مع محمد الصديقي في أوراق من دفاتره : الملك الراحل الحسن الثاني والفقيد السي عبد الرحيم بوعبيد «وجها لوجه» أمام المحكمة! (03)

 

لقد كانت للفقيد عبد الرحيم، كمفاوض وطني إبان معركة الاستقلال أو كوزير في صناعة المغرب الجديد أو كقيادي في المعارضة ومدافع عن القضية الوطنية، حوارات – بل مجابهات ومواجهات – كثيرة مع الملك الراحل الحسن الثاني.
بعض هذه الحوارات تم نقله في ثنايا ما كتب عن الحسن الثاني أوروي على لسانه، والبعض الآخر، بالغ الأهمية، رواه عبد الرحيم بوعبيد في مذكراته، ولا سيما الدفتر الخاص بمغرب بداية الاستقلال.
غير أن الحوار الذي تم بينهما في ردهات محكمة الرباط، يبدو من نوع الحوار الاستشكالي، الحوار الذي نخمنه، ولا يكون طرفاه وجها لوجه إلا عبر مقولاتهما…
وهذا النوع هو ما جرى في محاكمة عبد الرحيم حول قضية الموقف من الاستفتاء، أو بالأحرى من طريقة وأدوات تنفيذه….
من قراءة أطوار محاكمة عبد الرحيم بوعبيد والإخوة الآخرين من أعضاء المكتب السياسي، يتبين أن حوارا خفيا، بل لعله سجال بقوة صامتة كان يدور بين الملك الراحل والقائد الاتحادي..
ويتجلى ذلك من خلال تصاعد نبرة المحاكمة، منذ الجلسة الأولى وما تلاها من بعد…
وذلك على مستويين:
– من جهة الطابع السياسي للمحاكمة، محاكمة رأي وارتباطها بقضية سيادية عليا، هي قضية الوحدة الترابية والاستفتاء في الصحراء.
– ومن جهة أخرى، تكييف القضية، نحو وضع الفقيد عبد الرحيم بوعبيد وجها لوجه أمام الملك الراحل الحسن الثاني.
إذا اعتبرنا أن صوت الدولة كان يصل عبر النيابة العامة، فإن مواقفها في المحاكمة، كما نستشفها من مدون أمين للغاية لأطوارها، وهو محمد الصديقي، تضع، بلا مواربة، حوارا خفيا بين الموقفين… من في القفص، ومن في الحكم، لكنه محكوم بمنطق الأقفاص.
فالأسئلة التي تدور كلها حول الموضوع، أي الاستفتاء الذي قبل به المغرب في نيروبي، كانت تهم موضوع المحاكمة، ألا وهو بيان المكتب السياسي حول ذات الاستفتاء.
تمتد الأسئلة من مربط الفرس إلى خاتمة التأويل، أي من السؤال الأول، الذي هو: أي مدلول تعطونه لما أسمته مقررات مؤتمر نيروبي الثاني بالإدارة النيابية، وذلك من الناحية القانونية ومن حيث الأعراف الدولية، ومن الوجهة العملية؟«إلى السؤال الأخير ومفاده: تقر بعض الصحف المغربية، على الرغم من تفاؤلها في ما يرجع لمقررات نيروبي الثاني، بأن لهذه المقررات جوانب سلبية وجوانب إيجابية كما تقول، فما هي في نظركم الجوانب السلبية التي تشير إليها هذه الصحف»؟
ستأخذ الأمور مجرى المواجهة الضمنية بين موقف عبد الرحيم وقادة الاتحاد وموقف الملك الراحل عندما تجر النيابة العامة هيئة المحكمة إلى اعتماد مبدأ لا محيد من وصوله إلى هذه النهاية.
فقد اعتبرت النيابة العامة أنه «تبعا للمذكرة التي تقدم بها الدفاع والرامية إلى استدعاء شخصيتين، إحداهما حكومية من أجل الحصول على إيضاحات، فإن النيابة العامة ترى أنه يوجد أمامنا ماهو أسمى من ذلك، أمامنا خطاب جلالة الملك في 29 غشت 1981، الذي شرح فيه مقررات نيروبي، ولذلك فالنيابة العامة لا ترى فائدة في استدعاء الشهود».
الشخصية الثانية هي بطبيعة الحال المرحوم علي يعتة الذي كان النقيب الصديقي قد تقدم بطلب استدعائه للشهادة باعتباره على علاقة بالاتحاد، وأيضا باعتبار مواقفه في القضية الوطنية….
ويتضح من ذلك، التكييف الجديد للمحاكمة ومساءلة عبد الرحيم من خلال ما خطب به الملك الراحل.…
لنبدأ من حكاية الأصل..
اعتبر الدفاع أن توضيح حقيقة البيان الصادر عن المكتب السياسي لا يمكن أن يتم إلا باستدعاء طرف معني بصفة مباشرة وله دور مفروض في مجريات الأحداث المتعلقة بالقضايا الوطنية والمسائل الخارجية على الخصوص، التي انبنت عليها الدعوى ضد عبد الرحيم بوعبيد، الكاتب الأول للاتحاد، وضد أعضاء المكتب السياسي المعتقلين، والطرف المعني هنا كان هو وزير الدولة المكلف بالخارجية والتعاون، وهو وقتها القائد الاستقلالي امحمد بوستة رحمه الله، والذي شغل منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية والتعاون، في حكومتي المعطي بوعبيد الأولى والثانية بين عامي 1979 و 1983.
كانت مداخلة النيابة العامة توجيها للمحكمة نحو تكريس طرفي القضية، بما هما بيان المكتب السياسي من جهة، وخطاب الملك من جهة ثانية ..
وأكدت رئاسة المحكمة هذا المنحى عندما قررت بدورها أن المحكمة ترى أن «المتابعة انصبت على إصدار بيان بعد انعقاد مؤتمر نيروبي الثاني والخطاب الموجه من أسمى سلطة في البلاد وبعد نشر الموضوع من طرف الصحافة، وبذلك تكرست المواجهة، الضمنية طبعا، بين الحسن الثاني من جهة وبين عبد الرحيم، أمام هيئة المحكمة.
في استنطاق عبد الرحيم بوعبيد يتكرر التماثل والتقابل بين كلامه وبين خطاب الملك الراحل، وننقل هنا سؤالان فقط، يدلان بما لا يدع مجالا للشك، على وجود محاورة واضحة بين الراحلين، واحد على لسان القاضي رئيس المحكمة والثاني على لسان المتهم

«الرئيس:
-جاء في البلاغ، »لذلك فإن واجبنا الوطني يفترض إثارة انتباه الشعب المغربي«، هل ليس في هذا مساس بصاحب الجلالة؟ هل لم يسبق للشعب أن حدد موقفه على لسان ممثله الأسمى وهو صاحب الجلالة، ألا يعتبر ذلك إخلالا ومساسا بالنظام العام»؟
«عبد الرحيم بوعبيد:
-ما أظن في ذلك مساسا بالنظام العام، لكل حزب مسؤوليته أمام الأمة، وحتى أمام صاحب الجلالة، بحيث له أن يبدي كل التحفظات والتخوفات والأخطاء مهما استعظمت، ولكن نفضل أن يكون الشعب المغربي والمسؤولون في المغرب على وعي بتلك المخاوف وإن كانت بسيطة لأن التعبير عنها لمن شأنه أن يعزز موقف المغرب ضد هذه السلطة النيابية التي تريد استلاب السلطة الشرعية التي هي الإدارة المغربية، الجيش، المالية والسلطة الإدارية في الصحراء.
كيف يكون الإخلال بالنظام ونحن ندافع عن النظام، وهل الدفاع عن حوزة التراب يعتبر إخلالا بالنظام العام»؟
«الرئيس:
-جاء في البلاغ:أنه من الطبيعي، والحالة على ماهي عليه أن ننتظر من لجنة التطبيق مع جميع الصلاحيات المخولة لها أن تتصرف كوسيط مفروض في مفاوضات وقف إطلاق النار، في حين أن جلالة الملك أكد أن لا وجود للبوليساريو ولا يمكن وجود مفاوضات معه».
«عبد الرحيم بوعبيد:
-نحن نقدر كل التقدير الموقف الذي اتخذه صاحب الجلالة في ما يخص البوليساريو، وهو موقف مغربي منذ سنوات. إن المغرب يرفض أن يتفاوض مباشرة مع البوليساريو خصوصا في ما يرجع لوقف إطلاق النار، لكن حيث إن هذه الإدارة النيابية أو المجموعة السباعية في نيروبي خولت لها كل السلطات، فإنها سوف تتفاوض مع المغرب من جهة ثم مع البوليساريو من جهة أخرى، وبما أن بعض أعضاء اللجنة اعترفوا بما يسمى الجمهورية الصحراوية والبوليساريو فكيف يتصور أن يكونوا محايدين أو حكماء؟»
ستجري مياه كثيرة تحت الجسر ويمر زمن السجن..
وخلال الأيام التي تلت إطلاق سراحه، يوم 3 مارس 1982، بعد إقامة جبرية طويلة بميسور، استُقبل المرحوم عبد الرحيم بوعبيد من طرف الحسن الثاني بالقصر الملكي بمراكش في مقابلة خاصة، ولما عاد عبد الرحيم إلى بيت أسرته، روى محتوى اللقاء الذي دار بين الرجلين بالكلمات التالية: ـ سأل الملك الراحل مخاطبه «إذن، عبد الرحيم، أنت غير حاقد علي» ـ أجابه عبد الرحيم أبداً يا جلالة الملك، لكنني أشعر بنوع من الأسف مع ذلك، وأتحسر على أنني لم أحظ بالوقت الكافي للانتهاء من كتابة مذكراتي…
وفي تلك المذكرات بالذات، والتي تشرف كاتب هذه السطور الفقير إلى رحمة ربه أن ترجمها للجريدة ابتداء من يناير 2012، بعض من أسباب الخصومة السياسية، ومنبتها في الستينيات من القرن الماضي بين الرجلين…
ولعل الحوار الذي دار قبيل إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، والتي تحمل فيها عبد الرحيم القسط الأوفر من العمل يسلط بعضا من الأضواء على طبيعة العلاقة بينهما من بعد…
يقول عبد الرحيم: تلقيت يوم 17 أو 18 ماي،-ماي 1960- مكالمة هاتفية من لدن الأمير مولاي الحسن، دعاني فيها إلى عشاء ثنائي، رأساً لرأس، وكان قد مضى ردح من الزمن لم ألتق به، وصلت إذن في الموعد، بفيلاه بالسويسي. بدا منشرحاً للغاية، لبقاً وودوداً، دام اللقاء أزيد من ثلاث ساعات، وسوف لن أقدم منه هنا سوى النقط الأساسية: قال الأمير: ـ لقد قرر جلالة الملك وضع حد لمهام الحكومة الحالية. وهناك فريق آخر قيد التشكيل. لقد وصلنا مرحلة المشاورات النهائية وقد أمرني جلالة الملك بإخبارك رسمياً. ـ أشكر سموك على دعوتك هاته، وعلى الإخبار الذي قدمته لي، لكن أستسمحك في التعبير عن مفاجأتي: ذلك أن جلالة الملك، باعتباره رئيس الدولة، هو الذي يعود إليه أمر هذا الإخبار، بصفة رسمية وحسب الأعراف، للفريق الحكومي كله. ـ لنقل إنه إجراء شبه رسمي، لكنه في ظرف أيام قليلة، سيُرسم (يصبح رسميا) كما تقتضيه الأعراف. لكن المهم في هذا المسعى، الذي أمر به جلالة الملك، هو أن أعرض عليك تولي مهام وزارة الخارجية داخل الفريق الجديد، ولابد من أن أوضح لك بأن جلالة الملك يلح على هذا الأمر بشكل خاص.ـ قبل الإجابة على العرض الذي تشرفت به، اسمح لي سموك بإبداء ملاحظة أولية، مادام الأمر يتعلق بحوار شبه رسمي. خلال تنصيب الفريق الحالي، يوم 24 دجنبر 1958 قيل وقتها، في الخطاب الرسمي للتنصيب بأن الحكومة الجديدة ستتولى مهامها إلى ما بعد الانتخابات الجماعية، وأن تشكيلة جديدة ستتشكل على ضوء نتائج هذه الانتخابات الجماعية، بمعنى حكومة أكثر تمثيلية لمختلف توجهات الرأي العام.
والحال، أنه بالرغم من تباطؤ وزارة الداخلية وبعد مشاورة الأحزاب السياسية حول نمط الاقتراع، في يونيو 1959، قرر ظهير صادق عليه جلالة الملك تنظيم الانتخابات الجماعية بالاقتراع الأحادي، ويحمل هذا النص القانوني تاريخ شتنبر 1959. وفي دجنبر، سجل الناخبون أنفسهم في اللوائح الانتخابية، ولم يبق سوى تحديد تاريخ الانتخابات، فلماذا إعفاء الحكومة قبل الانتخابات؟ ـ لقد قرر الملك ذلك، غير أن ما تبين من اللقاء هو أن معارضة الأحزاب السياسية الأخرى بلغت من القوة حدا جعل الحفاظ على الحكومة قائمة، خلال الانتخابات، يبدو كما لو أنه يدعم حظوظها. فتقرر، إذن، دعم حظوظ فريق آخر. والحال، أن اعتماد الاقتراع الأحادي بدل الاقتراع باللائحة الذي دعا إليه كل من حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية يهدف، في العمق، إلى إقرار سلطة ما اصطلح على تسميته بالنخب المحلية، وذلك بالإبقاء على البنيات والهياكل القروية التقليدية التي كانت تستند إليها سياسة الحماية. كما أن من شأن النتائج الانتخابية عبر تقوية حظوظ العالم القروي، أن يبرز اتجاهات محافظة، إن لم تكن رجعية بحثة. -سألته: ـ من هو رئيس المجلس (الحكومي)؟
ـ ولي العهد، أنا شخصياً. الكشف عن هذا الأمر فاجأني مفاجأة عميقة، وحتى إن سبق لي أن سمعت به، فأنا لم أصدقه. قلت له: ـ لكن، يا سمو الأمير، يصعب علي التصديق بهكذا أمر. فأنا لا أرى ولياً للعهد، ومستشاراً لجلالة الملك يضع نفسه على رأس الحكومة، اللهم في ظروف استثنائية حقاً. ذلك لأن الحكم كما يقال هو الاختيار. وعليه، سيكون عليك أن تختار، بإلزام مسؤوليتك السياسية بين هذا التوجه وذاك على المستويات، الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وفي مجال السياسة الخارجية.. فالرجل السياسي العادي ينخرط بكل مسؤوليته السياسية عندما يقدم على اختيار معين. فإذا نجح في عمله، لن يكون قد قام سوى بما أملاه عليه ضميره وتحليله للوضعية، وإذا أخفق، لن يكون أمامه سوى أن يستقيل أو ينحى من طرف الحكم الأعلى، جلالة الملك. هذا هو النظام وهي ذي قواعد اللعبة حتى في ديمقراطية غير كاملة، كما هي ديمقراطيتنا…. ثم واصلت الحديث بالقول: ـ مبدئياً، فإن أميراً ولياً للعهد يمثل استمرارية نظام الملكية، حيث لا يمكن أن يتعهد بمسؤوليته السياسية، حيث لا تمكن مجازاتك أو محاسبتك، فماذا ستفعل المعارضة في هذه الحالة؟ فإن هي عبرت عن عدم موافقتها على أي إجراء كان، ستكون أولا وقبل كل شيء تعارض ولي العهد، لأن هذه الصفة ستظل، بالرغم من كل شيء، هي المهيمنة والغالبة. لست بصدد شكلانية قانونية، بل أحاول أن أتصور أوضاعاً ووضعيات ملموسة، لا، بكل صراحة لا أتفهم الأسباب التي تدفعك إلى تولي رئاسة الحكومة.. أجابني: ـ لقد قدرت الأمور من جانبها السلبي والإيجابي معاً، وقد تنبأت بالاعتراضات التي ستقوم بها.. لكن القرار اتخذ. وإذا كان جلالة الملك وأنا فكرنا في مشاركتك، فذلك حتى يكون الفريق الجديد ممثلا لكل الاتجاهات.. لا تظن على وجه الخصوص أنني أعارض كل الإجراءات التي اتخذتها.. ففي العمق أنا أيضاً اشتراكي. ـ يمكنك أن تكون اشتراكياً كإنسان أو كمواطن، لكن لا يمكنك أن تكون اشتراكياً كولي للعهد.. أما في ما يخص مشاركتي الشخصية، فإن أمرها هين للغاية. وعلى كل، كيف يمكنني أن أجمع بين تصوراتي الشخصية وتصورات مناقضة يعبر عنها الآخرون. أنا كمناضل في خدمة قضية أومن بها. فأنا لست سياسياً يبحث عن مناصب.. ـ طيب، سأقدم تقريراً لجلالة الملك عن هذا اللقاء، وعلى كل، سيتم استدعاؤك للمشاورة، كما تقتضي الأعراف ذلك. كان اللقاء قد انتهى عملياً، كنا نتمشى في الحديقة. وعندما استأذنته في توديعه، خاطبني بقوله: ـ أنت لا تفهمني، يا عبد الرحيم، لكن، باعتبارك صديقاً سأقول لك (ما في الأمر): أنت لا ترى فيَّ سوى ولي العهد فقط، والحال أنني مناضل مثلك، وإنسان مثلك. يحذوني الطموح في لعب دور في حياة بلادي. أنت تعرف أن أبي مازال شاباً. وأنا سوف لن أنتظر حتى أضع طقم أسنان لكي أخلفه.. هو ذا عمق تفكيري… ثم أضاف مبتسماً ـ لربما ستركب القطار وهو يسير، في يوم من الأيام. فمن يدري؟»


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 31/01/2020