هكذا تحول الفقيه المحافظ إلى مناضل حداثي قراءة في كتاب محمد بن سعيد آيت إيدر، هكذا تكلم محمد بنسعيد

أقترح زاوية للمعالجة في هذا المقام تروم البحث في العلاقة بين الذاكرة والتاريخ عند الفاعل السياسي المغربي انطلاقا من هذا المنجز الذاكري لسي محمد بن سعيد آيتإيدر، بمعنى سؤال نوعية الذاكرة ومستويات تفاعل المؤرخ معها، ومحاولة القبض على الخيط الناظم في مسار صاحب المذكرات مع تتبع مختلف المنعرجات المؤثرة، التي بصمت ووسمت اختياراته السياسية، ومحاولة فهمهما في سياقاتها التاريخية الشارحة حيث يتقاطع المفرد مع الجمع. فجعلتها في تمهيد مستشكل للموضوع ومحورينكالآتي:

 

تمهيد استشكالي

سأنطلق في عملية استشكال موضوع هذه القراءة مما جاء في شهادة كريم التازي المتضمنة في هذا الكتاب، إذ يقول :» لي الشرف أولا أن أتساءل مع المتسائلين لمَ وكيف بقي هذا الرجل طوال كل هذه السنين شريفا نظيفا؟ (..) لست مؤرخا، ولم يسبق لي الاحتكاك به والتعرف عليه خلال أزهى فترات مساره النضالي السابقة القوية الاشعاع كمنارة».
أتقاسم مع صاحب الشهادة عدم الاحتكاك بالسي محمد بنسعيد زمن العنفوان بحكم عامل السن، لكن ها هو يقدم لنا حصيلة التجربة من ريعان الصبى إلى مرحلة الرمز. ولأنني أنتمي إلى حنطة المؤرخين، فإنني أستلهم من سؤال كيف بقي شريفا نظيفا سؤالا آخر يشكل أساس هذه القراءة ومبرر عنوانها: كيف تحول الفقيه المحافظ ذو الثلاثة عشر ربيعا نهاية ثلاثينيات القرن الماضي إلى مناضل سياسي تقدمي يترجل عن صهوة القيادة فاسحا المجال لإبراهيم ياسين مع مطلع الألفية الثالثةليقود عملية توحيد صفوف اليسار من جانب منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، ثم ينزل إلى جانب القواعد الحزبية مسلما مشعل القيادة لمحمد مجاهد، بل ويتحول إلى دعامة معنوية ونضالية برأسمال رمزي كبير لنبيلة منيب؟

أولا: في تجنيس الكتاب ولغة والذاكرة

تطرح تركيبة الذاكرة وآليات اشتغالها عددا لا يحصى من المشكلات والتعقيدات، فهي تقع في نقطة تقاطع بين حقول معرفية كثيرة قد تبدأ بالتاريخ ولا تنتهي بالطب مرورا بعلمي النفس والأعصاب. تتوزع وتتقابل داخل ثلاث مستويات: ذاكرة فردية وذاكرة جماعية في مقابل ذاكرة تاريخية. وهو ما يستدعي على المستوى المعرفي تعاطيا ثلاثيا مواكبا، أي فينومينولوجيا الذاكرة الفردية وسوسيولوجيا الذاكرة الجماعية وابستيمولوجيا المعرفة التاريخية. لذلك قد يتبادر إلى ذهن قارئ كتاب هكذا تكلم محمد بنسعيد، سؤال هل يتعلق الأمر بذاكرة شخصية أم جماعية؟ نستحضر مع الفيلسوف الفرنسي بول ريكور عناصر للتحليل مستمدة من سوسيولوجيا الفهم لماكس فيبر والفلسفة السياسية لحنا أرندت، ونطرح معه سؤال: « أليس هناك مستوى متوسط للمرجعية حيث تتم بالفعل عمليات التبادل بين الذاكرة الحية للأشخاص، الافراد وبين الذاكرة العامة للجماعات التي تنتمي إليها؟ إن هذا هذا المستوى هو مستوى العلاقة بالأقربين الذين يحق لنا أن ننسب إليهم ذاكرة من نوع متميز». إذ « علينا أن ندخل حقل التاريخ، ليس فقط مع فرضية الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، ولكن مع فرضية النسبة الثلاثية للذاكرة: النسبة إلى الذات، والأقربين والأخرين».
يخبر عبد الرحمان زكري قُراء هذا الكتاب أنهم أمام باكورة الذاكرة وزبدة عصارتها فهو يحتل حسب صاحب التقديم: «موقعا خاصا ومتفردا بدون أي شك» من بين «أكثر من عشرة مشاريع، بين خطاطات أولية، ومسودات كتب ناجزة، بعضها أعمال توثيق وبعضها أعمال تأليف، ما تزال تنتظر في أدراج مكتب الأستاذ محمد بنسعيدأيت ادير أن يحين دورها للنشر». كما يخبرهم أيضا أن السي محمد بنسعيد كائن مدون وليس «بتاع كلام» كما يقول المصريون، إذ يقبض على الأحداث في سخونتها، ويدونها حتى لا تنزلق إلى هاوية غير المفكر فيه أو تغوص ثاوية في قاع الذاكرة الذي ليس له قرار. إذ يقول:» بخلاف المذكرات فـ» سيرة الأستاذ بنسعيد، ليست كتابة لاحقة وبعدية عن أحداث يعود الكاتب لاستدعائها من الذاكرة بعد أن تكون قد مرت على وقوعها سنوات وعقود… إنها- على الأقل في جانبها المتعلق بسيرة الكفاح- كتابة حية وسط المعمعة، وبمداد دافئ».
وفي باب تجنيس الكتاب يخلص صاحب التقديم إلى القول:» ربما حق لنا، رغم كل الفروق بين الذاكرة والتاريخ أن ندرج كتاب «هكذا تكلم محمد بنسعيد» في ما نقدّر أنه أقرب وأنسب خانة يمكن أن تحتضنه بصدر رحب، وهي خانة الشهادة التاريخية، ولم لا أيضا، نمط ما من التأريخ الاجتماعي السياسي والفكري مضمونا حتى وإن يكن الشكل سيرة…»
تدفعني التحديات المطروحة أمام هذا التقدير للتوقف ابستيما مع بول ريكور عند ما أسماه المستوى الأخلاقى- السياسي للذاكرة المُلزَمة متحدثا عن تعقيدات وصعوبات انجاز هذه الذاكرة لواجبها بالقول:» نحن لا نستطيع أن نتكلم عن هذه الصعوبات بطريقة مسؤولة قبل أن نكون قد مررنا بالسهول الجافة لإبستمولوجيا المعرفة التاريخية وبلغنا منطقة الصراع بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، الذاكرة التاريخية، في تلك المنطقة حيث تواجه الذاكرة الحية للباقين على قيد الحياة النظرة الثاقبة والنقدية للمؤرخ، هذا إن لم نقل شيئا عن نظر القاضي.
في نقطة التصادم هذه يتبدى واجب الذاكرة مفعما بالالتباس، إن الأمر بالتذكر قد يسمع وكأنه دعوة موجهة إلى الذاكرة لتختصر عمل التاريخ».
كان سي محمد بنسعيد، وهو الذي خبر البحث التاريخي في جماعة فانسين، مدركا لهذه المحاذير، لذلك حرص على تقديم ذاكرته بلغة الشاهد والمراقب والفاعل، تاركا للمؤرخ مهمة ادخالها إلى مختبره لاستخراج المادة التاريخية منها.
في العلاقة مع موضوع اللغة دائما، اتسم هذا الكتاب بنقاء الأسلوب وصفاء اللغة وبهاء التعبير مما جعله يشد قُرائه لاستكمال السردية، لا بل وربما قراءتها دفعة واحدة.
بيد أن الذي يشد انتباه الباحث أكثر ليس لغة الكتاب فقط بل لغة الذاكرة مصدر البوح، فهي حينا حذرة متوخية الحيطة، كما في الصفحة 41 تستعمل عبارة « قيل لنا»، أو عبارة « حسب ما وصلني من رفاقي» في الصفحة 65، وتُظهر تارة لغة الحسم عندما يتعلق الأمر بطرد الالتباس وتقديم شهادة للتاريخ بشكل جازم، كما حصل أثناء الحديث عن « حقيقة علاقة المحجوبي أحرضان بجيش التحرير»، الصفحة 89، أو عند الحديث عن الحركة الشعبية في الصفحة 353، بل يستدعي الشهود في هذه النازلة لا ثبات المعطيات وفق منطق « وشهد شاهد من أهلها»، بيد أن لغة نفس الذاكرة تعترف طورا بالاستنكاف عن الفضح والتشهير بأسماء لمجرد أنها ذُكرت مرتبطة بشبهة ما، كما حصل في الصفحة 357.
يقود منطق التحليل السيميائي لمحمولات هذه اللغة ودلالتها إلى ادراك التقدير السياسي الذي يحكم بوح ذاكرة الفاعل السياسي، المحدد لمنحنيات الكشف والتمييز في سرد المعطيات. لذلك فالعنوان، كعتبة موجهة في قراءة الكتاب، قد يعكس تماهيا نتشويا في مستوى ما، بقدر ما قد يعبر عن نمط من الحكي محكوم بمحددات بصيغة الجمع حتى لا أحصرها في محدد واحد مفرد. ألم يشدد عبد الرحمان زكري في تقديمه على أن :” أهم من أعمال الرجل وانجازاته نفسها مهما تعددت وعظُمت، ثمة نهج سياسي، وثمة بالخصوص ملكة حدس، فطرية، يستند إليها ذلك النهج أكثر من أي تحليل”؟ّ

ثانيا: في المفرد المتعدد

حفرت أعمال السخرة والكُلف الضريبية وشم الممانعة والرفض لدى سي محمد بنسعيدأيتايدر منذ الصبا، وأججعنف فقيه المسيد في ظل انتفاء حنان الأم الرغبة في الرحيل مبكرا عن بيت العائلة.
هكذا تشكلت شخصية السي محمد بنسعيد ممهورة بتراكم تجارب وتلاقح مرجعيات وتقاطع مسارات واحتكاك مع شخصيات، جعلت مفرده مكثفا للتعددوقدمت عناصر إجابة على ما استشكلناه في التمهيد.
فالفقيه سي محمد بنسعيد ذو الثلاثة عشر ربيعا برصيد ثلاثة عشرة سلكة التحق بالمدرسة الشيشاوية لدراسة الفقه والنحو لمدة سنتين، قبل أن يشد الرحال مع بداية الحرب العالمية الثانية إلى مدرسة أبي عبد الله بنواحي إفني، في مؤشر على بداية الانعتاق من وصاية العائلة وتشكل الشخصية المستقلة. وهو المدبر الحكيم رفقة والده لرخص التموين عام البون، الذي عاش صدمة اللقاء مع الفونوغراف، والمتوجس من شيطان المصباح اليدوي. هو ذاته الفتى الذي تماهت لديه محنة الوطن مع محنة العائلة والقبيلة بعد أن اكتوت قبائل شتوكة آيت بها بلظى تداعيات حروب الاستعمار. الكاشف عن مصادر ثروة هذه العائلة، فيما يشبه التصريح بالممتلكات. الذي شد الرحال إلى مراكش حيث اللقاء مع المختار السوسي، الذي جلس منه مجلس الدرس.كان إلى حدود هذه اللحظة مُحصلا على تعليم ابتدائيمُمزغ لتبدأ فترة التعريب في مساره التعليمي خلال مرحلة الثانوي، التي ترافقت في شخصيته ببداية تشكل ثنائية مهيكلة للذات، يتعايش فيها التقليدي الأمازيغي بالمعرب الحداثي، قبل أن ينضاف لاحقا الضلع الثالث في باريس مع الحضارة الغربية.
يطرح السي محمد بنسعيد بوضوح لماذا اختار حزب الاستقلال وليس سواه من الأحزاب، ويجيب بنفس الوضوح والبساطة، قبل أن يكشف عن تشربه ليس فقط للعمل الوطني من الرائدين عبد الله إبراهيم والمهدي بنبركة بل لدروس التاريخ وعبره التي جعلت الماضي شارحا للحاضر، وتُشكل لديه إدراكا عميقا لدلالة «داء العطب قديم»، ولمركزية الوعي التاريخي في مواجهة المستعمر.
أشرت سنة 1951 على انبعاث زمان الوصل النضالي بين عاصمتي الشمال والجنوب، حينها تكلم الكلاوي لغة أزفل، وجرى الفرز والاصطفاف الأوليين الممهدين لحدث 20 غشت 1953. فيما كانت أنامل الشاب المتعلم المنحدر من أسرة ميسورة على موعد لأول مرة سنة 1952 مع البالة والفاس، في إطار أعمال السخرة تحت الإقامة الجبرية، بيد أن طائر الفنيق البدوي كان يستعد لأن ينبعث من تحت رماده، بعد أن عمل على تشبيك خلايا حزب الاستقلال بمنطقة شتوكة آيت باها، وصولا إلى آكادير، ليستمر موسم الهجرة إلى الشمال، الذي انتهى بالاعتقال لحظة الأوبة، والتهمة الاحتفال بعيد العرش.
بلغ السيل الزُبى إذن وانطلق ما أسماه الباحث المصطفى بوعزيز، في أطروحته حول الوطنيون المغاربة في القرن العشرين، بـ”المعقول”، أي الكفاح المسلح ومواجهة العنف بالعنف، فحسم السي محمد بنسعيد موقفه لصالح هذا “المعقول”، مستأنسا، مع رفاقه في نفس التوجه،بالتجربة التونسية معطوفة على الهام تجربة أحمد الحنصالي. وجرى ترسيخ «المعقول» بخلق الخلايا الموازية، والانتقال في أبريل سنة 1954 إلى سيدي إفني لهذا الغرض، ومنه إلى جيش التحرير بالشمال أواخر سنة 1955. ليقفل راجعا إلى الجنوب حيث كان على موعد مع دور ريادي داخل جيش التحرير بالجنوب، مما مكنه من إدراك مجريات أحداث كان فاعلا فيها أو شاهدا عليها، بكل ما رافقاها من تعقيدات ومناورات وتداعيات.
جاء الاستقلال وحلت معه مطبات البدايات، أو ما أسماه السي محمد بنسعيد بالفرص المهدورة . اختلفت التقديرات وتباعدت التوجهات وتنافرت الاختيارات وتنوعت التمردات، فكان على الوطن أن يدفع ثمن الفاتورات.
جرى الخروج إلى الجزائر يوم الثامن من دجنبر 1962، إثر حملة المضايقات واستشعار خطر الاختطاف، ومن الجزائر إلى فرنسا سنة 1967 في حالة إحباط تام، حيث بداية التفكير في الخروج من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية .طفح الكيل وطفحت معه الذاكرة وتعطلت عن تسجيل المعاش اليومي، وخيم الأرق وجثم السُهاد، وبعد التعافي السيكولوجيلاح اسم خالد عبد الله المغربي صاحب الجنسية الجزائرية المزورة، الذي احتفظ السي محمد بنسعيد بهويته ما بقي في فرنسا، قبل أن يخلعها بمجرد دخوله للمغرب سنة 1980.
في هذه الفترة ظهر الخيار السياسي الجديد، يقول عنه الأستاذ بنسعيد:» وما دامت العلاقة قد انفرطت مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إثر اللقاء الساخن مع قيادتها والفقيه البصري، فقد كان صف اليسار الجذري هو الموقع الذي يناسبنا أكثر”. وفي هذا الخيار الجديد تجسد أهم تمايز عن باقي مكونات اليسار الجذري في قضية الصحراء المغربية التي حملها السي بنسعيد وجدانيا وعقلانيا، فكشف المستور، وعرى الأطماع الثاوية خلف شعارات احتضان الانفصال باسم التحرر. قبل أن يبوح بخبايا تجربة أخرى عنت له الشيء الكثير، يتعلق الأمر بجريدة أنوال وطاقمها ورهاناتها ونضالاتها، وخاصة نهايتها الحزينة.
يستحضر تجربته البرلمانية وكيف عاش الحياة السياسية من داخل المؤسسات، وعن ما أسماه بالتناوب المزيف يحكي بمرارة، يقابلها استشراف أفق بتوحيد صفوف اليسار.
السي محمد بنسعيد الذي يعلنها صراحة: فلسطين هي البوصلة، لكنها بوصلة على ظهر سفينة تقاذفتها أمواج عاتية ومصالح ذاتية لدول وهيئات جعلتها عُرضة للتواطئات. هو ذاته المناضل الراديكالي، لكن المتوجس والنافر بل والناقم على خلط السياسة بالسلاح.
هذا المسار، أيتها السيادات والسادة، بمنعرجات هو منحدراته، بآماله وآلامه، بانتصاراته وانكساراته، وحده الشارح والشاهد على السي محمد بنسعيد الانسان الشريف النظيف العفيف، ووحده الكاشف عن سر انتقال الفاعل السياسي من حضرة السلكة إلى رحاب الحداثة.

(*) أستاذ التاريخ الاقتصادي والتاريخ الراهن، كلية الآداب عين الشق، الدار البيضاء


الكاتب : الطيب بياض (*)

  

بتاريخ : 30/03/2019