منظومة التربية والتكوين … الواقع والرهانات

بمناسبة الدخول المدرسي والجامعي للموسم الدراسي الحالي أجرت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» حوارا مع الأكاديمي والفاعل الجمعوي والسياسي الدكتور محمد الدرويش

 

n تعتبر قضية التربية والتكوين القضية الثانية بعد القضية الوطنية، وهذا له معنى عميق ودلالات كبرى، أولها أن هناك إجماعا وطنيا من أجل النهوض بالتربية والتكوين بالبلاد لربح رهان التنمية الشاملة، السؤال المطروح واعتبارا لكل ما يقال في السنين الأخيرة وانتهاء بالخطاب الملكي الأخير، هل نحن في الطريق الصحيح وكيف ترون الدخول التربوي اليوم ؟
pp لابأس من التذكير بأن قضية التربية والتكوين هي القضية الثانية بعد قضية الصحراء المغربية، وهي قضية يوليها جلالة الملك محمد السادس عناية خاصة في خطاباته ورسائله الموجهة في كل مناسبة تحدث عنها جلالته عن المنظومة التربوية إلى كل المعنيين من حكومة وفاعلين سياسيين واجتماعيين واقتصاديين وإلى الأسر المغربية ويراهن عليها الشعب المغربي بكل مكوناته، لما لها من أهمية قصوى ومحورية في إعداد المواطن إعدادا جيدا وسليما حتى يتمكن المغرب من أن يكون دولة صاعدة في كل المستويات، فالمغرب لا يمكن أن يتطور ويتقدم بدون منظومة تربوية عصرية حداثية تجعل من التربية والتكوين النواة الصلبة لمشروعنا المجتمعي في تهيئة كل الظروف الضرورية والملائمة لمغرب القرن 21 – منظومة لها القدرة على تجاوز كل الاختلالات و الاكراهات البنيوية والقانونية والبشرية والمالية التي تعيشها في كل المستويات، مع ضرورة تطوير وتجويد المكتسبات التي حققتها منذ استقلال المغرب.
لقد بذل المغرب عموما مجهودات غير مسبوقة للنهوض بهذا القطاع، سواء تعلق الأمر بالإمكانات المالية أم بالتشريعات القانونية أم بسياسات الانفتاح وتبادل الخبرات والتجارب حتى بلغنا درجات متقدمة ومتطورة عن الماضي بكل مراحله، لكن مع كل أسف نلاحظ أنه حتى تم الاقلاع خلال السنوات الأولى للألفية الحالية بدأنا نعود إلى الوراء، بل وندمر ما بناه المغاربة بتضحياتهم العديدة، فصارت منظومة التربية والتكوين مجالا للصراعات السياسية والتطاحنات المذهبية الضيقة أحيانا والعقائدية أحيانا أخرى ، بل أضحت هي الأرض الخصبة التي تصرف فيها كل الأحقاد والضرب تحت الأحزمة و» رد الصرف كما يقول المغاربة»، وها نحن نجني الأعطاب تلو الأخرى وذلك ما تترجمه كل الخطابات الملكية المنتقدة لأوضاع المنظومة والتي ظهرت كذلك في التقارير الوطنية والإقليمية والدولية من الأولي إلى العالي، لكل ذلك فإن الاستمرار في فقدانها سيأتي على الأخضر واليابس في المنظومة، ومن ثم فالمطلوب من هاته الحكومة القطع مع الارتجالية في اتخاذ القرارات والابتعاد عن الشعارات الرنانة والفارغة في أغلبها والتعامل بجدية كاملة ووطنية مع كل القضايا، المنظومة ليست أرضا للتجريب والمغامرة بل إنهاعلاقات إنسانية قبل أن تكون قرارات إدارية من مكاتب مكيفة، فالأمر يتعلق بما يقارب الثمانية ملايين و نصف من البشر، والاهتمام بالواحد ينعكس على المئات والاهتمام بالمئات ينعكس على الآلاف مثلما أن الاهتمام بالآلاف ينعكس على الملايين، إذن المطلوب بذل كل الجهود من أجل استرجاع الثقة في المنظومة والتي ساهمت الارتجالية والمزاجية وانعدام الصراحة ولغة الواقع، كلاما وممارسة، في تثبيت فقدانها وزعزعت كل إيمان بأنها قادرة على مواكبة التطور وإعداد المواطن المؤمن بأدواره في المجتمع حقوقا وواجبات، فالوطنية الحقة تقتضي أن يتحمل الكل مسؤوليته في ما يرتبط بمنظومة التربية والتكوين خصوصا، فيتم معالجة قضاياها في إطار شمولي وشامل، عمودي وأفقي، تنزيلا حقيقيا للرؤية الاستراتيجية 2015-2030 والذي ضاع منها أكثر من سنتين وزيادة، دون أن يتم الانتهاء من المقدمات الأساس والمداخل السليمة لتنفيذ مقتضياتها، استنادا إلى القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين، ونعتقد أنه قبل البدء في تنفيذ ذلك وجب تنقية الأجواء وتصويب الاعوجاجات وتأهيل الموارد البشرية والاهتمام بها والثقة في ذكائها وقدراتها التدبيرية والتربوية ونشير إلى أن الأبواب الكبرى لذلك هي إصلاح الأنظمة الأساسية كثيرة الترقيعات وتحديد مهام ومسؤوليات كل معني بالمنظومة على حدة مع التنفيذ السليم لمقتضيات الجهوية في كل المستويات والدفع بالاستقلالية التامة للأكاديميات والجامعات استقلالا إداريا وماليا وبيداغوجيا مع الحفاظ على المشترك الوطني بنسب يمكن أن تبلغ 80% وملاءمة الخصوصيات الجهوية في حدود ما تبقى، وذلك بمراعاة المعطى الجغرافي والثقافي والبيئي وغير ذلك، وإلا فإننا سنكون مساهمين جميعا في الهدر بل مساهمين في ما يشبه الجرائم ضد المغاربة، منظومة التربية والتكوين تعد القلب النابض في تاريخ وحاضر ومستقبل أي أمة لأنه في إطارها يربى الفرد ويكون على قيم الحياة والمواطنة والمسؤولية والحداثة والديمقراطية ،والخطأ غير مقبول فيها لأنه يساهم، إلى جانب عوامل أخرى اجتماعية واقتصادية، في إنتاج حالات شاذة في المجتمع، إن ظلت قليلة العدد أما إن كثرت أعدادها فإن المجتمع برمته يصير شاذاً مقارنة مع مقتضيات مجتمعات القرن 21.
n وماذا عن الدخول التربوي؟
pp الدخول التربوي جزء من الدخول الاجتماعي، وهو طرف في الدخول السياسي، واسمح لي بالقول إن هذا الدخول كارثي بكل المقاييس، إذ مر على هاته الحكومة ما يقارب السنتين و لم تظهر بعد على أرض الواقع أشياء ملموسة بخصوص منظومة التربية و التكوين، باستثناء القانون الإطار الذي صادق عليه المجلس الوزاري الأخير والذي يعرض على البرلمان بغرفتيه للمصادقة، فقد كان للرأي العام الوطني انتظارات كبيرة وتلقى المعنيون بالمنظومة وعودا كثيرة لكن ذلك كان )جعجعة بدون طحين( فلا ملف تم حله، بل إن المسؤولين لديهم اضطراب في الكلام وتضارب في الآراء وضرب تحت الحزام ووعود تعطى هنا وهناك واضطراب في الرؤى وتسرع في القرارات وانعدام الانسجام وتسابق في الظهور وغير ذلك من مظاهر الارتجال وغياب روح المسؤولية، إنه العبث بمستقبل ما يقارب الثمانية ملايين ونصف من المغاربة، فعن أي دخول تريد أن نتحدث؟ إنه دخول أكثر سخونة، فملفات كثيرة لم تحل ولم تعالج مثل شيوخ الأساتذة والدكاترة المعطلين والموظفين والترقيات والمديرين والحراس العامين والنظام الأساسي بقطاعي التربية الوطنية والتعليم العالي والتعاقد وملفات الفساد في مجموعة من المواقع،  دخول يعرف فراغات قاتلة في مجموعة من مؤسسات التعليم العالي و الجامعات أغلبها يدبر بالنيابة، دخول يسجل بشكل مفضوح المحسوبية والزبونية و انعدام مصداقية بعض اللجن في اختيار المسؤولين، دخول تتوعد فيه النقابات الوزارة، دخول بأخطاء قاتلة وفادحة في بعض مقررات الكتاب المدرسي، ومما يزيد الطين بلة رد الوزارة الذي يدافع عن شيء تجهله و تخلط بين أسماء الأعلام و أسماء الأشياء فمتى كان(البغرير) اسم علم، إنها وزارة التربية الوطنية يا سادة !!!.
هذا واقع عنوانه اللعب بمصير أكثر من ثمانية ملايين ونصف من المغاربة، إنهم يساهمون بأفعالهم و لامبالاتهم هاته في تكوين «أجيال من الضباع» كما جاء على لسان المرحوم سي محمد جسوس .
وباختصار أقول إن هذا الدخول سيفضح عيوب منظومة التربية والتكوين في مجموعة من المواقع والملفات بل إنه سيضع اليد على أزمات التدبير والتسيير لدى مجموعة من المسؤولين (وزارة وجامعات ومؤسسات للتعليم العالي ومراكز البحث واكاديميات ومديريات). واقع نأسف له ولم نكن نتوقعه بل كنا نرجو خيرا و نأمله.

n يعرف التعليم العالي إشكالات كبيرة، في مقدمتها الهدر الجامعي، إشكالية التمويل، استقلالية الجامعة، تمويل البحث العلمي، تجويد المستويات للطلبة، … هل يمكن إطلاعنا عن واقع الحال بهذه الإشكالات والحلول من أجل تجاوزها؟
pp لقد انخرط المغرب مبكرا في منعرج دولي تاريخي عرفته منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في التاريخ الحديث، حينما اجتمعت مجموعة من الدول من أوروبا في مدينة بولون سنة 1999 وأطلقوا مسار بولون (le processus de Bologne)، بهدف وضع أسس فضاء أوربي للتعليم العالي قبل متم 2010. وقد هيأ المغرب لهذا الانخراط بشكل أثار مجموعة من الإشكالات والمشاكل، سواء في صيغته الأولى سنتي 2001 – 2002 ،إذ كانت وزارة التعليم العالي عملت على إنشاء مجموعة من الهياكل الجهوية والوطنية. (Creasur , Capesur) انخرط فيها الأساتذة الباحثون والموظفون والطلاب بشكل إيجابي وجدي خلق على إثره نقاش عميق ومسؤول حول كل قضايا التعليم العالي والبحث العلمي حتى تم الإعلان عن انطلاق نظام إجازة ماستر دكتوراه(LMD) سنة 2003.
ونحن نسجل بإيجاب انخراط وتضحيات السيدات والسادة الأساتذة الباحثين من مختلف الأجيال وتنوع التخصصات في إنجاح تطوير منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، فقبل سنة 2003 كان عرض التعليم العالي لا يتجاوز التكوين التقليدي في شتى المجالات الإدارية والحقوقية والاقتصادية والإنسانية والعلمية والتقنية بل إنه لم يكن يتجاوز 50 مجالا في كل الحقول وبعد أقل من 20 سنة صار العرض اليوم ما يقارب 3000 مسلك للتكوين الدقيق، وهذا بفضل انخراط الأساتذة الباحثين وبفضل مجهودات الدولة المغربية تشريعاً وتمويلاً وبفضل مجهودات الإداريين والمسؤولين.
ولم يكن المغرب لينخرط في مسلسل «بولون» الذي قررت خلاله أغلب الدول الأوربية تطبيق نظام الإجازة، ماستر، دكتوراه لولا التعبئة الجماعية والإيمان بضرورة هذا الانخراط في هذا الاختيار الدولي.
ولبلوغ ذلك وفرت الدولة المغربية،ولأول مرة في تاريخ التعليم العالي، ميزانية غير مسبوقة بلغت 12,6 مليار درهم لسنوات 2009-2012، لكن سياسات الارتجال المتبعة وانعدام مشروع مجتمعي يجيب عن سؤال أي تعليم عال نريد لمغرب اليوم وتعدد المسؤولين وتقطع الخيوط الناظمة في سياسات الحكومة بل وتناقضها جعلنا أمام تذمر و إحباط لدى أغلب الفاعلين في القطاع،
نحن هنا لا نريد التذكير بما راكمه التعليم العالي من ضربات مدة تقارب العشر سنوات، كما لا نريد تشريح الواقع، فكلنا نعرفه ونعيشه بإيجابياته وسلبياته، لكننا نود التذكير بأن الغائب الأكبر في السياسة الحكومية هو الجواب عن سؤال أي جامعة نريد، فهل نريد جامعة مغربية بتكوين أكاديمي يساهم في تكوين الإنسان المغربي الباحث العالم، صاحب المبادرة، المؤطر، المؤثر، المنتج، المفكر في قضايا العصر والوجود والكون والتكنولوجيا والأنطلوجيا والابستمولوجيا والعلوم والإنسان بكل أبعاده البشرية والكونية، أم نريد جامعة للتكوين المهني بظروف وشروط الثانويات التقنية أو أقل؟ لا أحد من المسؤولين يملك الجواب وإن ملكه أخفاه حتى عن نفسه.

n (مقاطعا) وماذا تقترحون لتصحيح الوضع؟
pp أعتقد أنه حان الوقت لتعاقد جديد بين مكونات الفعل الجامعي والاجتماعي والسياسي والحكومي والمدني في مجال التربية والتكوين، هذا التعاقد الذي يجب أن ينبني في اعتقادي على رسم خطة وطنية تهم مجالات التربية والتكوين. وذلك بوضع برنامج وطني يهم كل المعنيين بالمنظومة . كل هذا ممكن عبر هذا النوع من التعاقد الذي يضمن الحقوق والواجبات لكل طرف. وهذا سيسد الباب أمام فوضى البعض من مؤسسات حكومية وغيرها، وهذا مدخله اليوم القانون الإطار إن احسِن إخراجه و تنفيذه و تسويقه. إذ من غير المعقول أن تسخر إمكانات المال العام في مجالات تخدم رغبة بعض الأشخاص سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا. لأن مغرب الغد ، يؤسس له اليوم ، ومواطن الغد ، يكون اليوم ، فإما أن نكون أمام مواطن يحب الحياة ويسعى بكل الوسائط القانونية إلى خدمة هذا الوطن، ويأمل في المستقبل وينظر إليه بعيون الأمل، أو نكون أمام مواطن يكره كل شيء، يفقد الأمل في كل شيء، يتشاءم من كل شيء، ويحس بالتآمر عليه وعلى محيطه من طرف الكل، وفي اعتقادي هذه حالات نفسية اجتماعية يتربى عليها النشء، فلنا أن نختار وللمسؤولين أن يختاروا وليتحمل كل واحد منا مسؤولية اختياره.
نعود لطرح ومناقشة مجموعة من القضايا التي تعرفها منظومة التعليم العالي والبحث العلمي ببلادنا وذلك بمناسبة الدخول الجامعي والذي أعطيت انطلاقته هذا الأسبوع، انطلاقة بطعم المتناقضات في الواقع المعيش، نعود للموضوع ونحن نتابع تصريحات المسؤول عن القطاع والمبادرات المتخذة من قبله مدة أشهر على التعيين، مبادرات و تصريحات تنم في غالب الأحيان عن عدم المعرفة الجيدة بالواقع الفعلي للتعليم العالي والبحث العلمي.
فبالفعل منظومة التعليم العالي والبحث العلمي تعرف عدة اختلالات وإكراهات ومعيقات منها ما هو بنيوي ومنها ما هو قانوني ومنها ما هو تدبيري ومنها ما هو بيداغوجي و منها ما هو نظامي، وهي معروفة لدى الرأي العام و لدى المختصين والمهتمين والمسؤولين، فقد تعبنا من التشريح الذي كثرت الجهات التي تقوم به، لكن في المقابل قليل منهم من يقدم على تصحيح الأوضاع وإصلاح الأعطاب .
ومن سوء حظنا أن الحكومة، قبل هاته، أعادت المنظومة إلى مشاكل البدايات، إذ بعد أن كانت تعرف انتعاشا كبيرا وانخراطا جماعيا للأساتذة الباحثين والإداريين والطلاب من أجل تعليم عال يشكل قاطرة حقيقية وفعلية للتنمية بكل مستوياتها، نلاحظ اليوم تراجعا فظيعا ساهم في خلق جو القلق وانعدام الثقة والمسؤولية أحيانا عند المعنيين والأسر نظرا للامسؤولية الوزير في تصريحاته وقراراته وسياسته إن كانت له سياسة، مسؤول لم يثبت أبدا أن له تصورا واستراتيجية في تدبير القطاع .

n منذ مدة تروج بعض الأخبار عن ممارسات سلبية في الجامعة المغربية؟
pp مع كامل الأسف بلغنا أوضاعا لم تعد تطاق في الوسط الجامعي، ففي الوقت الذي كان فيه الأستاذ الباحث قيدوم رؤساء الجامعات في دستور 1962عضوا بالصفة في مجلس الوصاية صرنا اليوم أمام مظاهر و تصرفات على قلتها تحرج أسرة التعليم العالي بل وتجعل مجموعة منهم يفكرون في مغادرة المهنة، واسمح لي أن أؤكد لك أن لا وجود لملائكة على الأرض و الإنسان يتميز عن الكائنات الأخرى بسنه قوانين وتشريعات تؤطر حقوقه وواجباته وعلاقاته مع أبناء عشيرته لذلك أظن أن الخلل في تطبيق القانون.
هل هاته هي المرة الأولى التي تنفجر مثل هاته الظواهر؟ ألم نسمع بنفس الممارسات و بالأدلة قبل هذا التاريخ؟ ألم يتدخل وزراء ومسؤولون لحماية هذا آو ذاك؟ اسألوا بعض وزراء القطاع، اسألوا أغلب رؤساء الجامعات ممن أنهوا مهامهم وممن مازالوا بها والعمداء والمدراء كذلك، اسألوا الطلبة، اسألوا الموظفين، اسألوا الرأي العام فستتأكدون من كون بعض مظاهر الفساد موجودة وهي تتفشى و تنتشر، ولن يحد من تفشي هذه المظاهر وانتشارها إلا التطبيق الصارم لمقتضيات القانون والضرب على كل من ثبت فساد أخلاقه.
لايمكن أن نقبل أي مظهر من مظاهر الفساد في منظومتنا التربوية لا الجنس ولا المال ولا السلطة ولا الجاه مقابل النقط أو التسجيل وضمان المسار، لا يمكن أن يكون هذا في جسم من نعتبرهم جميعا خيرة أطر الوطن، وهذا غير مقبول بكل المقاييس و الاعتبارات.
واسمح لي أن أؤكد أن عدد أصحاب هاته الممارسات قليل جدا، إذ لا تبلغ نسبتهم الواحد في المئة، وفي المقابل فالتعليم العالي له من الأساتذة الباحثين المرموقين وأصحاب الأخلاق العالية والذين يمثلون المغرب أحسن تمثيل ويقومون بدبلوماسية عالية، خلقا وأخلاقا، كما يؤطرون طلابهم ويعملون بإيثار ليل نهار، يحاضرون ويؤلفون ويرافقون طلبتهم ويدعموهم في علاقات أكاديمية فضلى، ولكن مع كل أسف لا تلتفت إليهم الجهات المسؤولة ولا تخاطبهم و لا تشعر بوجودهم و هم الأغلبية الكبرى التي تشتغل في القسم والمدرج والشعبة والمختبر والزيارات الميدانية والندوات واللقاءات الدراسية والمناظرات الوطنية والدولية، استقبالا وإرسالا، و لنا من الأسماء ما يجعلنا نفتخر بالجامعة المغربية، فهنيئا لنا بهم وهنيئا للمغرب بأبنائه .

n هل لك تصور للحد من هاته المظاهر المزعجة والمقلقة؟
pp اسمح لي أن أقول، بدون تردد، إن وزير المنظومة يتحمل المسؤولية كاملة ومعه رؤساء الجامعات والعمداء والمدراء، ولا نستثني طبعا الأساتذة الباحثين والطلاب والموظفين والأسر والرأي العام بما فيه الإعلام، إنها مسؤولية الجميع، إذ لا وجود لدخان بدون نار، كما يقال، فحين نسمع بقضية فإننا نفترض صحتها حتى يثبت العكس، والقانون موضوع لتطبيقه لا للتطبيل له، لذا من الواجب أن نطبق القانون كلما ظهر لنا ذلك، ونؤسس لتصور آخر لمنظومة التعليم العالي والبحث العلمي ببلادنا. كيف؟
أعتقد أن مظاهر الفساد ببعض المؤسسات معروفة لدى الجميع، أولا من غير المعقول والمقبول أن يظل المغرب يحتفظ بتصور الكليات ذات الاستقطاب المفتوح كما ورثها عن فترة الوجود الفرنسي، أي منذ تأسيس الجامعة المغربية، نعم من غير المقبول أن تظل كليات العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وكليات الآداب والعلوم الإنسانية وكليات العلوم في شكل تجمعات لآلاف الطلاب بتخصصات متباعدة الحقول، لذلك يجب وضع تصور جديد لهاته المؤسسات وجمعها في أقطاب متجانسة ببنيات عصرية تجلب إليها ثلاثي المنظومة وتضمن كل ظروف التلقي والتعلم والحياة الطلابية، لقد آن الآوان لنؤسس لكليات إكثر انسجاما في تخصصاتها، ككليات التجارة والتدبير وكليات القانون والتشريع وكليات العلوم الإنسانية وكليات الآداب وكليات الفنون وغيرها.
ثانيا، يجب إيجاد صيغ جديدة للمراجع والمصادر التي يعتمدها الطلاب، والتي تكون مثار القيل و القال، إذ من غير المقبول أن يصبح بعض الأساتذة تجارا مباشرين أو غير مباشرين لمؤلفاتهم أو لتكويناتهم خارج المؤسسة الجامعية،
فبقدر ما أؤمن بأن الأستاذ الباحث يجب أن يكافأ على اجتهاده ومجهوداته الإضافية بقدر ما يجب أن نعمل جميعا على تحصين سمعته ومهنته مع إبعاد كل الشبهات عن عشيرة الأساتذة الباحثين، وهذا لن يتم إلا بقرارات جريئة وصارمة تضمن للأستاذ حقوقه وزيادة وتجعله يقوم بواجباته وزيادة، وهكذا يمنع على الأستاذ الباحث أن يتاجر بمؤلفاته ودروسه ومسارات تكويناته بالطريقة المخجلة التي نسمع عنها لدى بعض الأساتذة .
إن ما يتم اليوم صرفه في طبع ونشر الكتب من قبل الجامعات والمؤسسات والمعاهد والمختبرات والأشخاص الذاتيين، لا يناسب مكانة المغرب إقليميا ودوليا، من حيث البحث العلمي والنشر، إذ أن هناك هدرا للأموال ولطاقات بشرية ومادية، وعليه أعتقد أنه من بين الحلول الممكنة تجميع كل ذلك لدى كل جامعة في مركز جهوي للطبع والنشر فتتكلف الجامعة بطبع ونشر كل مؤلف لأستاذ من أساتذتها، حسب معايير يتفق عليها ويسلم الأستاذ صاحب المؤلف مكافأة مالية تشجيعا له على مجهوده ويصبح المؤلَّف ملكا للجامعة يقتنيه الطلاب بثمن التكلفة التي لن تتجاوز العشرين درهما في المعدل، وهنا سنسهل جزءا من الحياة الطلابية ونحصن الأستاذ الباحث من كل قيل وقال.
ثالثا، الاستقلالية الفعلية والحقيقية للجامعات والمؤسسات ماليا وبيداغوجيا وإداريا فما نعيشه اليوم هو فقط شعار لها نرفع صوتنا به، إذ أؤكد أنه منذ سنوات والوزارة الوصية هي التي تدبر كل شيء لأن الاستقلالية لها عند بعض المسؤولين مفهوم خاص، فعن أي استقلالية يتحدثون والوزارة تقرر في كل شيء، إما عبر أجهزة الإدارة المركزية أو في قلب ندوة الرؤساء، وهي بالمناسبة بنية غير قانونية لا وجود لها في أي نص تشريعي، إنها بنية أسس لها لتكون إطارا استشاريا بين مسؤولي التعليم العالي لكنها منذ البدء صارت إطارا يقرر في كل شيء، كيف نتحدث عن الاستقلالية و الميزانية في شكلها العام توزع وتصنف وتبوب وسط الوزارة، كيف نتحدث عن الاستقلالية والمناصب المالية المحدثة والمحولة توزع داخل الوزارة كيف نتحدث عن الاستقلالية والمساطر المالية معقدة مرتين مرة حين تقررها وزارة المالية بعد اجتماعات ماراطونية بين مصالحها ورئاسات الجامعات ومرة حين صرفها من قبل قطاع التعليم العالي بسلطة أبوية لها معنى واحد، وهو أن الرؤساء قاصرون غير ناضجين وغير قادرين، وهو نفس التصرف الذي يحدث مع مجموعة من العمداء والمدراء من طرف بعض الرؤساء، ثم تأتي قصة المراقبة القبلية التي تنطبق على التعليم العالي وهي مراقبة معرقلة للسير العادي والطبيعي لأغلب المؤسسات بسبب بعض المراقبين الماليين في علاقاتهم مع مجموعة من الرؤساء و العمداء و المدراء، فكيف نقبل أن للجماعات الترابية مراقبة بعدية و للجامعات مراقبة قبلية. إضافة إلى قضايا أخرى عبرت عنها في مناسبات عديدة وتحتاج إلى قرار سياسي جريء.

n صادق المجلس الوزاري الأخير على القانون الإطار للتربية والتكوين، وطرح النقاش من جديد حول إلغاء مجانية التعليم، وكاتب الدولة في التعليم العالي يتحدث عن رسوم للتسجيل وليس إلغاء مجانية التعليم، كيف ترون هذه التطورات في قطاع التعليم وتغليف ضرب المجانية من جديد بخطاب الفقير والغني وتكافؤ الفرص؟
pp لقد شكلت منظومة التربية والتكوين منذ بداية الستينيات محوراً أساساً من محاور سياسات المغرب، بكل مستوياته ومكوناته، إذ كان أمر التعليم عموماً والتعليم العالي والبحث العلمي خصوصاً وموارده البشرية، على وجه أخص، حاضراً خلال الأيام الدراسية والمناظرات الوطنية ، بدءا من مناظرة المعمورة سنة 1964 وانتهاء بالقانون الإطار المعروض على أنظار البرلمان للمصادقة، والمطلوب من نواب الأمة المصادقة على مقتضياته، وللإشارة فإنه مشروع طموح مجدد للفعل التربوي، مشدد على إيلاء الاعتبار لعمليات التعليم والتعلم، مدافع عن التعليم العمومي العصري والجيد والمنصف والملزم في إطار مشاريع مندمجة ومتكاملة، مشروع إطار قانون يهدف إلى تأهيل الفرد في قلب منظومة تربوية ذات مردودية قوية تتجاوز صعوبات المشاريع القبلية وتندرج في إطار تعاقد وطني متجدد، لكن السؤال المطروح، هل ستتخلى الحكومة عن ضمان مجانية التعليم، والسؤال الذي أطرحه قبل هذا هل تحتاج منظومتنا التربوية اليوم إلى إمكانات مالية إضافية؟
أعتقد أن منظومتنا التربوية اليوم تحتاج إلى حكامة وطنية في التدبير والتسيير، ولن يقبل المغاربة بضرب مجانية المنظومة قبل أن يلمسوا الصدق والثقة ويطلعوا على نتائج البحث في مجموعة من الملفات المعروضة على مفتشياتها، وكذا حتى يوضع حد لما يقع في مجال تأمينات التلاميذ وانخراطات جمعيات الآباء والأمهات، ويقع الضرب حقيقة على يد كل متلاعب… آنذاك فقط يمكن للمغاربة أن يختاروا اختيارا آخر في موضوع مجانية المنظومة.
أعتقد أنه ليس هناك جديد يذكر ليغير المغاربة قرارهم في موضوع المجانية، وحين يكون الجديد المتمثل أساسا في عنصر الثقة في مسؤولي المنظومة بصدقهم ومقبوليتهم من قبل المجتمع، آنذاك سيكون لنا رأي نجهر به، أما اليوم فكل المؤشرات تذهب إلى أن دار لقمان ما زالت على حالها وقد تكون في مواضع افلس من حالها قبل اليوم .
أما ما جاء على لسان كاتب الدولة فإنه سرعة غير محسوبة في التفسير والتبرير، فهو لا يتحكم في كل أعضاء وعضوات مجلس النواب، إن كان يتحدث بهذا المنطق، أما إن كان يتحدث بمنطق كاتب الدولة فليس له الحق في أن يجزم بخصوص قضية معروضة على البرلمان، إذ له الحق في التعبير عن رأيه حين يطلب منه ذلك فقط، وهاته هي أخلاق الممارسات ، ثم ماهاته الطريقة في تقسيم المجتمع إلى فقير وغني !!!
لذا لا يجب التسرع، لأن التأخر في تنفيذ بعض القرارات حتى تهييئ كل ظروف نجاحها أفضل بكثير من التسرع الذي يدمر الأهداف النبيلة.

n كيف ترى تجميع التكوين المهني مع قطاع التربية الوطنية بتعليمها الابتدائي والإعدادي والثانوي والتقني، ثم إضافة التعليم العالي والبحث العلمي؟ هل هذا التجميع يخدم منظومة التربية والتكوين أم العكس صحيح؟
pp أعتقد أن الإشكال المطروح اليوم ليس فقط في التجميع أو غيره بل في من يتحمل مسؤولية تدبير قطاع من القطاعات، صحيح أنني كنت شخصيا من بين من نادى بربط قطاع التكوين المهني بقطاع التربية الوطنية، لكن في استقلال عن منظومة التعليم العالي و البحث العلمي، لماذا؟ لأن طبيعة سن التلاميذ وأحيانا أنواع التكوينات تلتقي تمام الالتقاء بين قطاعي التكوين المهني والتربية الوطنية وتبتعد عما يقع من حيث الكم والكيف أحيانا في منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، ثم إن اسناد كل قطاعات منظومة التربية والتكوين إلى شخص واحد بمسؤولية وزير، فيه مجازفة و مغامرة، فهل نحن أمام الرجل الآلي الأسطوري (سوبرمان) حتى يتابع قضايا ما يفوق ثمانية ملايين؟ إنه قرار غير صائب وقرار مثله يبدأ ميتا و فاشلا، خصوصا إذا ظهرت معالم عدم الانسجام والتناقض إلى درجة التطاحن والتنابز بالألفاظ والإشارات و«الكولسة» بين من يفترض فيهم أن يكونوا نموذجا يحتذى به في المجتمع، لذلك أقول إن طبيعة المنظومة وإعداد مكوناتها التي تشارف اليوم التسعة ملايين بين التلاميذ والطلاب والأساتذة والموظفين وانسجاما مع خطابات جلالة الملك منذ تسع عشرة سنة في القضايا التربوية والتدبيرية من حكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة والجهوية واللامركزية و اللاتمركز، كل ذلك في اعتقادي يدعو إلى إعادة النظر في الهيكلة الحكومية المرتبطة بمنظومة التربية والتكوين، فيكون لها وزارتان مستقلتان، هما وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، يتحمل كل وزير المسؤولية الكاملة في تدبير قطاعه وليس له كاتب دولة أو وزير منتدب، خصوصا إذا علمنا أن المغرب ماض في تنفيذ مقتضيات اللامركزية واللاتمركز والجهوية الموسعة، فقطاع التربية و التكوين المهني بأكاديمياته الإثني عشر من جهة والجامعات الاثنى عشر في قطاع التعليم العالي، وهي تتقدم في تنفيذ المقتضيات الفعلية للاستقلالية في التدبير والقرار والتسيير المالي والبيداغوجي والإداري بأطر ذات كفاءة عالية وخصال النزاهة والمسؤولية وغيرها مما يفترض أن يكون في من يتحمل أي مسؤولية صغيرة كانت أوكبيرة، وطنية أومحلية أو إقليمية أو جهوية أو دولية، كل ذلك سيكون مساعدا لا محالة لوزراء القطاع في إنجاح مهام التدبير والتسيير وفي بلوغ المنظومة رسائلها النبيلة، خدمة للوطن والمواطنين، أما غيرهذا فإننا سنظل على نفس الأوضاع، بل إن منظومتنا ستعرف تراجعات، وسنكون أمام منظومة تربوية تفرز لنا العطالة والبطالة و المنحرفين واللاوطنيين والعصابات المنظمة، وهذا خطر على الوطن بكل مكوناته ومستوياته .

n كلمة أخيرة دكتور محمد الدرويش.
pp على غير عادتي تكلمت اليوم بهاته النبرة التي توحي بالتشاؤم حول مستقبل منظومة التربية والتكوين في المغرب، وبالعكس من ذلك فإني أومن بمقولة الشاعر العربي الكبير محمود درويش، فأقول علي أن أخترع الأمل ولو كنت محبطا وأنا لم أصل بعد للاحباط، لكن دق ناقوس الخطر بخصوص مستقبل أجيال المغاربة التربوي، وهو واجب وطني ومسؤولية نتحملها جميعا ، فالساكت عن فضح الفساد مشارك فيه، واسمح لي كذلك أن أخبر الرأي العام الوطني واستحضارا لكل هاته المعطيات المقلقة حول منظومتنا التربوية فقد التقت رغبة مجموعة من خيرة أطر الوطن في اجتماع حول أداة لرصد و تتبع و جمع كل المعطيات الخاصة بالمنظومة والترافع حول قضاياها والدفاع عن مشروعنا التربوي الوطني الحداثي والدمقراطي فقررنا جميعا تأسيس «المرصد الوطني لمنظومة التربية و التكوين».
وسيكون لنا من خلاله كلام في كل القضايا الإيجابي منها والسلبي، ولن نسكت عن أي إخلال بواجب وأخلاق تحمل الأمانة والمسؤولية، سواء تعلق الأمر بالتعليم الأولي أو الإعدادي أو الثانوي أو العالي أو التكوين المهني في هذا الوطن العزيز، فانتظرونا، شكرا مرة اخرى و تحية خاصة لقراء الاتحاد الاشتراكي ..

 


الكاتب :  أجرى الحوار:  عبد الحق الريحاني

  

بتاريخ : 10/09/2018