من مذكرات عبد الرحيم بوعبيد : حديث متبادل مع بن بركة حول المؤسسات والحسن يعتلي العرش

مع بن بركة

كنا عائدين من دامبيير Dampierre من الضاحية الباريسية، بعد لقاء في بيت روبير بارا، بمعية فرانسوا مورياك، جورج سوفير وبعض الأصدقاء الآخرين. بالكاد تكلمنا عن الوضع في المغرب، لأننا، بالأحرى، تحدثنا عن دوغول وعن حرب الجزائر. كنت قلت لفرانسوا مورياك إن الجنرال دوغول هو الوحيد القادر على التفاوض مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ومانديس فرانس نفسه يعتقد ذلك، ويحثنا على اللقاء به. فلا أحد قادر على وضع حد لهذه+ الحرب، ولاشك أن الرأي العام الفرنسي سيسانده ويزكيه، في أغلبيته الساحقة. سألني فرانسوا مورياك: ـ هل طلب منكم ذلك! عندما أفكر بعمق، هذا لن يفاجئني من طرفه… ثم مال جهتي، وأضاف بصوته الأجش الخافت: ـ لديكم مشاكلكم مع ولي العهد في المغرب، وأنا أيضاً لدي أميري، لكن بدون مشاكلكم، وهذا الأمير هو دوغول. ثم، حوالي الساعة الرابعة بعد الزوال، استأذنا أصدقاءنا للعودة إلى باريس، عبر الطريق السيار غرباً. كنت جالساً إلى جانب المهدي بن بركة الذي كان يسوق السيارة، فيما جلس المهدي العلوي في المقاعد الخلفية. استأنفنا مناقشاتنا اللانهائية حول السبل والوسائل الكفيلة بإقرار نظام ديمقراطي. وجهة نظري كانت هي أن التوافق هو السبيل الوحيد في سياق الظرفية الداخلية المغربية. قلت: ـ إن الوقوف عند شرط المجلس الاستشاري المغربي، المنتخب عبر الاقتراع السري، سيكون خطأ فادحاً. فليس بمقدورنا أن نفرض على ملك يحظى بشعبية، حظي بمباركة مجموع الشعب، لدى عودته من المنفى، أن يسلِّم الملكية إلى مجلس منتخب، حتى ولو انتخب ديمقراطياً… لن يسعه أبداً القبول بذلك… أجابني المهدي: ـ فات الأوان، لن يمكننا العودة إلى الوراء… وعلى كل، حاول أن تحدث المحجوب والاتحاد المغربي للشغل في الأمر… ـ ما فات أوانه هو أن نريد إعادة صناعة التاريخ من جديد. فعندما تضيع الفرصة، يكون من غير المجدي السعي لاستعادتها… سيكون ذلك بالضبط سقوطا في فخ التاريخ… أية إيديولوجية؟ أي رؤية كانت لدى المقاومين والنقابيين وحزب الاستقلال… إلخ في السنوات من 1952 إلى 1955؟ لاشيء، فالشعار الوحيد كان هو عودة محمد الخامس، وحتى الاستقلال الوطني وضع في المرتبة من بعد… لا أعتقد في الوقت الراهن، يجب أن نأخذ من جديد بفكرة الغرفة الدستورية. يمكننا أن نتفاوض بخصوص تشكيلتها وسلطاتها، لكن تبدو لي تسوية من شأنها أن تخرجنا من المأزق… بيد أن مواصلة النضال من أجل مجلس تأسيسي، مع ترك المشاكل الأساسية للاقتصاد والقضايا الاجتماعية والثقافية جانباً، دون الحديث عن القواعد الأجنبية أو سياسة اللا ـ تبعية… يكون المجلس التأسيسي بلوكاج (انحساراً).. فشئنا أم أبينا ذلك، فإن السلطة بين يدي الملكية… هل تعتقد أن الاتحاد المغربي للشغل وقادته قادرون على تعبئة وتحريك الطبقة العاملة من أجل المجلس التأسيسي؟ أبداً، إن تفكيرهم هو ترك الوضع يتأزم، ومن هذا التأزيم، سيولد النور ويأتي يوم الثورة الأغر! إنه الفراغ، اللاشيء!. ظل المهدي صامتاً. والمهدي الآخر، التزم بدوره الصمت متجنباً التدخل بالأحرى. ـ يا مهدي، ذلك المجلس الاستشاري الذي ترأسته قرابة سنتين… ها هو، بالرغم من كل ذلك، حرّك الحياة العامة ونشطها… فقد نوقش المخطط فيه، كما تم ضمنه وداخله تفسير وتوضيح اختيارات والتصويت على توصيات حول مشاكل وطنية مهمة… ومع ذلك، تعرض للانتقادات واعتبر هيئة وهمية… والنتيجة في عمومها كانت إيجابية. ولعل مجلساً يتم هذه المرة انتخابه في إطار دستور مهيأ باتفاق مع الملك، يمكن أن يكون له دور بمثل نفس الأهمية أو أكثر… وعليه، فأعتقد أنه يمكن أن يشكل إطاراً ديمقراطياً، حتى ولو لم تكن ديمقراطيته كاملة، للشروع في النضال من أجل التنمية… وأخيراً، (قلت)، إن أسوأ وضع يمكنه أن يحدث هو رحيل أو إبعاد محمد الخامس… لم أدرك ما هو السبب الذي دفعني إلى التعبير عن هذا الإحساس (الحدس)، والحال أنني كنت في باريس، طيلة أيام عديدة، ولم أكن أعرف أن محمد الخامس سيخضع لعملية جراحية في اليوم ذاته. واصلنا طريقنا باتجاه باريس، وحوالي الساعة الخامسة والنصف أو السادسة مساء، أدار المهدي زر المذياع للاستماع إلى آخر الأخبار. وكان أول خبر يبث هو وفاة محمد الخامس، جراء عملية بسيطة، أجريت له في بداية زوال ذلك اليوم. خيم علينا الصمت وتَسَمّرنا في أماكننا. ثم، سألني المهدي بن بركة. هل كنت على علم بأنه سيجري عملية جراحية، اليوم؟ ـ أجبته: ـ كلا! .. وبدأت صفحة جديدة في تاريخ بلادنا.
قضية المجلس التأسيسي

ـ…(….) انتظرنا أياما وأسابيع، دون أن نتوصل بأي جواب، ولو حتى إشعارا بالاستيلام· والحال، أنني كنت آمل الحصول على رد أو على مشاورات جديدة ·وقد كنت أعد نفسي لإقناع رفاقي في الحزب بأن صياغة مشروع دستور من طرف هذه الغرفة الدستورية الشهيرة، بالرغم من كل شيء، تعد تكتيكيا أفضل طريقة، في غياب سبيل آخر· أما في ما يخص انتخاب المجلس التأسيسي بالاقتراع المباشر، فلا يمكنه أن يمثل سوى مخاطر مؤكدة· فقدكان علينا أن ندرك أن قرابة 80 % من الناخبين من العالم القروي، وإمكانيات الضغط والتناور من طرف وزارة الداخلية على هذ االجسم الانتخابي كانت بديهية، كما أن تواجدنا وتجذرنا كقوة سياسية كان لايزال في بدايته، وفي مثل هذه الشروط، سيكون المنتخبون في المجلس التأسيسي في أغلبيتهم الكبرى من القرويين، ينضاف إليهم جزء من البرجوازية المنتخبة عبر بعض الدوائر الحضرية، وبالتالي فإن تصوراتنا التقدمية التي تبقى نظرية ومجردة، لن يسعفها الحظ في أن تتبناها الأغلبية ولو كانت هذه الأغلبية محدودة· أما في الغرفة الدستورية، حيث الأحزاب السياسية والنقابات ممثلة، ستكون لدينا حظوظ أفضل للوصول إلى نتائج· وعلى كل، ستكون لدينا حظوظ أكثر من حظوظنا في مجلس يسمى تأسيسيا، نصفه من المنتخبين القرويين· من المرجح أن هذا المجلس كان سيتبنى تصورات محافظة، على الطرف النقيض من التصورات التي ندعو إليها· إذن،كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مجبرا على الوقوف موقف الانتظارية والترقب في غياب المبادرة وإعمال الإبداع· في انتظار ذلك، كان الحكم يضع بنياته ورجالاته· واستمر التحالف بين الاستقلال والحركة الشعبية وغيرهما من المستقلين بعد وفاة محمد الخامس· الملك الحسن الثاني عين أحمد رضى اكديرة مديرا عاما لديوانه، كما أسند إليه، عبر التفويض، السلطات الموكولة للوزير الأول،علاوة على أنه كان يمارس مهام وزير الفلاحة، مما منحه وسيلة للاتصال المباشر مع العالم القروي وجزء كبير من الملاكين الفلاحيين الجدد، ضمن البرجوازية· وبعد وفاة البكاي، في 14 أبريل 1961 ، والذي كان وزيرا للداخلية تولي اكديرة زمام هذه الوزارة·


بتاريخ : 09/01/2019

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

جيد أن تبحث عن ملاذات في أقاصي نيوزيلندا، لكن، أن تحاول تشييد حضارة جديدة على جزر عائمة، فذاك أفضل! إنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *