في مايو 2011: (لقد شعرت وأنا أرتدي البرقع وكأنني كائن مرفوض منبوذ، وكأنني لست أهلًا لكي أظهر على العامة، فجلست في المقعد الخلفي وقد غمرني شعور عارم بالسلبية والاستسلام، ولم يكن علي حينها سوي الصمت التام).
لقد ظلت ملابس النساء هي الرمز الأقوى لكل ما هو خطأ في الثقافات المحلية وكل ما يتعين تصحيحه بها… وحينما يتعلق الأمر بحرية المرأة في اختيار الملبس فإن ذلك يعني في حقيقته أن تختار النساء الملابس التي “تقرها” الإمبراطوريات أو القوى المهيمنة.
في نوفمبر 2001 كتبت مورين دوود معبرة عن شكوكها بشأن استخدام حقوق المرأة كذريعة لشن الحروب، ووصفت الاهتمام بحرية المرأة وحقوقها بأنها عبارة عن وسيلة ترويجية لتسويغ الحرب، إلا أن دوود لم تحذر بشكل قاطع وواضح بشأن استغلال حقوق النساء لخدمة الأغراض التوسعية والهيمنة للإمبراطوريات الكبرى.
مثلما كانت تغطية الصدر ذريعة ملائمة لفرض الهيمنة البريطانية في الهند، لعب البرقع الأفغاني نفس الدور بالنسبة للهيمنة الأمريكية في أفغانستان، ولكن في حقيقة الأمر كانت حقوق النساء الأفغانيات أبعد وأكثر عمقًا من فكرة البرقع الذي كان بمثابة عنصر أساس في حياة الأفغان من قبل سيطرة طالبان؛ وقد انتقد عدد من ناشطات حقوق المرأة الأفغانيات هوس الغرب بقضية البرقع وتركيزهم عليها دون غيرها، وفي 2001 أعلنت الرابطة الثورية للنساء الأفغانيات أن إنهاء فرض البرقع يعد بشكل أو بآخر مؤشرًا على حقوق المرأة الأفغانية وحريتها، إلا أنه ليس كل شيء، حيث بقيت الجوانب الأخرى من حياتهن وأفكارهن ورغباتهن بعيدة كل البعد عن اهتمامات الغرب الذي لم يكن ير سوى البرقع كمبرر أخلاقي للحرب والهيمنة الإمبريالية.
لقد عرفت القوى الاستعمارية منذ زمن بعيد أنه لكي تتمكن من الاستمرار في هيمنتها الاستعمارية فإن عليها أن توجد لنفسها مبررًا أخلاقيًا يخولها البقاء والاستمرار، وهو ما لن يتحقق ما لم تسوق تلك القوى نفسها باعتبارها الخيار الأفضل لحياة ومستقبل أصحاب الأرض المستعمرة، وكان على عملاء تلك القوى- سواءً كانوا أعضاء شركة الهند الشرقية في زمن الإمبراطورية البريطانية أو الجنود الأمريكيين في أفغانستان- أن يؤمنوا تمامًا بعدالة ما يحاربون من أجله وأخلاقية ما يفعلونه، ومن ثم فبإبراز بعض الطقوس والممارسات المحلية، كالساتي الهندوسي مثلاً، يصبح للاحتلال جانبًا أخلاقيًا ويتحول المستعمر إلى منقذ يحمي النساء الهندوسيات الضعيفات من وحشية الطقوس الهندوسية.
إلا أن الواقع كان أكثر تعقيدًا مما صوره المستعمرون، فطقس الساتي مثلًا لا يمكن لأحد أن ينكر أنه طقس بربري همجي، لكن المستعمر البريطاني كان يدرك جيدًا أن هذا الطقس لا يمارس في كافة أرجاء الهند وإنما في مناطق محددة وطبقات معينة، وبالتالي لم يكن ليستحق أن يصبح هو المعلم الوحيد للثقافة الهندية الذي يتم تصديره للأوروبيين، ولكن للأسف قام المستعمر البريطاني بالترويج لفكرة أن طقس الساتي هو الطقس الأهم والأكثر قدسية لدى جميع الهندوس.
وتتجلى تلك الصورة كأوضح ما يكون في رواية جول فيرن الشهيرة ” حول العالم في 80 يوم”، حيث يواجه بطل الرواية فيلياس فوج تلك الممارسة في إحدى الغابات الهندية، ويروي له رفيق سفره مايدور في تلك الطقوس فيقول : نعم، إنهم يحرقونها وهي على قيد الحياة… إنك لا تتخيل نوع المعاملة التي ستتلقاها إن لم ترضخ لذلك.. سوف يقوم أهلها بحلق شعرها تمامًا، ولسوف يعاملونها باحتقار كمخلوق نجس، ولن تنل من الطعام سوى قدر ضئيل من الأرز، وفي النهاية ستموت في ركن ما ككلب..
ثم يتمكن البطل فوج، بمعاونة خادمه الأمين جان باسبارتو، من إنقاذ الأميرة وتصل المغامرة إلى نهايتها السعيدة.
كان الساتي في مخيلة المستعمر البريطاني طقسًا دينيًا ثقافيًا شديد الغموض وفي نفس الوقت شديد الرسوخ في نفوس الهندوس بفعل النصوص البراهمانية التي لا يجرؤون على عصيانها؛ ولكن في حقيقة الأمر كان ذلك التصور السائد صناعة بريطانية بحتة! خلقها البريطانيون بأنفسهم، فحينما أراد المستعمر البريطاني تقديم نفسه كخليفة شرعي للإمبراطورية المغولية المهزومة، أمر بترجمة كافة النصوص الفيدية والهندوسية ومن ثم تدوينها كقانون عام يحكم الرعايا الهندوسي.
إلا أن الترجمة البريطانية لتلك النصوص جاءت رديئة وفقيرة، كما أنها قد أغفلت العناصر الرئيسية للطبيعة «الكونية» الكامنة في الديانة الهندوسية، والتي لم يستوعبها البريطانيون واعتبروها غير ذات صلة بالتشريع القانوني الذي أرادوه، فأسقطوها من ترجماتهم للنصوص.
أضف إلى ذلك الآراء التي أوردتها عدد من النساء الهندوسيات حول طقس الساتي والتي تثير الكثير من الشكوك حول مدى “حقيقية” الأصل الديني لهذا الطقس، حيث ترجح تلك الآراء أن هذا الطقس الخاص بحرق الأرامل إنما يعود في أصله لأسباب اجتماعية ومادية وليس دينية ، وهو ما تؤكد عليه الكاتبة الهندية الأمريكية لاتا ماني، والتي تشير بوضوح إلى أن ذلك الطقس إنما مرده لأسباب مادية بحتة اكتسبت بعد ذلك طابعًا دينيًا مع تدخل رجال الدين في ممارساته وتلاوتهم للنصوص المقدسة أثناء إقامته.
ثم جاء الاستعمار بمفاهيمه وتصوراته الخاصة ليقلب كل شيء، ويجعل الدين بمثابة المبدأ الأساس ونقطة الارتكاز للمجتمع الهندوسي، بما لم يدع أي مجال للنظر إلى الأبعاد الاجتماعية والمصاعب المادية التي تواجهها النساء حينما يترملن وما قد يفضي إليه ذلك، بحيث يمكن فهم طقس الساتي في إطاره الصحيح. من هنا فرض الاستعمار فكره الخاص وأسكت حتى النساء اللائي صور نفسه على أنه يبتغي حمايتهن.
بعد شهر واحد من قيام النائبة مالوني بالوقوف في قلب الكونجرس الأمريكي متشحة بالبرقع، في 2001، خرجت السيدة الأولى حينها لورا بوش منددة بوحشية طالبان ضد النساء الأفغانيات، ودعت المجتمعات المتحضرة في جميع أنحاء العالم لتوحيد الجهود للوقوف في وجه تلك الوحشية، لأن: {هؤلاء الإرهابيون يبغون فرض ذلك على باقي أرجاء العالم} ؛ وبدأ موظفو البيت الأبيض وعدد من أعضاء الكونجرس يظهرون إلى العامة وهم يتشحون بقطع ممزقة من البرقع الأزرق لإظهار الدعم والتضامن.
ومثلما تم استخدام طقس الساتي لخدمة المشروع البريطاني الاستعماري في الهند، تم استخدام قمع طالبان للنساء لخدمة الحرب الأمريكية في أفغانستان، ففي نوفمبر 2001 أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريرًا بعنوان ” حرب طالبان ضد النساء” بالتزامن مع دعوة الحرب التي أطلقها بوش.
وكما أصدر المستعمر البريطاني قراره بحظر الساتي، مبررًا ذلك بأن هذا الطقس لم يكن في الأصل ركنًا دينيًا في الكتاب المقدس الهندوسي، خرج تقرير الخارجية الأمريكية ليؤكد على أن الدين الإسلامي لا يفرض البرقع أو يقضي بإقصاء النساء من الحياة العامة.

جرائم الشرف:

منذ انطلاق النداءات الداعية إلى غزو أفغانستان عام 2001، خرجت علينا وسائل الإعلام الأمريكية بحكايا لا تنتهي عن «جرائم الشرف» التي يرتكبها الرجال الأفغان ضد النساء، حيث يقتلون زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم اللائي يتجرأن على الخروج عن طاعتهم، تحت مسمى الدفاع عن الشرف.
وفي أغسطس من عام 2010، أي بعد تسع سنوات من الاحتلال، حينما بدأت الانتقادات الموجهة ضد الحرب الأمريكية على أفغانستان تعلو وتكتسب زخمًا، ظهر عدد مجلة التايم الشهيرة وعلى غلافه صورة لفتاة أفغانية مجدوعة الأنف مشوهة بشكل مروع، تحت عنوان «ماذا سيحدث إن غادرنا أفغانستان»، حيث تروي المجلة قصة الفتاة عائشة ذات الثمانية عشر ربيعًا والتي تم قطع أنفها بأمر من أحد قادة طالبان كعقاب لها على محاولتها الفرار من الإساءات والانتهاكات التي تعرضت لها من بعض من ذويها. واختتم التحقيق الصحفي قصة عائشة بالإشارة إلى أن بعض الجهات الأمريكية قد أكدت أن الفتاة ستخضع لجراحة ترميمة لوجهها… وكأن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على إصلاح كل شيء، لاسيما الفظائع الناتجة عن وحشية الرجال الأفغان تجاه نسائهم.
والحق أن قصص البطولة الأمريكية في إنقاذ الأفغانيات من القتل باسم الشرف في القرن الحادي والعشرين لم تختلف كثيرًا عن قصص البطولة البريطانية في إنقاذ الهندوسيات من الساتي في القرن التاسع عشر، وإنما جاءت القصص الأمريكية كصدى للقصص البريطانية، تحمل نفس الفكرة وتتبنى نفس النهج.
في عام 2012 خرجت إلى العالم قصة أخرى من قصص «الإنقاذ» الأمريكية تحت عنوان « في مواجهة الموت- فتاة أفغانية تلوذ بالفرار إلى الجيش الأمريكي» حيث تروي لنا تلك القصة حكاية الفتاة لينا الأفغانية التي فرت من إخوتها الذين كادوا يقتلونها، والفرحة العارمة للفتاة أثناء تواجدها داخل القاعدة العسكرية الأمريكية، حيث تتناول الآيس كريم و تجرب الأكلات الأمريكية في مطعم القاعدة، وكيف أنها تعلمت اللغة الإنجليزية سريعًا بفضل الأفلام التي كانت تشاهدها هناك. ثم تتصاعد دراما تلك القصة الشائقة حينما ينصح المستشارون إدارة القاعدة الأمريكية بضرورة إعادة الفتاة إلى موطنها مرة ثانية حفاظًا على السلم العام هناك؛ وفي النهاية يتم التوصل إلى حل وسط يتلخص في إرسال الفتاة إلى إحدى ملاجئ النساء في مدينة أفغانية أخرى.
وكما تم قديمًا التعامل مع طقس الساتي بعيدًا عن سياقه الاجتماعي المادي، تم التعامل مع جرائم الشرف الأفغانية على ذات المنوال، أي تم فصلها تمامًا عن الدوافع والظروف الاجتماعية والمادية للأطراف المتورطة بها، وأخذ الأمريكيون ينظرون للرجل الأفغاني على أنه كائن وحشي بلا مشاعر يوجه سهام وحشيته إلى المرأة الأفغانية الضعيفة المضطهدة، مدفوعا في ذلك بأفكار وقواعد أخلاقية بالية تنتمي للعصور الوسطى… لقد لعبت تلك النظرة دورًا أساسيًا في جذب أنظار العالم لاتجاه آخر بعيدًا عن ضحايا الغارات الأمريكية على المدنيين الأفغان، تمامًا مثلما لعبت قصص ضحايا الساتي دورًا هائلاً في إبعاد الأنظار عن عنف المستعمر البريطاني.
بكلمات أخرى، نجح الأمريكان من خلال تسليط الأضواء على جرائم الشرف في أفغانستان في تشتيت الانتباه تمامًا بعيدًا عن الغارات والتفجيرات وأفعال الاعتقال والقمع الوحشي والتعذيب التي ارتكبتها القوات الأمريكية خلال حربها على أفغانستان.
يرتكز التحليل الصادق الدقيق لأي ظاهرة كانت على ضرورة وضع تلك الظاهرة في سياقها العام التي تحدث في إطاره؛ انطلاقاً من تلك القاعدة، فإنه لا يمكننا أن نقوم بتحليل ظاهرة جرائم الشرف دون أن نأخذ في اعتبارنا وضع المجتمع الذي تحدث به تلك الجرائم، وهنا يجب علينا الاعتراف بأن المجتمع الأفغاني قد تم كسر بنيته الأسرية والمؤسسية نتيجة لخمسة عقود كاملة من التدخلات والاحتلال الأجنبي السوفييتي والأمريكي، فصارت منظومة الزواج داخل المجتمع الأفغاني لا تقوم على الاختيار الحر لشريك الحياة- وهو أمر بات ينطبق على كل من الرجل والمرأة وليس المرأة وحدها- وإنما أضحت مجرد وسيلة لتعزيز العلاقات المجتمعية المتوترة في بلد مزقته الحرب.
أخيراً، يجب الاعتراف بأن العنف الذي ارتكبه ويرتكبه الرجال الأفغان ضد نسائهم إنما يناظره مئات الآلاف من حالات العنف التي يرتكبها الرجال ضد النساء في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد جعل البريطانيون في الهند والأمريكيون في أفغانستان من ملابس النساء وجرائم الشرف رمز للوحشية وذريعة للتدخل الغربي لإنقاذ أولئك النسوة، كما جعلوا من الحملات الأخلاقية المناهضة لتلك الممارسات المروعة مسوغًا للتدخل وأداة للتحكم والهيمنة.
ولكي يكون ذلك التدخل الأجنبي في تلك البلدان بدعوى إنقاذ المرأة فعالاً، فلابد له من تعاون محلي من جانب بعض من سكان تلك البلدان المحتلة، ولهذا فقد سعى البريطانيون لاستقطاب عدد من الهنود إليهم، فساروا داعمين للمشروع البريطاني، يرتدون أزيائه ويتكلمون بلغته، بل وصل الأمر بالبعض منهم أن التحق بالخدمة في الجيش البريطاني الاستعماري.
وسارت الولايات المتحدة الأمريكية على نفس النهج، فقامت بضخ مئات الملايين من الدولارات على المساعدات المالية للأفغان عبر منظمات غير حكومية تعتمد ماليًا على الولايات المتحدة وتعمد إلى الترويج لفكرة واحدة تتلخص في أن ارتداء البرقع وجرائم الشرف فقط هي المشاكل الأساسية التي يعاني منها المجتمع الأفغاني والتي يجب تخليصه منها.
إن ذلك التركيز المحموم للمستعمر الأنجلو – أمريكي على ملابس المرأة ووضعها داخل مجتمعها إنما يكشف بوضوح أن الهيمنة على الدول لا يمكن أن تقوم فقط على القنابل والأسلحة والمعارك الحربية، وإنما لابد لها من مسوغ أخلاقي ما يتم بلورته عبر تبني قضية أخلاقية معينة، ولتكن إنقاذ المرأة المستلبة المضطهدة، لخلق دعم شعبي للغزو والاحتلال، باعتباره عملا بطوليا من ناحية ولتبرير الخضوع للقوى الأجنبية المحتلة من ناحية أخرى.


الكاتب : رفيع زكرياء / ترجمة: هبة الجماع

  

بتاريخ : 18/06/2019