أرملة عبد الرحيم بوعبيد تتحدث تاريخ عريض من نضال فقيد الاتحاد الكبير

أجرت جريدة «النشرة» بتاريخ 9 يناير 1994، حوارا مع نجاة بوزيد، أرملة الفقيد عبد الرحيم، حيث تحدثت عن علاقتها العميقة بالراحل، متوقفة عند بعض المحطات النضالية والمحن التي عاشها عبد الرحيم، وكانت فيها خير سند للفقيد كربة بيت ورفيقة كفاح وحياة.
في ما يلي ننشر بعض ما ورد في هذا الحوار الخاص بمسيرته النضالية..
هل كان المهدي بنبركة يتردد على بيتكم بسلا، وكيف كانت علاقته بكم، وكيف كنت تنظرين إلى علاقته بعبد الرحيم؟
كان المهدي رحمه لله كثير التردد على بيتنا بسلا، وكانت له مع عبد الرحيم مناقشات عاصفة، ولم أكن أعرف ما كان يدور بينهما، كانت صداقتهما عميقة وقوية إلا أنهما كانا يمثلان شخصيتين مختلفتين في الطباع، وأعتقد أن عبد الرحيم ربما كان يسعى إلى “تأطير” حماس المهدي وميله إلى اتخاذ مبادرات كان يعتبرها عبد الرحيم سابقة لأوانها.

بلاشك، تذكرين أسماء شخصيات أخرى، كانت تأتي إلى بيتكما ببطانة بسلا..

أذكر من هذه الشخصيات المعطي بوعبيد ومامون الطاهري ومحمد الطاهري وعبد لله ابراهيم والمحجوب بن الصديق والهاشمي بناني..

من هم رفاق عبد الرحيم في النضال الذين تحولوا إلى أصدقاء للعائلة؟

كان المهدي بنبركة يزورنا، ولكن لم يسبق لي أن زرت بيته، ولم أتعرف على زوجته إلا فيما بعد، أما الفقيه البصري فعندما كان معتقلا، كان أبناؤه وزوجته يقيمون معنا، وكنا كعائلة واحدة. وبحكم الاتصال المستمر بين عبد الرحيم ومحمد الحبابي، فقد تعرفت على زوجته، وأصبحت بيننا ألفة ومودة، وفي مرحلة أخرى، تعرفت على أسرة السي محمد اليازغي ونشأت بيننا روابط متينة.

وماذا عن علاقته الخاصة بمحمد الخامس طيب لله ثراه؟

كان عبد الرحيم يحمل تقديرا كبيرا لشخص محمد الخامس رحمه لله. وقبل أن يغادر عبد الرحيم العمل الحكومي، التقى بالملك في مونترو بسويسرا وأخبره بأنه يعتزم عقد قرانه، فأهداه محمد الخامس خاتما وقال له “هذا الخاتم هو لزوجتك”. وكان عبد الرحيم يقدر في محمد الخامس تواضعه واهتمامه بالإنصات إلى الآخرين. وكان محمد الخامس يستشير عبد الرحيم في أمور متعددة.

كيف كان البرنامج اليومي لعبد الرحيم عندما يبقى في البيت، وهل كان يمارس القراءة والكتابة منعزلا، أم يشتغل وسط أفراد العائلة؟

بعد تناول وجبة الفطور مباشرة، كان عبد الرحيم يأخذ معه الجرائد وينسل إلى فضائه الخاص وهو مكتبه، وهناك يستقبل زواره ويتناقش معهم وأحياناً يمتد النقاش إلى ساعات متأخرة، وكم انتظرنا طويلا نزوله لتناول الغذاء أو العشاء معنا.

نعلم أن آخر بيت عاش فيه عبد الرحيم هو المنزل الحالي الموجود بزنقة زرهون، كيف تم الانتقال إلى هذا المنزل، وكيف وفرتم لعبد الرحيم داخله فضاء خاصا منعزلا كما كان عليه الأمر سابقاً؟

أريد أن أعود بكم أولا إلى ظروف الانتقال إلى منزل أكدال، فقد كان قريبا من مكان عملي، فلاحظت أنه يبدو خاليا من السكان، فاستفسرت الحارس فأخبرني أنه مطروح للبيع فاستأذنته في دخوله، فإذا بي أجد عبد الرحيم يزور البيت بمعية سمسار، وكانت صدفة غريبة، إذ أننا لم نقرر عمليا الشروع في البحث عن شراء منزل وليس لدينا وسائل ذلك. في المساء، عندما التقينا بالبيت، قال لي عبد الرحيم بأن السيد العوفير هو الذي اتصل به هاتفيا واقترح عليه زيارة هذه الفيلا التي يملكها السيد الأبيض ويريد بيعها. ومرة أخرى، فإن مجموعة من الأصدقاء هم الذين بادروا بالاتصال بمالك الدار، ومارسوا ضغطا على عبد الرحيم لإنقاعه بشرائها، وقدموا التسبيق لمالكها واصطحبوا عبد الرحيم لإنجاز ملف القرض.
فعبد الرحيم عندما كان وزيرا طلب منه أصدقاؤه شراء أرض بالسويسي، وكان ثمن الأرض ستة دراهم للمتر المربع، ولكنه كان يرفض، ولهذا فقد وجد الأصدقاء صعوبة كبيرة في إقناعه مرة أخرى بشراء فيلا حي أكدال، ومنهم الحاكمي والشامي وآخرون.
بعد شراء الدار، طرح مشكل الرحيل، فكان عبد الرحيم يقول “المهم أننا اشترينا الدار”، ولا يهم متى سننتقل إليها، فانتظرت حتى سافر لباريس وأتيت بشاحنة ونقلت الأثاث ورتبت جميع الأشياء في البيت الجديد، لكنني تركت له مكتبه ليشرف بنفسه على نقل محتوياته إلى البيت الجديد.عندما انتظرته بالمطار، لاحظ بأنني لا أتجه بالسيارة إلى سلا ، فاستفسرني إلى أين أنت ذاهبة، فقلت له إلى بيتنا الجديد، وهنا أحسست كما لو أنه أصيب بصعق كهربائي، وأمضى وقتا طويلا يذرع المكان الجديد جيئة وذهابا بحثا عن الزاوية التي ستمثل فضاءه الخاص، وفي النهاية، بنينا له غرفة المكتب، إلا أن المشكل أن أحد الشباب كان يعمل عندنا وكان طيباً جداً وأراد في تقديره أن يهيىء لنا مفاجأة سعيدة، قام بجمع كتب عبد الرحيم ومحتويات مكتبه في بيت سلا وأتى بها في علب كبيرة، وكانت مصيبة حقا، إذ رغم انتقالنا إلى المنزل الثالث، ظل عبد الرحيم لمدى 15 سنة يردد “إن نجاة قد خلقت فوضى عارمة في ترتيب كتبي وأشيائي الخاصة”. كان عبد الرحيم يسافر كثيرا خارج الوطن، لكنه لا يمكث هناك طويلا، وجل الأحداث الهامة التي عرفها المغرب، وجدته داخل الوطن باستثناء أحداث يونيو 1981. وقد التحق بالمغرب في وقت كان بعض المراقبين يتصورون فيه أنه سيمدد إقامته بالخارج بسبب الأحداث..

كيف عشت مع عبد الرحيم بعض هذه الأحداث؟

عندما كانت البلاد تمر بظروف صعبة، كان عبد الرحيم يتأثر كثيرا، ويظهر ذلك جليا في حركاته وسكناته، وكان يرغب في العزلة في هذه اللحظات الحرجة، ويذهب إلى بيتنا بابن سليمان أو يركن إلى مكتبه وقتا طويلا ويضرب عن الطعام، فتصبح عملية إقناعه بتناول قليل من الحليب أو الجبن عملية صعبة. أثناء حدوث محاولة الانقلاب الأولى [حوادث الصخيرات] كان عبد الرحيم ينسق الدفاع عن المعتقلين في محاكمة مراكش، فيمضي هناك الأسبوع كله ويعود في آخر الأسبوع لزيارتنا، وفي اليوم الذي ستقع فيه الأحداث كنا بابن سليمان، وانتبه عبد الرحيم إلى الموسيقى العسكرية الآتية من مذياع صغير لبنت كانت تشتغل عندنا تحب تتبع الأخبار الرياضية، لم يكن لدينا مذياع كبير فأدخلنا السيارة وفتحنا مذياعها، وبعد أن تأكد عبد الرحيم من وقوع الأحداث، أمرنا بالرجوع فورا إلى الرباط.

وعلى ذكر محاكمة مراكش، كان عبد الرحيم قد أبرز مواهبه فيها كمحام كبير، لكن كيف كان عبد الرحيم يمارس المهنة؟ هل كانت بالنسبة إليه مجرد واجهة نضالية أم أداة حقيقية لكسب القوت وربما تنمية مداخيله؟

لم يكن عبد الرحيم مشغولا بتنمية مداخيله كثيرا، كان فقط يريد أن يضمن عيشه. وقد فتح مكتبه عام 1964 فيما اعتقد بالرباط، وظل في نفس المكان، وقد كان حائرا، ويقول لي” هل أفتح المكتب بالرباط أم بالقنيطرة أم بالدار البيضاء؟

لماذا القنيطرة؟

لا أدري، المهم في النهاية فتح المكتب بالرباط، وكان ذلك يرضيني، لأن عائلتي موجودة بالرباط.

كيف عشت مع عبد الرحيم ظروف اعتقاله في 1981؟

ما ألمني ليس هو الاعتقال في حد ذاته، ولكن الطريقة التي تم بها، وأذكر أن عبد الرحيم بعد أن حرر نص البيان الذي كان سببا في الاعتقال، قال لي “لا أدري ماذا ستكون نتائج هذا البيان”، وفي الغد ذهبنا إلى الشاطئ ثم عدنا في المساء، وكان يحمل لباسا خفيفا كعادته. كنا جميعا نشاهد التلفزة ونتهيأ للعشاء. لكنه أبدى عدم رغبته في الأكل ولم يتناول بيضة مسلوقة إلا بمشقة. رن جرس البيت في التاسعة ليلا، وجاءت البنت التي تشتغل عندنا لتقول له “اعزيزي هناك رجل يطلبك”، خرج عبد الرحيم حافي القدمين، فقلت للأولاد “اتبعوا آباكم” إذ كنت أحس أن شيئا ما سيقع، بمجرد ظهور عبد الرحيم بالباب، انقض عليه رجل بلباس مدني وأمسك به بقوة، وحاول شخصان كانا مختبئين خلف شجرة سوقه إلى سيارة عادية، وهنا تدخل أبنائي وأفراد العائلة الموجودون معنا ومنعوهم من التحرك، وطالبناهم بتقديم أمر حجة تثبت أن الأمر يتعلق برجال الشرطة، وقال لهم عبد الرحيم “مستعد أن اصطحبكم، لكن في سيارة رسمية للشرطة”. دخل الرجلان إلى بيت موجود بجوارنا كنا دائما نشتبه في أمره، بينما ظل الرجل الثالث ممسكا بعبد الرحيم بوحشية، وهو يصرخ “لدي أمر أن أظل ممسكا به ولا أخلي سبيله تحت أي اعتبار من الاعتبارات”. اتصلت بأفراد العائلة هاتفيا وبعدد من مسؤولي الحزب، فجاء رشيد بلا فريج وفتح لله ولعلو ومحمد الفاروقي والرجال الذين جاؤوا لاعتقال عبد الرحيم عندما سمعوا اسم الفاروقي رحمه لله، حسبوه الفرقاني فاعتقلوه هو الآخر. وبالرغم من توافد جمع من الناس ظل الرجل ممسكا بعبد الرحيم في مشهد يحز في النفس، وبقي الأمر كذلك حتى الساعة الحادية عشرة ليلا، حيث جاءت سيارات رسمية للشرطة ونقل عبد الرحيم، على متن إحداها فتبعناهم حتى دخلوا لمبنى الكوميسارية المركزية بالرباط. بعد المحاكمة، كيف كانت تتم الزيارة بسجن لعلو ثم بميسور؟ كنا نجد صعوبة كبيرة في الحصول على الإذن بالزيارة، وكان وقت الزيارة محدودا، وفي ظروف سيئة للغاية، وعندما نقل إلى ميسور مع رفاقه، لم نكن نعرف مكانهم لمدة 15 يوما، وكنا نأخذ السيارات ونبحث عنهم وفي إحدى المرات وصلنا إلى ميسور، ولم نكن نعرف مكان تواجدهم فاتجهنا إلى جهة أخرى لمواصلة البحث، إلى أن أخطرنا رسميا بمكان اعتقالهم وسمح لنا بزيارتهم وكانت الزيارة مضنية، إذ كنا ننطلق على الساعة الرابعة صباحا وكنا نزورهم مرة في الأسبوع. كان عبد الرحيم خلال فترة الاعتقال يكتب، ويعمل على تطوير معرفته باللغة الاسبانية.

بالمناسبة ماذا كانت علاقة عبد الرحيم بالكتابة؟

بالنسبة إلى خطبه، كان في الأغلب يضع على ورقة مجموعة النقط التي سيتطرق إليها بدون أن يحرر نص الكلمة أو الخطاب وأحيانا كان يكتب أشياء ولا ينشرها.

نريد أن نعرف الاخت نجاة كيف عشت اللحظات الأخيرة مع عبد الرحيم؟

عبد الرحيم توفي في السادسة صباحا وفي التاسعة ليلا لليوم السابق جاءه بعض الأصدقاء من بينهم السيد احمد الشرقاوي فباغتهم بالسؤال عن أشياء تهم الوضع بالبلاد، وهكذا بقي منشغلا بمصير البلاد إلى آخر حياته، وظل محتفظا بانتباهه ومستوى حصافته وعمق تحليله، كان يعرف بأن أجله أزف، ولكنه كان يتمنى ألا يعذب معه أحدا وألا يكون عبئا على أي كان.

الحشد الهائل من المغاربة الذين شيعوا عبد الرحيم إلى مثواه الأخير، جاؤوا ليؤكدوا أن هذا الرجل كان يحب وطنه، وأن دقة الأوضاع التي تعيشها البلاد تتطلب رجالا من هذه الطينة، ماذا كان شعورك وأنت تلمسين هذا الاعتراف بعد كل المحن والجهد والنضال الطويل لعبد الرحيم والذي تحملت أيضا جزءا من تبعاته؟

إن حجم الجنازة يملأ النفس بالارتياح. ففي النهاية وقع تكريم عبد الرحيم بما يليق بعظمة إخلاصه وعمله لصالح وطنه، وهو الرجل الذي لم يتمتع بالحياة والذي مات مرتاح الضمير بعد أن أدى واجبه كاملا ووفى بالتزاماته إزاء الآخرين، في الأوقات التي تكون هناك مصاعب أو مشاكل في الحزب أو في البلاد كان يقول لنا “إني أؤدي واجبي ولا يهم أن يعترف لي الآخرون بذلك، إنني لست نادما واعتبر دائما أنني خلقت للمتاعب “أنا مديور لتمارة” .كان عبد الرحيم رجل الأخلاق والتسامح ولكنه كان أيضا “جماعا للشمل” يبحث دائما عن إمكانيات التوفيق والتقريب بين وجهات النظر وبين الأشخاص حتى داخل العائلة، إذا كان هناك مشكل بين الأفراد كان يتدخل لتهدئة النفوس وربط خيوط الصلة بين المتنازعين وإعادة المياه إلى مجاريها.


بتاريخ : 09/01/2019

أخبار مرتبطة

كشف مرصد العمل الحكومي عن فشل الحكومة في محاربة الفساد والاحتكار، وعدم العمل على الحد من تداعيات الأزمة الاقتصادية على

  تحت شعار «بالعلم والمعرفة نبني الوطن»، تم زوال يوم الاثنين 22 أبريل 2024 ، افتتاح أشغال المؤتمر 21  ل»اتحاد المعلمين

يعود ملف ممتلكات الدارالبيضاء ليطفو من جديد على سطح الأحداث، خاصة وأن المدينة تتهيأ لاستقبال حدثين مهمين على المستوى القاري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *