مات أمجد ناصر وظل الشاعر حيا

«غني بالمزايا الإنسان، لكنه يحيا شعريا على هذه الأرض»
هولدرلين
في رسالة بعثها أمجد ناصر من لندن سنة 1999 يقول فيها سأزور المغرب خلال شهر أبريل ، ويسعدني رؤيتك …وما أروع هذا اللقاء الذي جمعني بشاعر الشاعر الذي كان يدرك بأن الصداقة أنبل ما يملكه الشاعر عندما يعتبر بأن «الشعر هو الشاغل الأكثر براءة بين المشاغل كافة «. لا يرعبه سوى الزمن الممزق للجمال والحقيقة .إنه يبني بمتعة، ويهدم بعنف ما جناه الإنسان من عواطف . حين وصل إلى فاس جلس في مقهى أسوان واتصل بالهاتف ليخبرني . وبمجرد ما عانقته سألني عن ابن رشد، فقلت له لقد تركته يحرس المنزل وضحك من الأعماق ثم أخرج كتاب «الضروري في السياسة» لابن رشد الذي حققه الجابري، كهدية .
لم يكن أمجد شاعرا فقط ، ولكنه كان مثقفا ملتزما بقضايا عصره ، ولذلك كان الحوار معه ممتعا، كما أن حبه للحياة يكاد يلامس كتاب العلم الفرح لنيتشه الذي يجعلك كما في يوم عيد. ففقدان الفرح معناه عند أمجد فقدان الوجود.فبأي معنى يمكن أن نفهم هذا الجمع بين الشعر والحياة ؟ وهل الشعر هو الشهادة على وجود الحياة ؟ وكيف تكون الحياة ؟
قال لي أمجد بأنه يرغب في تقديمي إلى بعض الأصدقاء، ومن بينهم الشاعر الفلسطيني غسان زرقطان والشاعر العماني سيف الرحبي والكاتب الأردني عبد الله حمدان وغيرهم . ومن الذكريات الجميلة أن أمجد اقترح أن يتناول الجميع الغذاء في منزلي شريطة أن يشتري الجميع السمك والفواكه والمشروبات، ونحتفل معا بحضور الشاعر محمد السرغيني الذي كان يسكن بجواري. وبالفعل كن احتفالا شعريا، كما في يوم عيد. ولعل كرم أمجد لا يمكن مقارنته إلا بأمجد، لا يتردد في السخاء .
مهما يكن الموت شرسا لا يترك وراءه سوى الذكريات، ولذلك لابد من استثمارها حتى ولو كانت مؤلمة . ومن الذكريات الرائعة أيضا أنه ذات صباح تلقيت مكالمة هاتفية من الراحل أمجد ناصر يطلب مني الحضور إلى الرباط، ولم يترك لي الاختيار حين قال لي بأن الغرفة محجوزة في فندق فرح بيش. ولعل المناسبة كانت انعقاد مؤتمر اتحاد كتاب المغرب، وهو ضيف شرف . وبمجرد ما وصلت إلى الفندق في المساء وجدته مع الراحل محمد شكري. كعادته استقبلني بحرارة الصداقة ثم قدمني لشكري قائلا «هذا هو سقراط المغرب، عزيز الحدادي . فابتسم شكري وقال لنهيء أنفسنا للحوار والتهكم وقلت ولما لا لمتعة اللقاء وتذوق هذه اللحظة الجميلة . وبالفعل كانت جميلة .كم تمنيت لو دامت طويلا . لكن الروح في الحقيقة شيء غريب في هذه الأرض لأنها مدعوة إلى الأفول، ومعناه الغرق في الصمت والراحة إلى أن يأتي التأمل في المنسي . في أي راحة ؟ في راحة ما هو ميت ؟ ولكن أي موت هذا الذي يحرمنا من الأحباء ؟.
ثمة تلك الأيام الجميلة التي قضاها أمجد ناصر على هذه الأرض.فهي تتحرك في قصيدته التي تشير إلى هذا الإنسان الذي يصل إلى ذاته عبر مثول شفق الليل الذي ينظر إليه ويمسه بنور المقدس . ليكتشف بأنه غريب مفصول عن الأحباء، وأمجد نفسه غريب لا يتحدث عن أحزانه . فحين يحكي شكري عن مأساة طنجة، يتحدث أمجد عن الفرح في لندن وكأنه يسرقه من الجحيم كما سرق بيوترس النار من الآلهة . قال لي لقد حملت لك هدية ثمينة بيد أن شكري سأله وما تكون ؟ فقال له إذا عرفتها ستصبح هديتك أنت. ولم يتردد شكري في هذا الصباح الذي تناولنا فيه فطورا شكريا يتكون من البيض والبصل والزيتون الأسود والجبن ،عندما أخرج قنينة الجيب والتمس مني أن أملأها كاملة.هكذا بدأ أمجد يضحك وقال: ما كنت أتوقعه قد حصل .
مات أمجد ناصر، ولم يمت الشاعر والإنسان الذي جعل من الصداقة غايته في هذا الوجود بالرغم من أنه كان غريبا في الغربة، يتبع النداء الذي يتكشف له ويجعله سائرا في الطريق إلى امتلاك وجوده . هنا يسمي الشاعر الصداقة التي تخفف ألم الفراق ولا تسعى لأن تهرب من الإقامة في حميمية المنسي .فكل ما يحيا هو من طبعة الألم، وحين يستحيل الألم قصيدة تقول صاحبها بعد موته .إنها هبة الأعماق التي تسود الآن وتجعل من الحاضر يغرق في الماضي كما يغرق الصيف في الخريف. فماذا يعني أن يكون المرء شاعرا ؟ أن تكون شاعرا يعني تردد حكمة أمجد ناصر الشعر هو الحياة ..هو القصيدة التي تقول يا صدى السماء حين تنتقل من الأرض.


الكاتب : عزيز حدادي

  

بتاريخ : 16/11/2019

أخبار مرتبطة

ينظم المعهد الفرنسي بفاس، يوم 26 أبريل، لقاء أدبيا مع الكاتب جيلبيرت سينوي، حول إصداره الأخير «رائدات وبطلات تاريخ المغرب».

هيا اغتسل أو تيمم وصل واقفا على الطفل الشهيد الملثم ما قال آه ساعة الذبح أو راح هاربا بجرحه يتألم

لنبدأ بلون الغلاف والعنوان، وبعد ذلك نحاور العمل، الذي سمى نفسه نصوصا نثرية، للفنان والشاعر والروائي المصطفى غزلاني. كما يبدو،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *