أبعاد الصراع والموت في مجموعة «قبّرات لا تهادنها الفخاخ» للطاهر لكنيزي

* إشراقة أولى: قال لي المبدع في دردشة بيننا؛ وقد أشرت إلى نهر الدماء وكثرة القتلى في المجموعة: « الموت هو نهاية أغلب الشخوص؛ وأعني بالقبرات : أشخاصا من الطبقة الكادحة ( حثالة الأرض)، فكل واحد منهم يتطلع إلى تغيير وضعيته الاجتماعية، ويحاول بكل الطرق أن ينجح في حياته، لكن هناك دائما فخاخ تترصدهم..
* إشراقة ثانية: «ليس النص بأطروحاته وبياناته، بل بما يتأسّس عليه ولا يقوله، بما يُضْمره ويَسْكُت عنه». والنص يَسْكُت ليس لأن مؤلفه ضنين بالحقيقة على غير أهلها، ولا بسبب تَقِيّتِه من سلطة يَخْشاها، ولا لغرض تربوي تعليمي يَرْمي إليه، بل لأن «النص لا يَنُصّ بطبيعته على المُراد، ولأن الدال لا يَدُلّ مباشرة على المدلول».هذا هو سرّ النص: «إن له صَمْتُه وفراغاته، وله زلاّته وأغراضه، وله ظلاله وأصْداؤه»..فهو لا يَأْتَمر بأَمْر المدلول ولا هو مُجَرّد خادم للمعنى. ومن هنا يتّصف النص بالخداع والمخاتلة ويُمارس آلياته في الحَجْب والمَحْو أو في الكَبْت والاسْتبعاد. باختصار: «للنص ألاعيبه السرية وإجراءاته الخفية» وهي ما يُمْكن تسميته «إستراتيجية الحَجْب»…. رشيد موعشي
واعتمادا على القولين السابقين، نرى أن مداخل قراءتنا للعمل ستستظل بخيمته الكبرى، وعنوانه الأوضح، ونقصد بذلك: العنوان البارز على وجه الغلاف، فهو الذي يحمل كثيرا من علامات الطريق، يسترشد بها القارئ لخوض غمار القراءة والقبض على مضمراته، ولعل أهم العناصر الملمح لها فيه، هي الصراع بين طرفين نقيضين، هما: الجمال والقبح، وفي خرق بناء الجملة من جهة، وتكرار اسم القبرات، وهي المفعول به، تسبيقا وإلحاقا، مع تأخير الفاعل، رغم سطوته، ما يمنحنا شرعية خوض الفعل، ومزية التأويل؛ ذلك أن التشكيل الجملي يشي بطرف خفي إلى قوة الجمال في دحر القبح، رغم ما يمتلكه هذا الأخير من مظاهر القوة، وعناصر التسلط. لا شك أن الفعل المنفي يحمل في طياته أبعاد هذا الصراع، إذ لا وجود في منطقه، وفي تصوره، لأي مهادنة، هي الحرب المستعرة بين الطرفين، لا تنتهي إلا بانتهاء أحدهما، والبادئ أظلم، لهذا، نجد وجاهة تسبيق القبرات، مرتين، ظاهرا وضميرا، وتأخير الفاعل، حتى إنه ليظن أن الفعل قد صار للقبرات لا إلى الفخاخ.
أما العنصر الثاني، وهو وليد العنصر الأول، وأحد أهم نتائجه، فهو القتل. فالملاحظ أن القصص مضمخة برائحة الدم، تكاد كل النصوص تستنشق عطره، إنه يلونها بحضوره القوي، كأنه يستعيد قصة الدم الأولى، قصة قابيل وهابيل، صراع أزلي ينتهي كل مرة بالقتل. ومن هنا نفهم سر حضور لون الغلاف، إذ هو قريب من لون الدم، خاصة حين يتخثر.
العنصر الثالث، ويدخل ضمن تركيبة الصراع، وأحد أبعاده الأساس، لا يمكن أن يستقيم من دونه، فهو: الخداع، ويشد أزره بالتحول، لكونه وجها له.
نحن أمام ثلاثة أقانيم متداخلة، تشبه مثلثا مرتبط الأضلاع، لا يمكن أن يتشكل بضلع واحد، وما عملية التفكيك إلا إجراء يراد به فهم المثلث والقبض على بعض من أبعاده، إنه فعل إجرائي فرضته الضرورة التحليلية.
* في معنى القبرات والفخاخ: قُبَّرةٌ عُصْفُورَةٌ مِنْ فَصِيلَةِ الْقُبَّرِيَّاتِ ، مِنْ رُتْبَةِ الْعُصْفُورِيَّاتِ ، تَكْسُو رِيشَهَا سُمْرَةٌ ، وَمِنْهَا نَوْعٌ يَتَمَيَّزُ بِبُقْعَةٍ سَوْدَاءَ عَلَى الصَّدْرِ ، وَعَلَى رَأْسِهَا رِيشٌ مُنْتَصِبٌ ، شَدِيدَةُ الْحَذَرِ ، وَتُعْرَفُ بِتَغْرِيدِهَا الدَّائِمِ فِي الْحُقُولِ./ فَخّ: ( اسم )الجمع : فِخاخ و فُخوخ، مِصْيَدة ، أداة ذات لولب تُصاد بها الطيور والقوارض، والحيوانات الثَّدييَّة الصَّغيرة خُدعَة أو طريقة ملتوية لوضع شخصٍ ما في أزمة أو خطر.
* في مفردات العنوان: من خلال قراءتنا لمفردات العنوان، يتبين أن هناك تشاكلا بينهما، فهما معا ينتميان للحقل الدلالي نفسه، فالعلاقة طردية بين الطرفين، فالعصافير تستدعي الفخاخ، ونصب الفخاخ لا يكون إلا للطرائد، ومنها القبرات. إذن، يحكم العلاقة بينهما الصراع، وأحد أطرافه بيّن وواضح، فيما الطرف الثاني يظل مستترا، إذ لا يمكن للفخاخ، وهي العنصر الجامد، أن تنصب نفسها بنفسها، ولا أن تقوم بالفعل إلا بواسطة يد تحركها، والتجربة تخبرنا أن الإنسان هو الفاعل الحقيقي، وصاحب النية المضمرة.
وإذا علمنا أن القبرات تمتلك من صفات الحسن الكثير، صورة وصوتا، أدركنا أن الفخاخ نية مبيتة للإيقاع بها، بغاية إسكاتها، ونزع حضورها من الوجود. مما يجعلنا نخلص إلى أن الصراع محتدم بين عنصرين متضادين، هما: القبح والجمال. فهل تشير النصوص جميعها، أو بعضها على الأقل، إلى هذا الصراع بين الطرفين؟ ونحن نقول الصراع لكون كلمة مهادنة المنفية توحي بذلك.
تجدر الإشارة إلى أن القبرات وهي تحمل تلك المعاني السامية التي ذكرت أعلاه، تمتلك بعدا آخر يصب في مجرى الدلالة العامة للنصوص، ألا وهي: الموت، فبتصحيف معين، يمكن الحصول على كلمة: قبر، وكأن القبرات، إضافة إلى كونها طيورا جميلة، فهي قبور لمعاني معينة، وشخصيات محددة.
* بعض الأسئلة المتعلقة بالصراع: ترى، ما الغاية من وراء هذا الصراع، أي ما الذي حركه حتى صار طرف القبح يسعى إلى محق طرف الجمال؟ ثم، هل تشير القبرات إلى تلك الطيور الجميلة، وبالتالي، يكون الصراع بين الإنساني والطبيعي أم تشير إلى الإنسان وترمز له، وبالتالي، يكون الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان؟
سنترك النصوص تجيبنا ، فبقراءتها تفاعليا، ستقدم لنا الإجابة بشكل ضمني. ولعل اللافت للانتباه تركيب جملة العنوان، حيث تم تقديم المفعول به على الفاعل الذي تم تأخيره، وكأنه بهذا الفعل، قد انتصر للجمال على حساب القبح، وانتصر للقيم الإنسانية النبيلة على غيرها السلبية. كما يقودنا تأمل العناوين إلى القول: إن المبدع حريص كل الحرص على سلامة التركيب، لا يخرقه عنوة ومن دون تريث ، بل يقوم بذلك بإدراك ووعي تامين. وهذا ما لاحظناه على العنوان الأم، ونراه بارزا في عنوانين اثنين، على سبيل التمثيل، وهما: «في البيت رجلان»، و»رقص بين السنابل».
* عن الصراع :اللافت للانتباه كون الصراع إما أنه بين طرفين داخليين تربط بينهما أواصر ما، كالزواج مثلا، وإما بين طرفين داخليين تجمع بينهما أواصر مكان ما كالوطن، مثلا، وتفرق بينهما المصالح. وقد يكون الصراع مع قوى خارجية قاهرة تروم الإخضاع بالقتل وسفك الدماء.
* من داخل المنزل :يقتحم السارد أسوار الأسر، يكشف العلاقات، ويبين أسباب التدهور الحاصل بين الأزواج، بعين نقدية غير مهادنة. لا يحمل طرفا كل السلبيات، ويطهر الثاني منها، بل يسعى إلى رصد البرودة بحياد، مظهرا أن الرجل كما المرأة، معنيان بما يحصل لهما، فالرجل يكون تارة سببا، وطورا تكون المرأة، وهذا لا يعني وقوف السارد عند الأمراض التي تقف وراء فشل الأسر ليخبرنا بعدم جدوى الزواج، بل يريد أن يظهر أن الأسرة لتكون متماسكة ينبغي أن يبنى فعل الزواج فيها على الحب والمودة، لا على المصالح، ولا يكون هذا إلا إذا تماسك أطراف العقد الاجتماعي، وأبعدوا عنهم الأهواء والمصالح، وساروا في طريق التعاضد، وفق رؤية موحدة، تشكل لحمة ضد أي تصدع محتمل. والأسر التي يكون بين أفرادها تماسك قوي تستطيع تجاوز المحن، بما فيها الموت، تلك هي قصة «نكوص» ص 56، فقد جمعت طموحات التغيير كل أفراد الأسرة، وصنعت لحمة قوية بينهم جعلتهم يتحدون الموت المتربص بهم. من هنا، نجد أن الأسرة المتضامنة، وفق قناعات جامعة، يمكنها العيش متحدية كل الإكراهات، بعكس المبنية على الطمع، والمصالح الشخصية الضيقة؛ «عرس الذئب» ص 4 و»وأد» ص 11، علما أن النصين معا يجتمعان حول موضوعة واحدة وهي العقم، هذا الموضوع الذي حرك إرادة الفراق، ودفع بالأطراف إلى حافة الإفلاس.
* من داخل الوطن :أكيد أن الصراع سيكون بين قوتين تهدفان إلى مشروعين مختلفين، قوة تريد التغيير وتنشده رغم ضعفها العددي، ورغم غياب أي سند من قوة مادية، بمعنى أنها عزلاء، وقوة تريد تثبيت الوضع، وتراهن على بقائه وجموده لأن في ذلك ديمومة مصلحتها، وترى في التغيير خطرا يتهددها، فتواجهه بالرصاص. ونص «نكوص» مثال واضح لمثل هذا الصراع.
* صراع مع عدو خارجي: ولعل هذا الصراع هو من أخطر الأنواع، لأنه يأتي من الخارج بواسطة قوة جبارة وظالمة، تتخذ في تدخلها ذرائع متباينة، والواضح أنها كلها حجج تدخل واهية، إذ الغرض المضمر هو السيطرة على خيرات البلدان المقتحمة، وبسط نفوذها عليها، وتسخيرها لصالحها. هذه القوة المدمرة توهم المجتمع الدولي بأن تدخلها من أجل إصلاح اختلالات المجتمع ، وإنقاذه من التسلط، وبناء الديمقراطية فيه، لكن النية هي غير ذلك تماما. ويكون الضحية في مثل هذه التدخلات العسكرية هم الأطفال والنساء والشيوخ. فنص «Go ! Go !Go ! » يهدف إلى فضح ممارسات القوى الظالمة من خلال شخصيتين دورهما هو تفريغ سلاحيهما في كل جسد حي، بعد أن تم تعبئة نفسيهما بإديولجية ماحقة، وفي اللحظة التي ستستيقظ روح النقد في أحدهما، ويستعيد وعيه المغيب حيث سيدرك مدى الفظاعات المرتكبة، يقوم زميله بإخراسه، لأن لا مجال لفسح الوعي لتلك الآلات الإنسانية التي برمجت على القتل، فانتقال الوعي إلى الجنود هو في حد ذاته بداية نهاية هذه القوى الجبارة والظالمة؛ لذا، تعمل على محو الذاكرة بإعادة برمجتها، وجعل الرصاص مستيقظا أبدا لإسكات أي ضمير يمكن أن يصحو.
والملاحظ أن حضور الموت كان بأشكال متعددة، فالقتل بالرصاص، والسلاح الأبيض، وبالخنق، في استعادة ذات منحى تناصي، لفعل عطيل، وهو يضغط بكل حب على عنق عشيقته، والحرق، والغرق، هذا، فضلا عن الموت الطبيعي. وهو ما يدفعنا إلى القول: إن الشخصيات تسير وفق برنامج سردي كتب لها منذ البداية، ولا يمكنها التمرد عليه، إنه برنامج شبيه بالقدر الذي لا راد له. إن الشخصيات تخدم غرض النص بعدم خروجها عليه، تخضع لقوته، خانعة مستسلمة. ويؤكد، في القوت ذاته، قول المبدع الوارد في الإشراقة الأولى.
* عن السارد: لعل ما يشد الانتباه في المجموعة كونها اعتمدت في جل نصوصها على سارد واحد لا غير، سوى في نصين حيث حضر ضمير المتكلم جمعا ومفردا، ورغم ذلك لعب الدور نفسه الذي لعبه السارد المهيمن، إنه سارد عالم بكل شيء كلي الحضور والمعرفة، يمسك بخيوط السرد ينسجها وفق رؤية واضحة المعالم بينة النهاية، إذ أن مجمل النصوص تنتهي نهاية درامية؛ أي بالموت، سواء أكان موتا ماديا وهو الغالب أم موتا معنويا كما في نص « «، حيث فقدت الزوجة زوجها وجمالها في الوقت نفسه، وترى حضوره المعنوي يملأ غرفتها فيزيدها ذلك إحساسا بالوحشة.
* شبح الخداع والتدليس :ما الذي يدعو الرجل إلى وضع عطر النساء؟ قد يكون الفعل بريئا لأنه لم يجد غيره، لكن الواقع أنه أراد بذلك خلق التباس لدى الناس، وإذا علمنا أنه في تنافر مع زوجته، جاز لنا القول: إنه يتسرب إلى مسامه عنصر النسوية كتعويض عن خيباته، إنه بذلك يعترف أنه السبب في عدم الإنجاب، فتلك الرائحة الأنثوية ما هي سوى رمز دال على عدم خصوبته، فالجانب الأنثوي غلب الجانب الذكوري لديه، ثم إنه بهذا السلوك قد أشار بشكل ضمني إلى نهايته المحتومة.
الأمر نفسه بالنسبة للموظف الذي جرب وصفة النضال فكان أن حصل على الطرد، سيعيد ترتيب حياته وفق نغمة الخداع والمكر للإيقاع بالزوجين اللذين يشغلانه، معتمدا العقد وسيلة للتفرقة، بيد أن مساعيه ستتكلل بالموت.
أما الغزو الخارجي بشكله السافر، فإن خداعه يكمن في المغيب والمسكوت عنه، ولابد من استحضار السياق لإخراجه من كمونه، إنها ورقة الديمقراطية وحقوق الإنسان، الورقتان المعتمدتان للغزو واستباحة الحرمات، والنص، إذ يصور المأساة، يستضمر النقد والفضح، وبالتالي، وضع القارئ أمام المفارقة الصارخة، بين المعلن والواقع.
* في النهاية المؤقتة :إن النصوص تسير بأحداثها إلى نهاية دموية تجعلنا نقول إن السارد يحركها وفق مسار خاص يعبر به عن رؤيته للعالم، رؤية تنتقد الظلم والجبروت، والضعف والانحناء والحربائية، وغير ذلك من الأعطاب والقيم السلبية، يسلب السارد الحياة من شخصيات في الغالب انتهازية ووصولية، أو أنها ضعيفة لا تمتلك أسباب رد الظلم.
المجموعة معطرة بأنفاس الشعر، تعتمد التصوير في بنائها، مما يحقق متعة للقارئ، ويقوي لحمة الشعري بالسردي، وقد تكون لنا وقفة مع هذا العنصر.


الكاتب : عبد الرحيم التدلاوي

  

بتاريخ : 16/02/2018

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *