نحو استعادة تميزها المفقود … العاصمة الاقتصادية تسابق الزمن لإنجاز مشاريعها العملاقة

مليئة هي بالمتناقضات والمفارقات، جمعت بين ظهرانيها كل ألوان الطيف المغربي، المتنوع والمختلف، هي مغرب مصغر، نُسج خيطا خيطا منذ أن حطت بها منذ بداية القرن الماضي أولى أفواج المغاربة القادمين من كل الربوع بعاداتهم وتقاليدهم، بحثا عن منفذ عيش جديد، هربا من جفاف مستفحل أو تسلط قائد متجبر مارس ظلمه في البوادي البعيدة لإرواء تعطشه للسلطة والنفوذ، بين شوارعها وأزقتها قد تصدمك مشاهد غريبة، عربات تجرها البغال والحمير، كلاب ضالة وقطط تائهة، سكارى ومومسات، أزبال ونفايات على جوانب الأرصفة وفوقها، فوضى عارمة في الطرقات وسيارات وشاحنات يخرق سائقوها قانون السير بكل جرأة ورباطة جأش وما تيسر من ألفاظ بذيئة يقذفونها في وجه بعضهم البعض، حافلات تحترق وسط الشوارع، مبان متهالكة رمادية تئن من وطأة السنين ودواوير قصديرية يصارع أهلها من أجل الحصول على رغيف مضمخ بالعرق والغبار…

وسط هذه الصورة القاتمة التي تهيمن على يومياتها وتضفي سوادا يغلف جنباتها وأجواءها هناك جانب مشرق يطل بهامته، ببطء وخجل، لكن بكل إصرار وثبات، محاولا إعادة لذة عيش فُقدت بها منذ سنين…
إنها الدار البيضاء أو أنفا التي تخضع في الآونة الأخيرة لعدة عمليات تجميل وإعادة تأهيل لواجهتها وبنيتها التي تغضنت بفعل عوامل مختلفة، في هذه الورقة سنحاول تسليط الضوء على بعض التغيرات الإيجابية التي تعرفها المدينة والمشاريع العملاقة التي تنجز بها والفرق الواضح الذي أحدثته هذه الأخيرة، وذلك بعد غضبة ملكية أبت إلا أن تعيد للمدينة ألقها وتنفض الغبار الرمادي عن بياضها لتعيد له لمعانه الذي يوشك على الأفول…
الدار البيضاء مدينة ذات بعد دولي، وهذا ما سيسمح للمغرب، في المستقبل القريب، بجذب استثمارات أجنبية ضخمة والاستحواذ على حصته في السوق الناشئة الجديدة بنفس الطريقة التي تستثمر بها جنوب إفريقيا والبرازيل وروسيا والهند والصين … وذلك عن طريق مشاريع ضخمة وعظيمة اكتمل بعضها ومازالت أخرى في طريق الإنجاز، وهي المشاريع التي ميزت رؤية جلالة الملك محمد السادس الذي أطلق مخطط تنمية الدار البيضاء (2015- 2020( من أجل جعل الجهة والمدينة قطبا ماليا دوليا حقيقيا، وتحسين إطار عيش ساكنتها، والحفاظ على بيئتها وهويتها والذي يحرص جلالته شخصيا على إنجازها، ومن هذه المشاريع هناك:

مشروع إنجاز الممر تحت أرضي بشارع الموحدين

نفق الموحدين الذي يمتد على مسافة كيلومترين تقريبا من شارع الجيش الملكي حتى المارينا مرورا بشوارع الموحدين وسيدي محمد بن عبد الله و زايد اوحماد ثم ينتهي في مدار الزلاقة، وصل غلافه المالي إلى 600 مليون درهم ومدة إنجازه 36 شهرا، وتطمح المدينة من خلاله إلى القضاء على مشكل الاكتظاظ، وذلك بتغيير مستوى جميع ملتقيات الطرق عن طريق بناء ممر تحت جميع المدارات المؤدية إلى «مارينا الدار البيضاء»، على طول 2000 متر معظمها مغطى، وهو يقع في مركز الدار البيضاء، بشارعي الموحدين وسيدي محمد بن عبد الله، اللذين يعتبران من بين المحاور الاستراتيجية الأكثر أهمية بالمدينة، ويشكلان جزءا من الطريق الشاطئية المؤدية أيضا إلى شاطئ الدار البيضاء.
ويبتدئ على بعد 200 متر من مخرج الممر التحتي الموجود قبالة مسجد الحسن الثاني، ليمر بجانب البحرية الملكية شرقا و»المارينا» غربا، ويخترق أسفل المدار الأول المؤدي إلى هذه الأخيرة، ثم يواصل ليؤدي، عبر مدار، إلى المدينة القديمة الواقعة شرقا، قبل أن يخترق أسفل المدار الثاني المؤدي إلى «المارينا»، ويخترق بعد ذلك أسفل المدار الثالث والأخير المؤدي إلى «المارينا»، قبل أن ينتهي بمقربة من مدخل محطة «الدار البيضاء – الميناء» على مستوى مدار الزلاقة. وبعد ثلاث سنوات من العمل من المتوقع الانتهاء منه في الربع الأول من عام 2020.

إعادة تأهيل حديقة الحيوانات عين السبع

تعتبر حديقة حيوانات عين السبع تراثا بيضاويا بامتياز، وشكلت منذ ثمانين سنة تقريبا نقطة استقطاب لسكان البيضاء خلال نهايات الأسبوع وكذا الأعياد والعطل، كما ارتبطت في ذاكرة كل طفل بيضاوي بالرحلات المدرسية التي كانت تنظم في اتجاهها للتعرف عن قرب على مختلف الحيوانات البرية التي كانت تستوطن أقفاصها، ولا يزال الكثيرون يتذكرون ذلك الأسد الهرم وزئيره المخيف كل غروب رغم إصابته بالوهن وحبسه وراء قضبان حديدية عالية، والقرود المشاغبة التي كانت تتفن في نزع ضحكاتنا وهي تتلقف حبات الفول السوداني وكل ما جادت بها أيدينا.
لكن شاءت الظروف أن تقفل أبوابها ليبدأ ورش إعادة تهييئها سنة 2016، وذلك من أجل تحويلها إلى حديقة حيوانات تستجيب لمتطلبات الساكنة وحاجيات المدينة بما في ذلك مدها بتجهيزات حديثة ومتطورة في ميدان الترفيه والتنشيط.
وصلت الميزانية الإجمالية لهذا المشروع إلى ما يقارب 250 مليون درهم، ويقع وعاؤه العقاري بمقاطعة عين السبع، تحده الطريق الوطنية رقم 1 جنوبا، وخط السكة الحديدية شمالا، مساحته حوالي 10 هكتارات وستتوفر الحديقة على أربعة محاور رئيسية تمثل أربعة مناطق جغرافية: إفريقيا،آسيا،أمريكا والأطلس وستضم تشكيلة حيوانية مكونة من أزيد من 45 صنفا حيوانيا.

كازا فواياجور

تم مطلع هذه السنة تدشين محطة الدار البيضاء- المسافرين الجديدة بكلفة إجمالية بلغت 450 مليون درهم، حيث دامت الأشغال بها حوالي عامين ونصفا على مساحة عشرة آلاف متر تقريبا.
وستمكن المحطة العملاقة، التي تعتبر آخر محطة يتوقف بها القطار فائق السرعة «البراق» الذي تم تدشينه هو الآخر مطلع هذه السنة، من استقبال حوالي 20 مليون مسافر سنويا.
وتضم بناية للمسافرين صممت بشكل معماري متطور وحديث تحتوي على الخصوص على قاعة للركاب وقاعة للمسافرين وقاعة شرفية ومصالح للاستغلال ومحلات تجارية، كما همت الأشغال بهذه المحطة إعادة تأهيل 5 أرصفة بطول 400 متر وكذا تهيئة الفضاء الخارجي الذي تبلغ مساحته 95 ألف متر مربع، بالإضافة إلى مرآب بطاقة استيعابية تبلغ 300 مكان.
وتمت بالمناسبة إعادة تهيئة زنقة الأمير عبد القادر المجاورة للمحطة لتتماشى مع حلة المحطة الجديدة.

مسرح الدار البيضاء الكبير

رغم أن افتتاحه لم يتم بعد، وذلك لعدة ظروف مرتبطة أساسا بتدابير تقنية، يعتبر المسرح الكبير للدار البيضاء أحد أكبر المركبات الثقافية بإفريقيا والعالم العربي.
يقع وسط ساحة محمد الخامس في قلب المنطقة التاريخية للمدينة، المتميزة بمعمارها الأصيل، وسيمنح البيضاء هوية جديدة وحديثة بفضل تصميمه الهندسي الحداثي الفريد والمميز والمناقض للبنايات المجاورة له من حيث الشكل والمعمار، كمقر ولاية الدار البيضاء والمحكمة الابتدائية، وهو متعدد الاستعمالات مخصص لجميع فنون الخشبة: المسرح والرقص والموسيقى والمسرحيات الموسيقية. كما يمكنه استقبال تظاهرات وعروض ثقافية وفنية طوال أيام السنة.
بدأت الأشغال في مشروع المسرح الكبير للدار البيضاء في أكتوبر 2014، ويضم قاعة للعروض تتسع لـ1800 شخص، وقاعة للعرض المسرحي تتسع لـ600 شخص، وقاعة للموسيقى تتسع لـ300 شخص، وصالات صغيرة للتمرين و4 قاعات للاجتماع، ومحلات تجارية، ومرآب تحت أرضي يتسع لـ173 سيارة.

ترامواي البيضاء

منذ دخوله الخدمة سنة 2012 أصبح ترامواي البيضاء جزءا لا يتجزا من معالم البيضاء المتحركة، ففي محاولة لفك شيفرة أزمة النقل المستعصية والتي تعاني منها البيضاء على غرار باقي المدن العالمية ذات الكثافة السكانية الكبيرة، تم التفكير في إحداث أربعة خطوط للترامواي.
بعد الخط الأول الذي دخل الخدمة في 13 دجنبر 2013 والذي يربط بين سيدي مومن وعين الذياب والكليات، والذي يعبر العاصمة الاقتصادية من شرقها إلى غربها٬ ويضم 48 محطة توقف لنقل الركاب، تم تدشين الخط الثاني مطلع هذه السنة  2019 ويربط بين سيدي البرنوصي وعين الذياب على مسافة 15 كلم في أفق إحداث الخط الثالث من شارع محمد السادس إلى محطة الميناء- البيضاءعلى مسافة14كلم، وسيكون جاهزا في 2021، أما الخط الرابع فسيربط بين شارع إدريس الحارثي ومسجد الحسن الثاني وستنتهي الأشغال به في 2022.
بالإضافة إلى وظيفته العملية المتمثلة في تسيير تنقل ساكنة المدينة المترامية الأطراف، ساهمت وسيلة النقل هذه في تغيير معالم المدينة، خصوصا بالمناطق التي تخترقها عرباتها ذات اللون الأحمر، حيث تبدلت ملامح أحياءهامشية كانت بالأمس القريب تعاني مظاهر سلبية عديدة أقلها الفوضى العارمة في الطرقات والاختناق المروري وكذا أصوات أبواق السيارات المختلطة بأصوات الباعة داخل أسواق عشوائية أثثت الدروب والشوارع.

المنتزه الجديد لمسجد
الحسن الثاني

سيساهم المنتزه الجديد لمسجد الحسن الثاني، الذي انطلقت الأشغال به منذ سنة 2017، ويهم تهيئة مساحة تقدر ب13 هكتارا تقريبا، على طول 1.5 كلم، بغلاف مالي قدره 200مليون درهم، في إضافة إشراقة أمل جديدة على نفوس مرتاديه، كما سيشكل نقطة ضوء مميزة ستجذب إليها ساكنة البيضاء وزوار المدينة من كل صوب، معززا بذلك جاذبيتها سياحيا، ويضم فضاءات لألعاب الأطفال ومساحات لممارسة رياضة الجري والمشي وممرات لمحبي الدراجات الهوائية، بالإضافة إلى أكشاك ومتاجر ومرافق صحية ومربض للسيارات بسعة 100سيارة، وهو مفتوح على المحيط بتصميمه المستوحى من فن الحدائق الإسلامية حيث سيكون عبارة عن شريط أخضر على الساحل الأطلسي يربط بين مسجد الحسن الثاني إلى حدود منطقة «العنق».
من المؤكد أن عملا كبيرا ينتظر القائمين على شؤون البيضاء، وماهذه المشاريع سوى بداية لما هو متوخى ومنتظر منهم، وفي أفق أن تكتمل مشاريع البيضاء العملاقة بشكل نهائي في إطار مخطط تنمية المدينة الذي يندرج في إطار التعليمات الملكية، لاسيما تلك الواردة في الخطاب الذي ألقاه جلالته بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية التاسعة (11 أكتوبر 2013)، يأمل كل بيضاوي، ومن خلاله كل مغربي، في أن تضع هذه المشاريع المدينة المليونية على سكة التنمية الحقيقية وتدفع بها لتتبوأ مكانتها بين كبرى المدن العالمية.


الكاتب : خديجة مشتري - ص: الطيبي هنودة

  

بتاريخ : 23/03/2019