مشروع الخطاب الإسلامي العلماني الإمام الشافعي والحكم بغير إحاطة 5-

ساهم نصر حامد أبو زيد في وضع واحد من أكثر المناهج الفكرية كفاءة وموضوعية لقراءة التراث الإسلامي، وقاد صراعا شرسا ضد المؤسسة الدينية التقليدية التي عملت على تكفيره..
ولعل هذه القراءات السريعة في بعض أعماله ترتقي إلى مصاف رد الجميل لمفكر شجاع حاول أن يقي الأجيال العربية من الامتثالية والتزييف في الوعي والثقافة.

 

يرى الشافعي بأن دلالات القرآن تحتاج إما إلى (اللسان العربي) وإما إلى السنة لتفسيرها وتأويلها، وهنا يبدأ الشافعي في تأسيس السنة كـ(نص) ثان لا يقل من حيث مشروعيته الدلالية عن النص الأول (القرآن).
وتجدر الإشارة إلى أن الخلاف بين أهل (الرأي) وأهل (الحديث) لم يكن خلافاً حول مشروعية السنة، لكنه كان خلافاً حول الثقة في بعض أنواع الأحاديث خاصة بعد استشراء ظاهرة الوضع والانتحال من جهة، وخلافاً حول انفراد السنة واستقلالها بالتشريع.
وفي الحقيقة فقد حرص الشافعي على جعل السنة ليست شارحة ومفسرة للكتاب فحسب، بل عمل على إدماجها في أنماط الدلالة وإدخالها كجزء عضوي في بنية النص القرآني وذلك بربطها بالكتاب من خلال ثلاثة أوجه: الأول: التشابه الدلالي، وهو تشابه يعتمد على تكرار السنة للخطاب القرآني، والثاني علاقة السنة بالبيان والتفسير، والثالث انفراد السنة بالتشريع بوصفها نصاً مستقلاً يستمد حجيته من دوالٍ في الكتاب نفسه.
وبما أن الوجه الثالث (انفراد السنة بالتشريع) كان وجهاً خلافياً فقد ذهب الشافعي لتعزيز وجهة نظره إلى اعتبار السنة (وحياً) ولكن من نمط مغاير لوحي الكتاب، أي أن (وحي) السنة هو (الإلقاء في الروع)، إنه (الوحي) بالمعنى اللغوي الذي هو الإلهام، وليس بالمعنى الاصطلاحي أي عن طريق وساطة الملك جبريل.
لقد جعل الشافعي السنة وحياً من الله يتمتع بنفس القوة التشريعية والإلزام، وحين تصادف الشافعي مشكلة زوال الفروق أو عدم وضوحها بين سنة الوحي وسنن العادات والتقاليد (خاصة مع توسيع مفهوم السنة ليشمل الأقوال والأفعال والموافقات) يلجأ الشافعي إلى فكرة (العصمة) التي يتمتع بها الأنبياء.
وبهذه الطريقة- يرى أبو زيد- أن الشافعي يكاد يتجاهل (بشرية) الرسول تجاهلاً شبه تام، ويكاد يخفي من نسقه الفكري (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) حتى أنه يجعل من مواصفات النظام الاجتماعي السائد، والذي لم يتواضع عليه أو يقمه الإسلام، سنة واجبة الإتباع يجري عليها القياس كحكمه في العبد الذي لا يرث قياساً على حديث يرويه منطوقه (من باع عبداً وله مال فحكمه للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) رغم أن إدخال هذا القول في إطار سنة الوحي يتعارض مع المقاصد الكلية للشريعة التي تعتبر الحرية أصلاً والعبودية أمراً طارئاً كما يذهب أبو حنيفة.
ولا ينتبه الشافعي إلى النص القرآني الذي يأمر النبي أن يعلن أنه لا يجوز له تغيير شيء من الوحي من تلقاء نفسه (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) يفيد بأن السنة ليست وحياً إنما هي اجتهادات النبي لفهم الوحي.
هذا وتنقسم الدلالات التي تنتجها السنة استناداً إلى كيفية (الانتقال) إلى ثلاثة أقسام هي: المتواتر والمشهور والآحاد، والدلالة في هذه الأقسام الثلاثة تكون في نظر الشافعي دلالة قطعية تعلو على دلالة القياس التي هي في نظره دلالة ظنية احتمالية دائماً.
وسنن الآحاد (نقطة اختلاف الأحناف مع الشافعي) هي السنن التي جاءت عن الرسول على لسان أحد التابعين، وهي قد تكون متصلة مسنودة مباشرة إلى الرسول وقد تكون منقطعة (المراسيل)، ويرى أبو زيد أن قبول الشافعي للمراسيل، رغم احتمالات الخطأ فيها، كاشف عن طبيعة المشروع الذي يريد أن يصوغه (عبر توسيع مجال النصوص) لصياغة الذاكرة على أساس الحفظ ومرجعية النصوص والتضييق على دور العقل والاجتهاد.
أما الأصل الثالث في فكر الشافعي فهو (الإجماع) الذي هو- حسب الشافعي- “ما اجتمع المسلمون عليه وحكوا عمن قبلهم واجتمعوا عليه، وإن لم يقولوا هذا بكتاب ولا سنة، فقد يقوم عندي مقام السنة المجتمع عليها”.
والشافعي حين يحاول أن يجعل الإجماع سنة واجبة الإتباع يظل وفياً لأستاذه الإمام مالك بن أنس الذي اعتمد (عمل أهل المدينة) مصدراً من مصادر الفقه.
في تأسيسه للأصل الرابع (الاجتهاد/ القياس) لا يحتاج الشافعي إلى الإجماع ليحقق ذلك، فقد تداخل الإجماع مع السنة بحيث صار التمييز بينهما صعباً ولذلك يؤسسه مباشرة على الكتاب.
يقع الاجتهاد/القياس في نظر الشافعي داخل دائرة نمط (الحكم بغير إحاطة) الذي ينبني على الظاهر فقط دون الباطن أو على العام دون الخاص، والشافعي في تأسيسه للاجتهاد/القياس يبدو وكأنه يعمل حقاً على تكريسه كأصل من أصول الفقه، إلا أن هذا يحدث ظاهرياً فقط، ففي الواقع يفعل الشافعي النقيض حين يحصر الاجتهاد في دائرة ما هو موجود في النصوص فعلاً من أحكام، وهو يحكم على أي اجتهاد يقع خارج دائرة النصوص ودلالاتها الحرفية بأنه استحسان وقول بالرأي، فهو مثلاً يرفض أن تؤخذ الزكاة من (الجوز) و(اللوز) وغيرها من أنواع الغراس التي لم تذكر في النصوص على العكس من مجال القياس الواسع عند الأحناف الذي يساوي بين أنواع الغراس كلها.
أخيراً يخلص أبو زيد إلى أن هذه الشمولية التي حرص الشافعي على منحها للنصوص الدينية، بعد أن وسع مجالها، فحول النص الثانوي الشارح إلى الأصلي وأضفى عليه نفس درجة المشروعية ثم وسع مفهوم السنة بأن ألحق به الإجماع كما ألحق به العادات وقام بربط الاجتهاد/القياس بكل ما سبق ربطاً محكماً، تعني في التحليل الأخير تكبيل الإنسان بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته، فإذا أضفنا إلى ذلك مواقف الشافعي عامة، والتي تسعى إلى تكريس الماضي لإضفاء طابع ديني أزلي عليه، أدركنا السياق الإيديولوجي الذي يدور فيه خطابه كله، إنه السياق الذي صاغه الأشعري من بعد في نسق متكامل ثم جاء الغزالي بعد ذلك ليضفي عليه أبعاداً فلسفية أخلاقية كتب لها الاستمرار والشيوع والهيمنة على مجمل الخطاب الديني حتى عصرنا هذا.
وهكذا ظل العقل العربي الإسلامي يعتمد سلطة النصوص بعد أن تمت صياغة الذاكرة في عصر التدوين- عصر الشافعي- طبقاً لآليات الاسترجاع والترديد وتحولت الاتجاهات الأخرى في بنية الثقافة، والتي أرادت صياغة الذاكرة طبقاً لآليات الاستنتاج الحر من الطبيعة والواقع الحي، كالفلسفة العقلية، إلى اتجاهات هامشية، وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا.


الكاتب : بشير عاني

  

بتاريخ : 23/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *